شاعرُ الخَمر (أبو النواس) ..
د.علي أحمد جديد
هو الحسنُ بنُ هانئ بن الصباح ، ويُكّنى باسم (أبو نوّاس) وهو أحدُ أهمّ شعراءِ العصرِ العباسيّ الأوّل . وُلِد في الأهوازِ في (إيران) ولم تتّفق المصادر التاريخية على تحديد تاريخِ ولادتِه ، حيث ذكرت بعضُ المصادرِ أنّه وُلِد في عام مائةٍ وواحدٍ وأربعين للهجرة ، كما ذكرَ بعضُها أنّه وُلِد في عام مائةٍ وخمسةٍ وأربعين . أمّا نشأتُه فكانت في البصرةِ حيثُ انتقلَ إليها وشبَّ فيها مع والدِه الذي كان من أصلٍ عربيّ دمشقيّ وهو من أمٍّ فارسيّةِ ، ولمّاتُوفِّيَ والدُه أرسلته أمُّه إلى عطّارٍ في أسواقِ البصرة ليعملَ عندَه ، ومن هناك انطلقَ (أبو النواس) إلى مجالسِ الأدبِ .
بدأ أبو نواس بمجالسةِ أهلِ العِلم جنباً إلى جنب مع عملِه عند العطّار في البصرة ، وكان ممّن تردّدَ على مجالسِهم الراويةُ (عمرو بن العلاء) الذي عَلّمه اللُّغةَ ، وضروبَ العلمِ . ثمّ بدأ بمخالطةِ مُجّان البصرة ذلك العصرِ أمثال( والبةَ بن الحباب ، وخلف الأحمر ، ومطيع بن إياس)، وسار على نهجِهم في التهتُّك والمُجونِ . كما أنّه أخذَ عنهم التُّراثَ العربيَّ ، والفارسيَّ ، وقِيلَ إنّه كان قد درسَ القرآن وعالحديث في البصرة ، وإنّه قضى ما يقاربُ السنةَ في الصحراءِ يتعلّمُ من البدوِ مشقة الحياة و قواعدَ اللُّغة الصحيحةِ . وعندما مرَّ (الوالبةُ بن الحباب) بمحلِّ العطارةِ الذي كان يعملُ فيه أبو نوّاس في البصرة ، ورأى أبا النواس وقد ظهرَت ملامحُ الفِطنة والذكاء في وجهِه ، فسأله عن اسمِه وتعرَّف إليه ليصطحبَه معه إلى الكوفة ِ، ومنها إلى بغدادَ . وقد فرِحَ (أبو نوّاس) بصحبَة “الوالبة ابنِ الحباب” لِما علِمَ عنه من شُهرةٍ في نَظمِ الشِّعر ، وقال إنّ أحلامه ، وما تصبو إليه نفسُه قد بدأت تتحقَّقُ .
ولما وصلَ (أبو نوّاس) إلى بغدادَ ، بدأ يختلِطُ بالبرامكة ، وبآلِ الربيع ، وتمكّنن من مَدحِ (هارون الرشيد) ، ولم يلبَث الرشيد إلّا أن زجّ به في السجن لأنّه هجا قريشاً في قصيدة له .
وكان خلالَ إقامتِه مع (هارون الرشيد) قد تعلَّق ببعضٍ من جواري القصرِ الجميلات اللواتي كانت له معهنَّ قصصٌ كثيرةٌ وأشهرها قصته مع جاريةٍ اسمُها (جنان) . كما كانت له طرائفُ عدّة مع الخليفةِ (هارون الرشيدِ) نفسِه ، ومع زوجتِه وابنهما الأمين ، ورغم كل ذلك ، لم يُحقِّق (ابو نواس) نجاحاً كبيراً في بلاطِ الرشيد ، حيث إنّه فور إطلاق يراحه من السجن انتقلَ إلى مصرَ ولازمَ واليها (الخصيب) يمدحَه ، لكنّه لم يلبث عندَه فترةً طويلةً حتى غادرَه ، وهجاه أيضاً ، وعادَ إلى بغدادَ التي كان يشتاقُ إلى مجالسِها ، وإلى حياةِ المجونِ فيها .
وفي عهدِ (الأمينِ بنِ هارون الرشيد) رجعَ (أبو نوّاس) إليه يلازمُه وينظم لهَ الشِّعر . إلّا أنّ هذه العلاقةَ لم تدُم طويلاً حيثُ سجنَه (الأمين) أيضاً فترةً من الزمنِ بسببِ خلافٍ شَبّ بينَه وبينَ (المأمونِ) .
وقد عُرِفَ شِعر (أبي نوّاس) بألفاظِه الجديدةِ التي تُظهِر روحَ الدُّعابةِ والطرافةِ ، علاوةً على الرقّةِ والجمالِ . وكان يُظهِرُ المجون جليّاً في شِعرِه ، كما كان يُظهِر حالَ بيئتِه بكل مافيها من استهتارٍ في ارتكابِ المعاصي حتى يمكنُ القولُ بأنّ شعرَه بيَّن النظرةَ الساخرةَ له ، وعكسَ حياتَه التي أمضاها يسعى خلفَ المتعةِ فقط .
تُوفِّيَ أبو نوّاس سنةَ مائة وتسعة وتسعين للهجرة عن عُمرٍ يناهزُ أربعةً وخمسين عاماً – كما وردَ في أغلبِ المصادرِ التاريخيّة – وقد كانت وفاتُه في بغدادَ لكنّه في السنةِ الأخيرةِ من حياتِه تابَ إلى الله – سبحانه وتعالى – وتوقّف عن ارتكاب المعاصي . وقد أظهرَ توبتَه عن اللهو ، والمعاصي في شِعرِه ، ومنه ما قال :
دَبَّ فيَّ السِّقامُ سُفلاً وعُلـوّا
وأراني أموتُ عُضواً فعُضوا
لهفُ نفسي على ليالٍ وأيا
مٍ تــجـاوزتــهنَّ لـعْبـاً ولـهوا
وأسأنا كلّ الإساءةِ إلى ربِّنا
صفحَاً عَنّا إلهي و عفوا
وقد أكَّدَ بعض المؤرخين توبته قبل موته .
بعد أن اكتفى (أبو نواس) من الكوفة رحل إلى البصرة ليتعرّف على (خلف الأحمر) الذي طلب منه أن يحفظ العدد الكبير من القصائد والأراجيز ، ثم ينساها بعد ذلك ليحفظ كمّاً جديداً من القصائد والأراجيز ، وبعد أن مارس الحفظ والنسيان لفترة ، وصارَ قادراً على نظم الشعر ، ارتحل إلى بغداد واتصل بالخليفة (هارون الرشيد) فمدحه مُركّزاً على المعاني الدينية وعلى مديح إنجازاته ، ثم انتقل بمديحه إلى البرامكة ، الأمر الذي أغضب (هارون الرشيد) ، فخاف (أبو نواس) على نفسه وهرب إلى مصر ليمدح واليها (الخصيب بن عبد الحميد العجمي) .
وعاد (أبو نواس) إلى بغداد بعد وفاة (هارون الرشيد) وتولّي ابنه (الأمين) الخلافة والذي كان صديقاً قديماً لأبي نواس ، فاتّصل به (أبو نواس) فور عودته إلى بغداد ، ومدحه . إلا أنّ خصوم (الأمين) كانوا يأخذون عليه مرافقة شاعرٍ سيّء نديماً له، ويُشهّرون بالأمر على المنابر وذلك ما أجبرَ (الأمين) على حبس أبي نواس . وقد حاول وزير (الأمين) أن يشفع له ليخرجه من السجن ، إلا أن ذلك حصل بعد محاولات عديدة وطويلة ، ولما توفّي (الأمين) رثاه الشاعر (أبو نواس) بقصائد بيّنت صدق عاطفته نحو (الأمين) وقوّتها .
وقد عُرفت حياة (أبو نواس) باللهو والمجون، وهذا يظهر جليّاً في شعره الذي خصص جزءاً كبيراً منه في وصف الخمر إلى جانب غَزَله الدائم بجارية كانت تسمى (جنان) كان يهيم بها ، ونظم لها الكثير من أشعاره ، إلّا أن أكثر ما قاله المؤرخون فيه أنّه تاب في آخر سنواته ، وظهر واضحاً في شعره ، ويروي المؤرخون أن أبا نواس قال لصديقه :
– إن الله قد غفر لي ..
فقال صديقه متعجباً :
– وكيف غفر لك ومعروف بأنك أنت شاعر الخمر والمجون ؟!..
قال أبو نواس :
– بأبياتٍ قد كتبتها له .
ولما مات (أبو نواس) وجدوا تحت فراشه رقعة كتب عليها هذه الأبيات التالية التي يقول فيها :
يا ربّ إنْ عظُمَتْ ذنوبي كثرةً
فلقد علمتُ بأن عفوَكَ أعظـمُ
إنْ كان لا يدعوكَ إلا مُحسِـنٌ
فمن الذي يرجو ويدعو المجرِمُ
أدعوكَ رَبِّ كما أمرتَ تضرّعاً
فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحـمُ
ما لي إليكَ وسيلةٌ إلا الـرّجـا
وجميلُ عفوِكَ ثمّ أني مُسـلـمُ
أما وفاته فقد اختلفت الآراء فيها ، إذْ قال البعض أنّه توفّي في السجن ، بينما قال آخرون أنه نزلَ في بيت (إسماعيل بن نوبخت) الذي دسّ له السُمَّ ليتخلّصَ من لسانه السليط .
كما تناول (أبو نواس) في شعره معظم الأغراض الشعرية ، من المديح والهجاء ، والرثاء ، والعتاب .. والغَزَل ، إلا أنّه تميّز بوصف الخمر حتّى لُقّب بلقب (شاعر الخمر) . أما شعره فقد تميّز بسهولة الألفاظ ، ولين العبارات ، وبخفّة التركيب :
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ
ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ
صَفراءُ لا تَنْزلُ الأحزانُ سَاحَتها
لَوْ مَسّها حَجَرٌ مَسّتْهُ سَرّاءُ
مِنْ كفٍّ ذات حِرٍ في زيّ ذي ذكرٍ
لَها مُحِبّانِ لُوطيٌّ وَزَنّاءُ
َقامْت بِإبْريقِها ، والليلُ مُعْتَكِرٌ
فَلاحَ مِنْ وَجْهِها في البَيتِ لألاءُ
فأرْسلَتْ مِنْ فَم الإبْريق صافيَةً
كأنَّما أخذَها بالعينِ إغفاءُ
َرقَّتْ عَنِ الماء حتى ما يلائمُها
لَطافَةً وَجَفا عَنْ شَكلِها الماءُ
فلَوْ مَزَجْتَ بها نُوراً لَمَازَجَها
حتى تَوَلدَ أنْوارٌ وأَضواءُ
دارتْ على فِتْيَةٍ دانَ الزمانُ لهمْ
فَما يُصيبُهُمُ إلاّ بِما شاؤوا
لتِلكَ أَبْكِي ، ولا أبكي لمنزلةٍ
كانتْ تَحُلُّ بها هندٌ وأسماءُ
حاشى لِدُرَّة َ أن تُبْنَى الخيامُ لها
وَأنْ تَرُوحَ عَلَيْها الإبْلُ وَالشّاءُ
فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ فلسفةً
حفِظْتَ شَيئاً وغابَتْ عنك أشياءُ