تفشي “الفساد” العمود الفقري
لتحقيق نظرية (شيمون بيريز)
” الشرق الأوسط الجديد ”
د.علي أحمد جديد
يقوم الصراع الدولي اليوم على عنوانين اثنين ، هما أمن الطاقة ، ورسم خطوط التجارة الدولية لتأمين سلاسة الإمداد والتوريد ، وإن الاندفاعة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة مازالت تسعى جاهدة في البحث عن بدائل للغاز الروسي في منظومة أمن الطاقة الأوروبية بعد الحرب الروسية – الأوكرانية ، وكذلك البحث عن بدائل للصين في منظومة الإمداد ، وهي المنظومة التي لا يكون فيها لدول الخليج إلا الدور والموقع الجغرافي وقوة الطاقة في رسم خرائط الإقليم دون تجاوزه ، فيما تتبقى وظيفة منظومة (محور المقاومة) في منطقة الشرق الأوسط ، تحقيق إنجازاتها وانتصاراتها بتفكيك خطط ومؤامرات الغرب الاستعماري وإفشالها ، رغم المزيد من الفقر وتعمد الإفقار ونشر الفساد والانهيار ، والتهجير القسري أو الإرادي الذي يؤدي حكماً إلى تشظي المجتمعات بأخلاقياتها المتوارَثَة ، وتفسخها وانفراط عِقد الوحدة الوطنية للدولة القُطرية الواحدة ، وتغييب الفكر القومي عملياً وواقعياً ، للانصراف عن الالتزام بالقضية العربية المركزية (فلسطين) بعد الانتهاء من تمييع هوية الصيغة التعايشية التي كانت قائمة بامتياز منذ آلاف السنين .. وتنصيب نظم العسكر الاستبدادية ، كما في السودان ، ونُخَب المجتمعات التافهة ، الحاملة في توجهاتها بذور برجوازيات صغيرة حالمة – عبر التدليس والكذب والاستزلام – للوصول إلى جنان الحكم وإلى نعيم السلطة والتسلط .
لقد تكامل وأنتج خطاب النظم الحاكمة في لبنان وفلسطين والعراق والسودان ظروف البدء بالعمل على ضرورة إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية لبلدان شكّلت لفترات زمنية طويلة ومنذ خمسينيات القرن الماضي “حالة قومية” في سورية والعراق ومصر ، وتبعتهم ليبيا فيما بعد ، وعملت بأقصى الجهود على تفكيك وحلِّ أزمات مجتمعية واقتصادية ودينية وسياسية من الداخل ، فاكتمل نضوج بذرة التغيير للتخفيف من وطأة القهر والظلم والاستبداد الاستعماري الممارَس بأيدٍ محليةٍ خانعة وتابعة ، ولم تتوقف المؤامرات الإقليمية والخارجية لتحويل المنطقة إلى محميات فيدرالية للمجتمعات يُسمِّيها البعض “لا مركزيات موسعة” تخفيفاً لصدمة الواقع ، لكنها في حقيقة الأمر تقسيمٌ فيدراليٌّ مبرمج وممنهج في نظرية الصهيوني (شيمون بيريز) التي كانت باسم “الشرق الاوسط الجديد” بمظهر ائتلافي وبصيغة جديدة للعيش والتعايش بقيادة صهيونية تحت شعار (حفظ أمن الشعوب) والتي ، في الحقيقة ، تخسر مقدراتها وخيراتها كضريبة واجبة .
لن تقبل السلطة الحاكمة في لبنان – مثلاً – بأحزابها ومجمعاتها الطائفية والمذهبية ذهاب مَن تورَط وسرق المال العام ومال الشعب إلى المحاسبة أو المساءلة ، لفرض سيادة القانون على الجميع ، لأنها بذلك تصنع نعشها بأيديها وتُساق إلى (مذبحة) المحاسبة والمساءلة ، وترى أنه من الأسهل تقديم عروض ومغريات الانصياع للخارج الباحث عن تشكيل مصادر الطاقة والغذاء حسب مصالحه .
وبسبب التسلط والاستبداد العنفي الذي سيمارَس من قبل النظم الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط ، كما هو مرسوم له ، ستترهل القبضة الأمنية للدولة الشرعية وتتعثر التنمية بعد أن تتكلس مفاصل الدولة نتيجة الاستزلام واستشراء الفساد والمحسوبيات .
وسورية التي تشكّل تاريخياً وحضارياً ذلك العمق الإستراتيجي لمفهوم الدولة القومية في محيطها الإقليمي ، فقد بدأت تنتفض فيها حيتان الاقتصاد وضباع المافيات المحلية والدولية بعد أن عملت على توفير مظلتها الواقية من القوانين الخاصة لتحمي الإفساد والمفسدين في سعيهم لإفشال أي نتيجة تحفظ البلد وكرامة الشعب الذي كان مع الجيش العربي السوري عنوان النصر والصمود في حرب أسطورية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ، وإحباط أي خطوة يمكن أن تعيد سورية إلى دورها السيادي والمؤثر إقليمياً وعالمياً . وبسبب زيادة ضغط الحصار والإفقار والتجويع الذي تمارسه طبقة المفسدين وعصابات الفساد المستحدثة في الداخل السوري تمهيداً للوصول إلى ضعف سلطة المقاومة وإرادة الصمود ، وتقوية استبداد الفساد والإفساد ، لإنجاح محاولات دفع السلطة إلى اتباع نهج المكابرة على الإعتراف باستعصاء التغيير ، كي تلجأ إلى إطلاق سلطة فئوية مسلحة تتناسب مع كل نطاق جغرافي ، توازي سلطة الدولة ، فتعيث تلك الفئات تخريباً ودماراً وسرقة ونهباً حتى تتوزاى سلطاتها ، بل وتتفوق ، على الدولة وعلى الشرعية ، لتحقيق حلم التقسيم الجغرافي ، بعد أن تمَّ تحديد الخريطة الاقتصادية الجغرافية داخل الدولة وكعكة التقسيم ( حقل العمر النفطي في سورية وغيره – جنوب السودان ، واليوم دارفور وكارفور ) بعد فرط العقد الاجتماعي الذي يحمي التعايش الحضاري الطويل .
هذا التجميد لحلول أزمات المنطقة في العراق وسورية ولبنان واليمن وفلسطين ، ينتظر ظهور وتفعيل حدثين كبيرين على مستوى الشرق الأوسط ، الأول هو المتعلق بتنفيذ اتفاقية الممر الاقتصادي الذي تم اعتماده في قمة العشرين في (نيودلهي) والذي يربط آسيا بأوروبا عبر الشرق ودول الخليج ، ووضع (الهند) كقاعدة إنتاج ذهبية منخفضة الكلفة مقابل الصين التي قطعت أشواطاً في بناء طريق الحرير (الحزام والطريق) كخطٍ موازٍ ومواجِهٍ اقتصادياً ، كذلك إعادة تفعيل مبادرة السلام (العربية) التي طرحتها السعودية عام 2002 ، ليضمن الأمريكي موقف الرياض الثابت تجاه التطبيع مع الكيان الإسرائيلي على قاعدة البدء ببناء تسويات وتثبيت الاستقرار الإقليمي ، ومنه تكرُّ سبحة التسويات في المنطقة والمربوطة حكماً بدرجة قاعدة الإنتاج والعلاقات الاقتصادية الدولية الجديدة المتشكَّلة .
الرئيس الأمريكي (جو بايدن) وإدارته اليوم في وضعية الاستنفار الكامل والمتخفز لاستكمال طروحاته حول الشرق الأوسط الجديد ) منذ أن كان نائباً للرئيس (باراك أوباما) الذي عمل على رسم خرائط “الشرق الأوسط” ضمن ترتيبات تلائم علاقات الإنتاج العالمية الجديدة التي تتطلب القيام “بالضم ، والفرز ، والتقسيم ، والتعديل” على حدود الدول وفصل المكونات السكانية بما يتلاءم مع الولاءات الجديدة والتعديلات في أنظمة الحكم تحت المظلة “الصهيو – أمريكية” ، لأن التحوُّلات بدأت تعصف اليوم بالشرق الأوسط وترسم الخطوط العريضة لمستقبله ومصير كياناته السياسية وموارده الاقتصادية . وهو ما مهدت له وتمهد له نظم الحكم في تفشي الفساد الذي بات مهيمناً في مجتمعات الشرق الأوسط والذي سيؤدي إلى التفريط بمكانة وسيادة الدولة ذات البعد القومي وبشكلها الحالي .. أما لناحية النجاح أو الفشل فتلك مسألة تعود إلى قوة موازين القوى الدولية المفروزة في فرض التسويات في الإقليم ، وكذلك التجمعات الإقليمية الوازنة كمجلس التعاون الخليجي الذي يتصور بأنه قد حجز مكانته الخاصة في إعادة ترتيب النظام الدولي الإقليمي وقوة كل جهة في تعزيز مكانتها الجديدة ومصالحها الاقتصادية عبر التطبيع العلني أو السرّي مع الكيان المحتل . وحسب الرؤية الامريكية لأزمة العراق ولملف الأكراد ومعهما الصراع العربي – الصهيوني التي يريد إعادة تسويقها لتحقيق إنجازات قبل انتهاء ولايته الحالية . والرئيس الأمريكي (بايدن) هو متبني الفكرة التي نشرتها مجلة الصهيونية العالمية (كوفينيم) عن تقسيم العراق إلى نظام كونفدرالي بثلاثة رؤوس (شيعي- سنّي- كردي) .
وفي الملف الفلسطيني ، فإن الرئيس (جو بايدن) يؤيد فكرة قيام دويلة فلسطينية ، مع تقديم الضمانات لإسرائيل حول حدودها وأمنها ومواردها ، ومن الواضح اليوم أنّ الشرق الأوسط سيشهد غلياناً في اتجاه التحوّلات التي تعمل عليها واشنطن في اليمن أولاً وفي العراق ومن بعده سورية ولبنان والمناطق الفلسطينية ودول الشمال الأفريقي ، حيث هناك اعتماد سياسة تدعيمية لعلاقات واشنطن بالقوى الإقليمية الفاعلة ومن هنا العمل على محاولة الاستيعاب الأمريكي للجمهورية الإسلامية الإيرانية ، والمحاولة قدر الإمكان إبعاد المنطقة عن النفوذ الصيني الذي يجتاح الشرق الأوسط وأفريقيا .
ولهذا فإن إدارة (بايدن) تعمل على تدعيم علاقات الولايات المتحدة بالقوى الإقليمية الفاعلة ، بما فيها إيران بهدف احتوائها جميعاً في محور واحد ، وإبعاد المنطقة عن النفوذ الصيني الذي يتَقدّم بخطوات سريعة في السنوات الأخيرة .
والواضح اليوم ، فإن “الشرق الأوسط” يواجه تطورات سياسية وعسكرية واقتصادية على صفيح ساخن ، حيث يتفاوض الكل مع الكل لتحقيق المكاسب وإبرام الصفقات ، وبالنتيجة ، فإن الأقوياء هم الذين سيتقاسمون الحصص ويرسمون مستقبل الكيانات الضعيفة ، والتي عملوا مجتمعين على إضعافها واغراقها في أزمات بلا أفق تحت مسميات متعددة من “الصداقة والتحالف ومكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية” وغيرها الكثير الكثير ، وبالتأكيد فإن العراق وسورية ولبنان ضمن القائمة الرئيسية لهذه الحصص والتقسيمات والترسيمات .
” وإن غداً لناظره قريب ” ..