(2) تابع ..
أسباب السقوط في ” مقدمة ابن خلدون”
والصراعات السياسية لا بدّ لها من نزعةٍ قَبليّة أو دينية لكي يُحفِّزَ قادتُها أتباعهم على القتال والموت ، فيتخيّلون أنّهم يموتون من أجلها . والظفر في الحروب إنما يقع بأمور نفسانية وهمية ، وإن كان السلاح والقتال كفيلاً به ، لذلك كان الخداع من أنفع ما يُستعمَل في الحرب ويُظفَر به . والنَّاسُ في السَّكينةِ سَواء ، فإن جَاءتِ المِحَنُ تَبايَنُوا .
وقد يحصل أنّ الدولة تأخذ بمظاهر القوة والبطش لكنّها إفاقة قريبة الخمود ، وهي أشبه بالسراج عند انتهاء الزيت منه ، فإنّه يتوهّج لكنه سرعان ما ينطفئ . وإذا دخلت الدولة في سِنّ اليأس لا تعودُ لشبابها أبداً مهما حاول حُكّامُها التغيير ، فلكلّ زمانٍ دولةٌ ورِجال . وقبل أن تنهار الدول يكثر المنجّمون والأفّاكون والمتفيهقون والانتهازيون وتعمّ الإشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوّش الفكر . وحينما يَنعُم الحاكمُ بالتَرفِ والنِعمة ، تلك الأمور تستقطب له ثلّةً من المرتزقين والوصوليين فيحجبونه عن الشعب ، ويوصلون له من الأخبار أكذبها . والشعوب المقهورة تسوء أخلاقها حتماً ، ويُظهِر الشعبُ الولاءَ للحاكم ويُبطِنُ له الكرهَ والبغضاء ، فإذا نزلت به نازلة أسلموه ولا يبالون . وإذا تأذّن الله بانقراض المُلْكِ من أمّة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها ، وهذا ما حدث في الأندلس وأدّى فيما أدّى إلى ضياعه . وإذا رأيتَ الدول تنقص من أطرافها ، وحكّامها يكنزون الأموال فدُقَّ ناقوسَ الخطر . وكلّ أمرٍ تُحمَل عليه الكافة حَمْلاً (كرهاً) فلا بُد له من العصبية (القبيلة والنصرة) وفي الحديث الشريف :
“ما بَعثَ اللهُ نبيّاً إلا في مَنَعةٍ من قومه” .
إنَّ أيّام الأمنِ وأيام الرَّغد تمضي سريعاً ، وإنَّ أيّامَ الجوعِ وأيّامَ الحروبِ والفتن تكون طويلة .
وانتشار الفساد يدفع بعامّة الشعب إلى مهاوي الفقر والعجز عن تأمين مقتضيات العيش ، وبداية لشَرخٍ يؤدّي إلى انهيار الدولة . ولأن غاية العمران هي الحضارة والترف ، فإنه إذا بلغ العمرانُ غايتَه انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم ، كالأعمار الطبيعية للحيوانات . ومن أهمّ شروط العمران سَدّ حاجة العيش والأمن :
“أطعمَهُم من جوعٍ وآمَنهُم من خوف” .
ولا يقعُ الظلم إلا من أهل القدرة والسلطان . فإذا عَمّ الفساد في الدولة فإنّ أولى مراحل الإصلاح في الدولة هي الفوضى . وكلما فقد الناس ثقتهم بالقضاء تزداد حالة الفوضى ، والفوضى أولى علامات الإصلاح ، فالقضاء هو عقل الشعب ومتى فقدوه فقدوا عقولهم .
أما الحاشية والأمراء فلا يتركون غنيّاً في البلاد إلا وزاحموه في ماله وأملاكه ، مُستظلّين بحُكمِ سلطانٍ من صنعتهم ، ولا تستقيم رعيّةٌ في حالة كفرٍ أو إيمان بلا عدلٍ قائمٍ أو ترتيبٍ للأمور يُشبه العدل . والعدلُ إذا دام عَمَّر ، والظُلمُ إذا تفشّى دَمَّر . وإذا كانت النفس على حال الاعتدال في قبول الخبر ، أعطته حقَّه من التمحيص والنظر حتى يتبين صدقه من كذبه ، وإذا خامرها تَشيّعٌ لرأي أو نِحلة قَبِلَتْ ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة ، وكان ذلك المَيْلُ والتشيّع غِطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص ، فتقع في قبول الكذب ونقله . واعلم أن فَنَّ التاريخ فَنٌّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية ، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم ، والأنبياء في سِيَرِهم ، والملوكِ في دُوَلِهم وسياستهم حتى تتمَّ فائدةُ الإقتداء . وإن الاجتماع الإنساني ضروري لأن الانسان مدني بالطبع ، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية . ومن العجز عن استكمال وجوده وحياته ، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبداً بطبعه . أما العصبية فهي نزعة طبيعية في البشر مُذْ كانوا ، ومن هذا الباب الولاءُ والحِلفُ ، إذْ أن نصرة كل أحدٍ من أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس في اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجهٍ من وجوه النَسب ، وذلك لأجل اللُحمة الحاصلة من الولاء . والغاية التي تجري إليها العصبية هي المُلْك . ذلك أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب ، والغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه ، فلا بد في الرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة . وإن من أهم عوائق المُلْك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم . لأن عوائق المُلْكِ المُذلِّة للقبيل والانقياد إلى سواهم . لأن المُلكَ إذا ذهب عن بعض الشعوب من أُمّة فلا بد من عَودِهِ إلى شعبٍ آخر منها ما دامت لهم العصبية” .