(التنمية) والصراع على الهوية ..
د.علي أحمد جديد
رغم أن دول العالم (الثالث) وكياناته قد اتخذت من ” التنمية ” شعاراً تسعى الحكومات إلى تحقيقه وتطبيقه ، إلا أنها تبقى متأخرة -إن لم نقل متخلّفة- عن غيرها من دول العالم سواء في القارات التي عرفت حقيقة ما تعنيه التنمية لمجتمعاتها (أوروبا أو أمريكا وآسيا) ، لأن أنظمة دول العالم الثالث تتعمد أن تبقى بعيدة تماماً عن توظيف إمكاناتها المادية والفكرية في تحقيق التنمية المنشودة أو حتى المُعلنَة ، إذ لايمكن للتنمية أن تتحقق في ظلّ ازدياد تفشي الفساد الحكومي والمتسلط وتحت مظلة قوانين تحمي المفسد والفاسد ، لأن الفساد اليوم بات القاعدة الوحيدة للتشبث بكراسي الحكم عبر إنشاء واستنساخ شبكات متخصصة ومحترفة في اجتراح أساليب الفساد وصور الإفساد ونهب المال العام على حساب الأغلبية الساحقة من الشعوب . كما لايمكن تحقيق تنمية حقيقية إلا بتوظيف الإرادات الصادقة مقترنة بالعلم وبالتكنولوجيا توظيفاً يتواءم مع الفهم العلمي العميق لتاريخ وحضارة كل أمة من الأمم ودراسة واقعها الحاضر و وعي التحديات التي تواجهها للانطلاق السليم نحو مستقبل واعد بالسلام الذي يتمناه المخلصون .
يقول (دانيال كولار) في كتابه -العلاقات الدولية- :
” لن يكون هناك سلام حقيقي في العالم دون تنمية حقيقية ” ..
كما يقول الدكتور (عبد الخالق عبد الله) في كتابه
– التخلف: مسبباته ، طبيعته وطرق إزالته – :
” تظل الفجوة العميقة بين الدول الأوروبية الصناعية وبين دول العالم الثالث التابعة والمتخلفة هي إحدى أهم التحديات التي تواجه العالم وتستأثر باهتمام المتخصصين بقضايا التنمية ” ..
إذ أن أغلب حكومات العالم الثالث ترفع شعارات ثورية (كاذبة) للتنمية بينما تُبقي – عن سابق تصميم – شعوبها تتوغل في واقع مؤلم من التخلف والفقر .. وحتى المجاعة . ولن يعرف العالم سلاماً حقيقياً ودائماً إلا بعد تحقيق التنمية وتوظيف العلم والتكنولوجيا بعيداً عن الشعارات الثورية والإيديولوجيا الطوباوية غير القابلة للتحقيق .
ولأن العالم اليوم متنوع وشديد التعقيد ويحتاج إلى فهمه فهماً علمياً في اقتصادياته وحضاراته وتاريخه من خلال تعاون بين جميع المدارس النظرية وفروع الدراسات الانسانية المتحررة من التوجهات الطائفية والمذهبية وحتى من الإيديولوجيات المتطرفة حتى تتسنى الإحاطة بمكونات العالم الحقيقية التي يجب أن تبدأ بالإنسان كمقدمات وتنتهي بالإنسان والإنسانية كنتائج .
ولأن النظام العالمي القائم اليوم هو تجسيد لارتباطات الدول والمنظمات الدولية والشركات متعددة الجنسيات والتي تتصارع فيما بينها صراعاً لاتخبو حدته في الوقت الذي تخرج فيه بعضها بل أكثرها عن إرادة ماهو معروف بتسمية (المجتمع الدولي) وتعم الفوضى في العالم كله وهي تدّعي حرصها على التعاون والالتزام بالقوانين الدولية والإنسانية ، وأقرب الأمثلة الحية هو ماحصل في غزو العراق بداية القرن الحالي ، وفوضى الإرهاب التي اجتاحت العالم وماتزال نتيجة ذلك .
هذا النظام العالمي يبدو جلياً اليوم بأنه نظام على غير مايُظهِرونه ، وهو غير متكامل ويفتقد أبسط أسس التعاون بين أطرافه لبسط قواعد السلام .
ويقول (دانيال كولار) :
” إن السلطة في المجتمع الدولي اليوم هي سلطة غير مُقيَّدة وتقوم على تغذية العنف ، ولا تتوانى دولة في هذا المجتمع الدولي عن العمل بكل وسيلة كانت ، أخلاقية أو غير أخلاقية ، للدفاع عن نفسها وعن مصالحها الوطنية في سبيل تحقيق العدالة التي تناسبها وبعيداً عن أي تعاون قد يكبح من وصولها إلى ماتبتغيه ” .
هذا النظام العالمي اليوم يتأرجح بين التعاون حيناً وبين التوتر في أغلب الأحيان ، ولم يشهد العالم منذ بدء التاريخ البشري توتراً كالذي نعيش تفاصيله اليوم ، وذلك بسبب التناقض الصارخ في بنية النظام العالمي نفسه والذي أوجدته العوامل التاريخية المختلفة بين الأمم و الشعوب التي ساهمت في تشكيله وفي تطوره . ورغم ما يبدو للدارسين بأن تجربة الحرب العالمية الأولى قد ساعدت على تأسيس (عصبة الأمم) في ذلك الحين وكانت أول منظمة دولية تهتم بشؤون نشر السلام في العالم ككل ، وليس بين الدول التي خاضت الحرب وحسب ، وكان ذلك ناجحاً لفترة تاريخية قصيرة ، واستطاعت هذه المنظمة إحلال السلام إلى حين . ولكن ذلك لم يدم طويلاً ، إذْ اتضح أن النظام العالمي الذي كان سائداً وقتها قد أصيب بانهيار شامل أدى إلى نشوب (الحرب العالمية الثانية) والتي كانت أكثر دماراً من الأولى ، وراح ضحيتها مايقارب الخمسين مليون ضحية بشرية عدا الخسائر المادية والعمرانية الهائلة .
ومع نهاية (الحرب العالمية الثانية) كانت هناك آمال ببناء عالم يسوده السلام الشامل والدائم بعد تأسيس (هيئة الأمم المتحدة) وفيها (مجلس الأمن الدولي) المعني بالحفاظ على السلام والأمن الدوليين !! لكن الواقع أظهر أن كميات الأسلحة في العالم تضاعفت ومازالت تتضاعف بالكمية وبالنوعية التدميرية والقاتلة ، وازداد الصراع تجذراً والعنف قوة حتى بلغ العالم اليوم حَدَّ الرعب النووي .
هذا التوتر الذي يزداد تعقيداً منذ أوائل القرن العشرين الماضي وبتأثير ملحوظ من الايديولوجيات المتناقضة في مقاصدها والمتصارعة في مصالحها جعلت من الحروب الدولية التي يجب أن تكون محدودة في مجالاتها وجغرافيتها تبدو وكأنها تتحول إلى حروب عالمية شاملة – كما هي الحرب الأوكرانية – الروسية – وصار العالم كتلة متأججة من الصراعات ومن العلاقات المتشابكة والمتأزمة ، حتى صار أمر فهم (النظام العالمي) الحالي في غاية الأهمية ، وبات يتعدى الغايات الأكاديمية والمعرفية البحتة ، لأن استمرار الحياة البشرية وازدهارها يتوقفان على فهم طبيعة هذا (النظام العالمي) السائد وفهم آليات مصالحه وصراعاته ، وباتت البشرية كلها معنية بدراسته وبمعرفة القوانين والقوى التي يمكن أن تتحكم في تطوره ، ولأن فهمه يتضمن بالأساس وعي قضاياه الإنسانية والثقافية التاريخية والمصيرية .
وكما يبدو اليوم ، فإن دراسة (النظام العالمي) باتت تعاني صعوبات بالغة وغير محدودة وتتطلب الإحاطة بمعارف موسوعية لطبيعة العلوم الإنسانية وثقافات الشعوب كافة والتي تحتويها جميع النظريات والمدارس الفكرية بمضامينها ومناهجها مهما كانت متناقضة .
وتتمثل المشكلة الأساس في الخلاف حول الاعتراف بوجود(نظام عالمي) بأطرٍ مادية فعلية وحقيقية ، ذلك لأن البعض من المفكرين يؤكدون على وجودٍ مادي فعلي وملموس للنظام في العالم اليوم ، بينما ينفي آخرون وجود هذا النظام ويرفضون إمكانية دراسته دراسة تحليلية .
ويقول (باتريك مورغان) :
” لا أحد يستطيع أن يثبت وجود نظام عالمي شامل رغم الاعتقاد بوجوده والتحدث عنه كما لو أنه موجود فعلاً ، ويتوهم التخصص في دراسته . وإن التنظير حول موضوع ما يتطلب افتراض أن هذا الموضوع يتضمن قدراً من التنظيم والانتظام والاستمرارية . ورغم أن زعماء العالم يتصرفون بناء على افتراض وجود بعضٍ من الانتظام والاستقرار في العلاقات الدولية ، لكنهم أيضاً على اقتناع بأن العالم من حولهم هو عالم غير مستقر وعشوائي ” .
وخلافاً لما يراه (باتريك مورغان) فإن رأي الثنائي (دويرتي وفالتزافراف) يقول :
” بالطبع هناك وجود فعلي ملموس للنظام العالمي ، وهذا النظام هو عبارة عن تفاعل وتداخل الوحدات القومية والدولية التي تتأثر وتؤثر في بعضها البعض ” .
وهنا ، يمكن اختصار (النظام العالمي) الحالي في أربعة آراء عامة يتمحور مضمونها في الإلمام بصورة (النظام العالمي) الموجود اليوم وهي كالتالي :
1 – النظرة الواقعية :
وتفترض أن القضية الجوهرية التي تشغل كل دولة من دول العالم هي قضية الحفاظ على أمنها القومي وعلى ثقافتها وتاريخها كأمّة وعلى سيادتها واستقلالها الوطني ، وتعمل على بناء قوّتها الذاتية واستغلال الظروف المناسبة لاستكمال أسس عظمتها ، وكثير من هذه الدول تدفعها العظمة المَرَضية إلى بسط نفوذها وفرض تأثيرها وحتى السيطرة المطلقة على غيرها من الدول الأضعف لينجم عن ذلك الصراعات والحروب التي لاتنتهي ، ويكون العنف والفوضى من أبرز ملامح (النظام العالمي) .
2 – النظرة المسلكية :
وهي التي تركّز على تطورات النظام العالمي والتي يتضح فيها فقدان أنظمة الدول لأهميتها ولدَورها المؤثر في علاقاتها الإقليمية والدولية وتكون في موضع المتأثر نتيجة هيمنة الدول الحليفة و المنظمات الدولية والهيئات المتعددة على استقلالية قرارها ، ويبدو فيها أن (الدولة) لم تعد الوحدة المحورية في (النظام الدولي) ، لأن الدور الرئيس فيها قد تحول إلى الحلفاء والمنظمات والهيئات غير الحكومية التي تتحكم في مسلكيات الدول ، وزادت من اعتمادها على بعضها البعض ليبدو (النظام العالمي) كوحدة مترابطة على جميع الأصعدة والمستويات علمياً واقتصادياً وبالتالي ثقافياً متأثراً بصورة تطغى على أصالة ثقافتها وتميزها .
3 – النظرة المثالية :
وفيها يبرز السعي إلى الدعوة للتعاون بين الدول على أساس التزامها بالقوانين الدولية والإنسانية الأخلاقية ، والتمسك بقواعد (المجتمع الدولي) في تطوير علاقاتها الودية والسلمية التي تقوم على الاحترام المتبادل وعلى المصالح المشتركة ليكون (النظام العالمي) نظاماً واقعياً وتشاركياً يبعد أشباح الحروب والصراعات ويقلل من تكاليف التسلح والالتفات إلى ترسيخ مبادئ التنمية والسلام .
4 – نظرة التبعية :
وهي التي تؤكد على أن أبرز سمات (النظام العالمي) الحالي هي سمات الهيمنة المطلقة والتي تمارسها (الدول العظمى) على اختلاف توصيفاتها وايديولوجياتها لتجعل من الدول مجرد تنظيمات تابعة ، ويظهر فيها انقسام العالم (بنيويا) إلى نوعين من الدول :
* – الأول وهي الدول المُهيمِنة والتي تكون في مركز (النظام العالمي) كالدول الصناعية والنووية المتقدمة .
* – الثاني وهي الدول التابعة والواقعة على هوامش (النظام العالمي) لأنها دول متخلفة صناعياً وتنموياً وتقنياً نتيجة تخليها الكامل عن ثقافتها التاريخية وعن حضارتها الإنسانية أو نتيجة تمسكها الأعمى بتاريخها الغابر إلى درجة أنها تعيش فيه ولا ترى أي أفق خارج إطاره المحيط .
ولايمكن فهم العالم و(النظام العالمي) دون فهم تلك التبعية المطلقة والهيمنة القائمة ، ودراستها دراسة علمية ومنطقية لإيجاد الحلول وأساليب التحرر الإنساني ليكون (النظام العالمي) نظاماً عادلاً دون هيمنة ودون تبعية .
ومن خلال الاطلاع على تلك الآراء بنظراتها المختلفة يتضح أن العالم اليوم بات عالماً شديد التعقيد ومتعدد المظاهر والسمات ، كما أنه عالم مليء بالصراعات وبالأزمات والحروب التي تفتقد الحدَّ الأدنى من التعاون لحلّها وللتخلص حتى الجزئي منها .
ولأن صراعات العالم اليوم غير متناهية وتزداد تعقيداً يشمل كل مناحي الحياة البشرية ، فإنه لم يعد بالإمكان فهم الحياة نفسها دون فهم صراعات العالم بكل أبعادها وفهم الأزمات المحورية التي باتت خطورتها تهدد الوجود البشري على الأرض .