قراءة أولية في نتائج
“الربيع العربي” ..
د.علي أحمد جديد
التوقف عند العنوان “الربيع العربي” يعود بالذاكرة إلى العام 1968 “ربيع براغ” وهو ذلك اليوم الذي لمع فيه اسم “الكسندر دوبتشيك” حين حاول إطلاق حركة شعبية في تشكوسلوكيا ضد النظام الشيوعي القائم ، وتدخلت قوات (حلف وارسو) ليهرب (الكسندر دوبتشيك) ولينتهي الربيع ويختفي اسمه وتزغرد كل الأحزاب الشيوعية العربية احتفالاً بنهاية “ربيع براغ” بهراوة القمع الشيوعي والسوفييتي ويُتهَم (دوبتشيك) بالعمالة للغرب وللصهيو – أمريكيين ومخابراتهما وينسحب تعبير “الربيع” من التداول السياسي العام في العالم كله ..
ويدور الزمن دورته مع مطلع التسعينات وتتساقط الانظمة مع سقوط الاتحاد السوفييتي فيما كان يعرف بأوروبا الشرقية ، ويعود مصطلح “ربيع براغ” للتداول بشكل أوسع وينشط الرفاق “الشيوعيون” العرب بالكتابة وبالحديث عن المؤامرة الكبرى للرأسمالية والامبريالية واستفراد إمبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية بحكم العالم ، إذ لم يكن في فضاء الأحزاب العربية منذ تأسيسها الأول وجود توصيف “الربيع” لأي حراك سياسي ، ولم تَرِد الكلمة في قاموس أي حزب عربي كون الأحزاب محكومة ببنية وإيديولوجية راديكالية / اجتثاثية اسمتها “ثورية” والثورات في غالب مسيرتها التاريخية كانت دموية أو ما شابه وذلك منذ الثورة الفرنسية مروراً بالبلشفية وصولاً إلى الحرب الكونية على سورية والتي اصطبغت “ثورتها” بالدم أو الموت وشكلت فيها التنظيملت المتأسلمة فرق الإعدامات “الثورية” لقطع الرؤوس وانتزاع أكباد جنود الجيش العربي السوري ، تذكيراً بمقصلة “روبسبير” الفرنسي التي ذهبت وخلّفت وراءها المقولة المشهورة “الثورة تأكل ابناءها” . وإذا كانت أوروبا قد تجاوزت الثورات الدموية واخترعت تعبير “الربيع العربي” فإن ما جرى في سورية وفي اليمن وفي مصر وليبيا لا يمكن احتسابه ربيعاً بأي مقياس من المقاييس لأن شعاراته كانت مجرد استعارات من قاموس الغرب الاستعماري ، حيث كانت تلك الشعارات الاجتثاثية واضحة من “ارحلوا .. الشعب يريد إسقاط النظام” وهي شعارات ألغت كل المكوّنات المجتمعية الاخرى وبما ينبئ عن استعداد ذهني للاجتثاث بكل أشكاله وأساليبه ، والذي ما يزال مستمراً حتى اليوم في اختيار عناوين الاجتثاثية في حراك لا يمكن فهمه ولا يمكن قراءته في سياق تسمية “الربيع” ، وينذر بذهنية خريفية تتساقط معها كل الأوراق على خلفية إيديولوجيات تأسست وتشكلت بعيداً عن مفهوم الديمقراطية الحضارية المعروفة ، وهي ذات بنية ذهنية وفكرية مختلفة كل الاختلاف عن البنية التي رفعت أول ما رفعت شعار “ارحلوا” ذلك الشعار الذي أثار الرعب والخوف لما يحمله من دلالات عنف إجرامي لا يرحم ، وكانت الانقلابات الأكثر دموية في التاريخ كما حدث في ليبيا . وبات من الواضح تماماً أن تسمية “الربيع العربي” غربية المصدر ولا يمكن أن تنطبق على مكوّنات مجتمعاتنا لا فكرياً ولا ثقافياً ، ولا حتى سياسياً كونها مبنية على خلفية فكرة اجتثاث الأنظمة وتفكيك نظام الدولة تمهيداً لنشر الفوضى والوصول إلى التقسيم ، ولم يكن أي حراك ضمن مصطلح الربيع الذي سيحمل ازدهاراً وأزهاراً ، وإنما كانت تسمية “الربيع” جزءاً من خريف فكرٍ عربي سياسي مشحون بالقتل و بالصدام لا بالوئام ، وكانت نتيجتها الانشطار المجتمعي والتشظي بين شعارات مستعارة لا تعبّر تاريخ المنطقة وحضارتها ، وبين واقع مسلكيات وذهنيات وإيديولوجيات محكومة بأفكار وبشعارات مستعارة . وبذلك كانت أهم المفارقات لثورات ما أطلقوا عليه تسمية “الربيع العربي” هي إتاحة الفرصة لدمج الكيان الإسرائيلي كشريك استراتيجي أمني لكل من مصر والأردن ولمجلس التعاون الخليجي كله وبلا استثناء وفرض الكيان المحتل كحليف متميز ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، وذلك ما رآه الباحث الفرنسي (دومينيك موازي) معلِّلاً ذلك بعدم إمكانية الجيوش العربية على خوض حربين في الوقت نفسه فيما بين بعضهم البعض ، وضد الكيان الإسرائيلي ، وبصورة خاصة مع احتدام الحرب الكونية على سورية والتي أراد لها مخططوها الإقليميين والعالميين أن تكون حرباً أهلية وطائفية تزيد من تشظية تعايش المجتمع السوري وعودة نظام الدولة البوليسية الذي عمل الرئيس السوري الدكتور (بشار حافظ الأسد) منذ لحظة توليه مسؤولية الحكم على محو آثاره .
وكما كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية الرابح الوحيد الواضح من الحرب الخليجية – الأمريكية على العراق ، والتي أدت إلى سقوط نظام صدّام حسين عام 2003 ، فقد أسفر التدخل العسكري الذي قادته الولايات المتحدة إلى إضعاف الأنظمة التي تلتحف برداء التأسلم السُنّي في الشرق الأوسط (حلفاء أميركا التقليديين) ، وتعزيز قوة العدو الرئيسي لأميركا في المنطقة ، الجمهورية الإسلامية وبشكل ظاهر بعد العدوان الصهيوني على المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان وبروز ( حلف المقاومة ) الذي بدأ بين كل من “المقاومة الإسلامية الإيرانية ، و الجمهورية العربية السورية و الجمهورية الإسلامية الإيرانية” ، والذي أعلنت في حينه وزيرة الخارجية الأمريكية عن إطلاق ماقالت عنه “الفوضى الخلّاقة” في استهداف المجتمعات العربية والإسلامية بطريقة البرتوكولات الصهيونية المعروفة (تهديم المجتمعات بأيدي أبنائها) .
وربما سنشهد في المنطقة نتيجة أخرى لا تخلو من مفارقات مفاجئة . ففي الوقت الحاضر على الأقل ونظراً لِما يجري في غزّة من الإبادة والتهجير وصمت الشعارات العربية والإسلامية على حدٍّ سواء يتضح الأمر بأن “إسرائيل” كانت الرابح الوحيد الواضح من ثورات “الربيع العربي” . وقد يعترض أغلب الإسرائيليين بشدة على هذا التفسير بعد أن أصبحت بيئتهم الإقليمية أكثر ميلاً إلى عدم الاستقرار ، ولم يعد من الممكن التنبؤ بما تحمله الأيام من المفاجآت ، خاصة بعد أن اعترض نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي (القبة الحديدية) صاروخاً أطلِق من سيناء يستهدف ميناء إيلات .
وخلافاً للمخططات المرسومة والمأمولة لم تعد أية من الحدود “الإسرائيلية” الآن آمنة وخاصة الحدود الطويلة مع مصر . كما لم يعد من الممكن التسليم بأي تحالف ضمني كأمر مفروغ منه . فكل السيناريوهات باتت مفتوحة وتطرح التساؤل الأهم لكل دول العالم “هل من الممكن أن تظل إسرائيل واحة للاستقرار والأمن والحداثة والنمو الاقتصادي في مثل هذه البيئة المتقلبة” !!..
. فبعد أن كانت “إسرائيل” تروِّج لإغراءات اعتبارها “سفينة نوح” العصر الحديث صارت “تل أبيب” هجيناً من (سان فرانسيسكو وسنغافورة وساو باولو) ، ولكنها لا تزال تقع على مسافة أقل من 300 كيلومتراً من قلب محور المقاومة في (دمشق) . رغم أن مايراه الواقعيون أن “إسرائيل” لابد أن تظل في حالة تأهب قصوى من أجل الحد من المخاطر التي تواجهها ، وأن اليوم لم يعد مناسباً للخيال والجرأة في ظل الصمود الأسطةري والعجائبي للشعب الفلسطيني في غزَّة . والحديث عن استئناف عملية السلام مع السلطة الفلسطينية من غير الممكن أن يكون أكثر من مجرد ورقة توت . ولأن “إسرائيل” لا تستطيع ببساطة أن تتجاهل الأميركيين الذين يتهيأون لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة .
ولكن قراءة الخطط المرسومة للوضع في الشرق الأوسط ككل تختلف تماماً عن هذا الواقع الحالي . فما بدأ كثورة بمفهوم القرن الثامن عشر تحول اليوم إلى حروب دينية كالتي اجتاحت أوروبا من عام 1524 إلى عام 1648، والتي ألبت الكاثوليك والبروتستانت بعضهم على بعض على نفس النحو الذي نراه بين السُنّة والشيعة اليوم . ورغم أنه
قد يختلف البعض مع هذا التفسير الأوروبي الخالص ، ولكن الأمر الواضح هو أن الشرق الأوسط (المسلم) سوف يكون مشغولاً للغاية بصراعات داخلية تمنعه أكثر من الانشغال بالفلسطينيين أو من ارتكابات “إسرائيل” في الإبادة والتهجير . وتراجعت فكرة التفرقة بين اليهود وبين المسيحيين بالضرورة إلى “المقعد الخلفي” باستثناء الحال في سورية واليمن ، خاصة بعد انكشاف حالات التعاون الواضح مع “إسرائيل” . ولأن النظام الأردني ، مثلاً ، يكافح من أجل البقاء في بيئة باتت تعج بالتحديات ، وأنه يحتاج إلى التعاون الأمني مع إسرائيل لضمان بقائه والإدّعاء بأن القوات الإسرائيلية والأردنية تعملان معاً لتأمين حدودهما ضد تسلل الجهاديين من العراق أو من سورية ، في حين تتقاسم مصر وإسرائيل نفس الهدف في سيناء والذي يتطور باستعداد مصر لاستقبال المهجرين من غزّة حسب المخططات المرسومة .
وبالتالي فإن المفارقة التي تنطوي عليها الثورات العربية تتخلص في أنها أسهمت في دمج “إسرائيل” كشريك استراتيجي في رسم مستقبل المنطقة . وعند هذه النقطة، فإن أرواح العرب التي أزهقت في الحرب على سورية وتجاوز فيها عدد الضحايا كل ارقام الحروب العربية الإسرائيلية مجتمعة ، وذلك كما يراه الباحث الفرنسي (دومينيك موازي) .
وبطبيعة الحال ، لا ينبغي استخلاص الاستنتاجات الخاطئة من هذا . فربما كانت “إسرائيل” فعلاً ، وأكثر من أي وقت مضى، شريكاً استراتيجياً رئيسياً للكثير من الأنظمة العربية ، أو حليفاً يفرضه الأمر الواقع ضد إيران (كما هي الحال بالنسبة للمملكة السعودية). ولكن هذا لا يعني أن الشعوب ستستسلم ، وعلى الأقل من الناحية العاطفية لاستمرار الوجود “الإسرائيلي” بينهم .
كما لا يعني هذا أن “إسرائيل” تستطيع أن تفعل ما تريد متى شاءت وحيث تشاء وتستخدم الاضطرابات في المنطقة كمبرر لحل الصراع مع الفلسطينيين بالطريقة الأمريكية مع الهنود الحمر . إن الظروف الحالية ، وبرغم كونها محيرة ومربكة ، فإنها من الممكن أن تكون نافذة تفتح على الفرصة والأمل الذي يجسده صمود الشعب الفلسطيني في غزة اليوم وفي بذل التضحيات الجسام ، وذلك رغم المستنقع العربي غير القادر على تهيئة الظروف الملائمة للسلام والمصالحة بين الإسرائيليين والفلسطينيين . ولكنه قد يكون سبباً في تحويل “الهدنة الاستراتيجية” التي يفضلها العديد من الحكام العرب إلى البديل الوحيد الذي يمكن تصوره . فمن غير الممكن أن يخوض العرب حرباً فيما بينهم وحرباً ضد إسرائيل في نفس الوقت . وإن الأحداث الفوضوية التي تتكشف في منطقة الشرق الأوسط سوف تعمل على تغيير نهج وتصورات أطراف النزاع . ولن تكون الاعتبارات القصيرة الأجل كافية . وهذا يعني عدم استغلال فرصة العجز العربي اليوم لبناء المزيد من المستوطنات على الأراضي الفلسطينية ، أو لإبادة وتهجير الشعب الفلسطيني في غزّة او توسيع المستوطنات القائمة ، وهو مايبدو أن حكومة “بنيامين نتنياهو” عازمة على الاستمرار به . ويمكن أن تكون “إسرائيل” الرابح الحالي من “فورات” الربيع العربي ولكنها بالتأكيد لم تقرأ التاريخ الحضاري لشعب المنطقة الذي سيملي عليها في القريب أن تترك ماتعتبره (غنائم النصر) على الأرض .