المجتمعات بين النزاهة و الفساد ..
د.علي أحمد جديد
معروف أن (النزاهة) عكس (الفساد) الذي يحصل نتيجة سوء استخدام الإدارة أوالوظيفة ، وذلك عن طريق وضع أسس وقواعد تعمل على ترسيخ مبادئ السلوكيات العالية ، واتباع الأخلاق الحميدة في ممارسات العمل التي تحقق الأهداف الإيجابية جراء تطبيق القوانين وقواعد ومبادئ النزاهة .
وتعتبر النزاهة والشفافية أساس كل عمل ، لأنهما مبدآن أساسيان في الحفاظ على سلامة سير العمل ضدَّ أي شكل من أشكال الفساد الذي ينعكس سلباً على هياكل المجتمع ونظامه الوظيفي ، الأمر الذي قد يسبب بلبلة وخللاً في المنظومة الاجتماعية ، كما يؤثر على وضع الاقتصاد المجتمعي ككل بسبب الضرر الذي يعصف بالموارد المالية .
أما الشفافية فإنها تعني أن يتم استبعاد وإزالة أي تشكيك أو خداع أو غموض ، واستبدالها بالوضوح الذي يعطي الحق للمواطن في معرفة المعلومات والاطلاع على البيانات فيما يخص عملية اتخاذ القرار وسَنِّ القوانين والتشريعات . وتكون الشفافية بوضع المبادئ والمقاييس التي تعزّز الوضوح وسهولة الفهم ، لأن الإيضاح وهو أقوى الأسلحة في محاربة الفساد .
وتكمن أهمية تطبيق النزاهة والشفافية في المجتمعات بأنها تعمل على تحقيق المصلحة العامة ، والحدّ من الفساد بأنواعه ومحاربته . وتهدف إلى تحقيق سلامة المجتمع وأمانه ، كما ترسّخ وتنمي شعور المواطنة والإنتماء عند الفرد ، لأنها تقوي الثقة بين نظام المجتمع ومؤسساته وبين الأفراد المواطنين ، مما يؤدي إلى سيادة الأمن والثقة والاستقرار في كافة المجالات .
وتتمثل القيم في سيادة النزاهة بأن يكون التعامل بين الأفراد قائماً على الثقة وعلى الصدق والأمانة ، وتجاوز تقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة ، ورفض القيام بأعمال مخالفة للقانون والذي يسبب أضراراً في المصلحة العامة وفي المال العام تحت أي ذريعة كانت ، ويكون في ذلك تعزيز لقواعد ثقافة التعامل الديمقراطي في المجتمع وضمان حق الفرد في الحصول على المعلومات ونشر القوانين والتعليمات بمنهجية تشاركية بَنّاءة . كما تعمل على توعية أفراد المجتمع بمفهوم الشفافية وإشراكهم في عملية فهم وتقييم القرارات الهادفة إلى الصالح العام وتعزيز مبدأي الشفافية ومحاربة الفساد وتطبيقهما في مفاصل المجتمع كافة وعلى صعيد القطاعين العام والخاص على حَدٍّ سواء .
ولأن النزاهة التي هي مرادفة للصدق ، فإنها تمثل التمسك بالأخلاق والقيم ، وبالتالي عدم المساومة مع الضمير ، خاصة عندما يسيطر الانجرار للقيام بأي عمل غير أخلاقي بتمييز واضح من العقل والقلب .
وقد وجد العلماء الذين بحثوا في مفهوم الفساد بأنه معقّد ويصعب تحديده لتعدد الأوجه وصعوبة تحديد تعريفه الشامل . ولكن (أندركوفلر) اختصر تعريفه بالقول :
” الفساد شيء قوي ، وماكر ، ومدمّر للحياة البشرية والمؤسسات .. إنه يتجاوز تلك الممارسات غير القانونية وغير الأخلاقية والضعيفة التي نختبرها نحن شعوب العالم يومياً ” .
كما ذُكِرَ في مطويات عن مكافحة الفساد بأنه الأعمال غير القانونية وغير الأخلاقية وغير النزيهة واللاإنسانية ، وكذلك هي الانحرافات الأخلاقية لها جذورها في الفساد التي تؤكد أن اعتبار الفساد كأصل محوري في نتائجه يقود للقول أن الكوارث التي من صنع الإنسان لها أصول جذرية في الفساد البشري . وهناك اتجاه لوصف الفساد بأنه فيروس يسبب “أمراضاً مزمنة” مختلفة باتت تعاني منها المجتمعات المعاصرة بسبب الفساد .
وعلى سبيل المثال ، فإن المُثُلَ الأساسية لنظام التعليم تستند إلى الاتساق الذي تكون فيه رفاهية الطفل في قلب عملية صنع القرار بأخلاقيات وحرية يتمتع بها المشاركون الرئيسيون للتعبير عن أفكارهم بحرية والتأثير في صنع القرار . وبغض النظر عن الأطفال ، فإن المشاركين الرئيسيين هم المعلمون والأكاديميون والآباء ووسائل الإعلام ممثلين عن قمة المجتمع وقيادته ، لأن سلامة القطاع التعليمي ونزاهته هي أول الطلقات في مكافحة الفساد .
واستناداً إلى مقولة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق (وينستون تشرشل) بعد الحرب العالمية الثانية والتي اختصر فيها سلامة المجتمعات حين قال :
” إذا كان التعليم والقضاء بخير فلا خوف على المجتمع أبداً ”
ولذلك بات الفساد اليوم يسير على قدم وساق بدءاً من المدارس ليتغلغل في كافة مفاصل المجتمع في عملية حثيثة لتغيير نظام المجتمع عبر زيادة قوة البيروقراطيات والتسويف الانتهازي وغير المحدود وتشويه القضاء ، بطرائق ملتوية في مركز الاهتمام ليطال الأطفال والمعلمين والمحامين والقضاة .
لأن الأنظمة التعليمية أضحت غير متوازنة ، وتفتقر إلى الضوابط الكافية ، وهو ماخلق بيئة يشعر فيها بعض المشاركين بالحرية في التصرف بلطفٍ وبلا ضمير ، وباستبدادٍ بعيدٍ عن أي نزاهة أو شفافية !!.
لكن الطلقة الأمضى والأشد تأثيراً في مكافحة الفساد هي النزاهة في الجسم القضائي القائم في المجتمع . لأن استراتيجية مكافحة الفساد تتطلب التفهم بأن الفاسدين كائناتٌ عقلانية اتخذت قرارات عقلانية عندما قررت الانخراط في الفساد وتعميمه . ونتيجة لذلك ، فإن الأساس المنطقي هو اللجوء إلى علم النفس الاجتماعي والاقتصاد السلوكي اللذين يثبتان أن صنع القرار البشري ليس عقلانياً دائماً ، لأن الاختصارات العقلية والحدس يلعبان دوراً مهماً في تشكيل السلوكيات المحيطة بالفساد والمؤدية له . وقد فتح إدراك ذلك وبشكلٍ علمي مجالاً جديداً للتفكير في مكافحة الفساد بناءً على كيفية التعامل مع الفساد أوالانخراط فيه ، إذْ يتطلب ذلك فهم سيكولوجية الفساد لاعتماد نهجٍ شاملٍ في التأثير على كلٍ من العقل والبيئة التي يتخذ فيها الفرد قراراته . وتُعدُّ المكافآت و الجوائز ، شكلاً من أشكال الحوافز ، إضافة إلى بعض الأدوات التي يمكن أخذها في الاعتبار عند تصميم المناهج الاستراتيجية المساعدة في كبح تفشي الفساد وانتشاره من خلال التغييرات السلوكية .
وغالباً ما تستند سياسات واستراتيجيات مكافحة الفساد إلى العقوبات في ردع المخالفين المحتملين لكن فعالية العقوبات كرادعٍ للفاسدين تعتمد بشكل كبير على مدى مخاطر التمسك بها . وفي حال كانت العقوبات منخفضة التأثير ، ولا يتم توقّع أي خسائر مالية أو اجتماعية بل يمكن تعويضها ومضاعفتها ، فإنه يُنظَر إلى الانخراط في الفساد على اعتبار أنه قرارٌ مربحٌ وعقلاني . وفي مثل تلك البيئة ، تبقى العقوبات موجودة على الورق وغير مجدية في ردع الفاسدين او في معركة القضاء على الفساد . لأن البيئة التي تكون فيها سيادة القانون ضعيفة والإفلات من العقاب مرتفعاً ، فإن الاعتماد على العقوبات وحدها يكون غير فعال لعدد من الأسباب منها :
* – أولاً ، للكشف عن الفساد ، فإنه بالغالب ما يكون التعاون بين عدة أطراف ضرورياً ، لأن الجهات الفاعلة التي تواجه نهج العقوبات فقط ، تميل إلى رفض مثل ذلك التعاون ، فتخشى الجهات الفاعلة من العقاب غير المتناسب ، وتسعى إلى التستر على المشاكل بدلاً من التعاون بشكل استباقي لإيجاد حلٍّ رادعٍ لها .
* – ثانياً ، ربما تكون العقوبة وحدها على فعلٍ فاسدٍ غير كافية للتحفيز على تنفيذ تدابير وقائية أو اتباع خطوات استباقية أخرى لمكافحة الفساد .
لذلك ، فإن مكافحة الفساد فعلياً تبدأ أولاً بإصلاح نزاهة القضاء توازياً مع العمل على إصلاح المؤسسات التعليمية ، بدعمٍ كليٍ ومباشرٍ من شفافية الإعلام
في العمل على فضح جرائم الفساد على الملأ وبشكل حازمٍ وحاسمٍ لأن ذلك – لوحده – يعطي للردع فعاليته وجدواه .