التوافق الروحي ..
د.علي أحمد جديد
لاشك بأن الروحَ خَلقٌ مجهول التفسير ، محسوس الوجود ، فالحيّ هو الذي فيه روح ، والميت لا روح فيه ، لأن الروح ترتبط بالحياة ، وهي دليل الحياة نفسها ، ولأن الروح خلقٌ اجتماعي فهي تبحث عن الشريك المناسب لها ، وتتجمّع في تعارفٍ ودود
(وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الحجرات13
وتتجنّد وتحتشد باحثةً عن أليفها ليشكّلا معاً صنفاً متقارباً مؤتلفاً ومشترِكَ الصفات والخصائص .
وللأرواح قدرةٌ غير محدودة على التخاطر فيما بينها وعلى إدراك خبايا النفس ، ولهذا يكون أثرها عميقاً بعمق التجاذب بين بعضها البعض !!
وكلنا نصادف في الحياة مواقف غريبة لا يمكن تفسيرها ، بدليل أن يشاهد أحدنا وجهاً فيألفه ، أو يسمع صوتاً يجذبه نحوه دون أن يراه . كذلك حين يجلس مع شخص لدقائق معدودة ثم يخرج من اللقاء وكأنهما يعرفان بعضهما منذ سنين . وقد يتحدث مع إنسان لا يمت إليه بصلة وتبعد بينهما مسافات طويلة ، أو تفصل بينهما سنوات العمر فيرتاحان لبعضهما ويشعران بأنها يقرآن أفكار بعضهما ويجيبان عن تساؤلات تشغلهما حتى قبل السؤال عنها !! ولربما يفشيان لبعضهما بكل مكنونات النفس عن طيب خاطر منذ لحظة التواصل الأولى ولا يفكران في لحظة ما أن ظنَّ أحدهما سيخيب بالآخر !!.
كل هذه المواقف لا تفسير لها إلا تلاقي الأرواح وتآلفها وتوافقها مهما اختلفت الظروف ، ومهما باعدت بينها المسافات .. وذلك تصديقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم :
“الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها إئتلف وما تنافر منها اختلف” .
إذاً ، هي لغة الروح والقلب حين تتلاقى .. ومسألة تلاقي الأرواح ليست مسألة علاقة عاطفية أو حباً بين اثنين ، لكنها أكبر من ذلك بكثير ، فهي قد تبدأ بمسألة إعجاب وتتطور لتصبح فيما بعد علاقة سامية بعيدة عن الأغراض الدنيوية الزائلة .
ولكل إنسان شبيه روحي يتناسب معه ، وكما أن هناك من يحب أحداً بلا سبب ، هناك أيضاً من يكره بلا سبب . وحين تُعجب الروح بالروح تتولد مشاعر لا تفسير لها . وماذلك إلا لأن الوجوه والأشكال تتكرر أما الأرواح فلا تتكرر وعالم الأرواح يتعدى الشكليات والماديات من حيث التجانس في الطباع والأخلاق الخفية وهو مايورث تجاذب الأرواح أو التخاطر العاطفي و الالتقاء الروحي . وتلتقي الأرواح وتتفق وتشتاق ، حين يجمعها تجانس عجيب فتساق لبعضها البعض كما تساق الأرزاق !!!
ومما لا يدركه الكثيرون أنه قد يحدث تلاقٍ غير عادي بين الأرواح البشرية ، ويكون ذلك التلاقي مرتبطاً بحالة من الانسجام الفكري ، لأن الارتباط الإنساني بين شخصين يجمعهما إلى درجة أنهما يستشعران وكأن رابطاً خفياً يصل فيما بينهما .. والغريب أن الغالبية العظمى من الأشخاص المحيطين بهما يفسرون هذه الأحداث بأنها من قبيل المصادفة أو الاتفاق المسبق دون أن يدركوا ذلك التجاذب بين الأرواح المهيأة لأن تتطابق في أحاسيسها ومواقفها وردود أفعالها دون سابق إنذار . وهذه الحالات وإن كانت نادرة الحدوث إلا أنه لا يمكن إنكار وجودها لأنها مرتبطة باللاوعي الكامن في خبايا النفس الإنسانية ، وهذا التوافق بين إنسان وآخر لا يكون بسبب توافق عمري ولابتوافق جنسي ولا لوني ، ولا بالرفقة المستمرة ، لكنه سرّ من أسرار التوافق الروحي ، ونعمة قدرية تصيب قسماً من الأشخاص لا يدركون لها تفسيراً منطقياً ولا عقلانياً واضحاً .
وفي الطبيعة دلائل على هذا التوافق والتنافر في الكيمياء ، حيث هناك أيونات تتفاعل وتتجاذب ، كما أنه في الفيزياء عناصر تتآلف وتتنافر ، وكذلك هي الأرواح ، تتجاذب وتتنافر لأنها الأصدق إحساساً والأكثر عمقاً . ويقول مصطفى محمود :
(الحب ثمرة توفيق إلهي وليس ثمرة اجتهاد شخصي ، هو نتيجة انسجام طبائع يكمل بعضها البعض الآخر ونفوس متآلفة متراحمة بالفطرة ..) .
وتقول دراسات علم النفس :
( سبب عدم قدرتنا على إخراج شخص من تفكيرنا هو أن الشخص ذاته يفكر بنا .. لأنه تجانس وتطابق في الأرواح) .
فالتشابه الأخلاقي يولّد تجاذباً روحياً عند وجود إنسان يشبه إنساناً آخر ليس بالمظهر ولكن في الروح ، وهو أشبه بطاقةٍ كامنةٍ موجودة من ذي قبل ، ويتم تأجيل توافق المشاعر إلى حين وصول اللحظة المادية التي تجمع الروحين بلقاء حاسم فيتم تلاقيها بتناغم الفكر وبتجانس النبض . من هنا يمكن القول بأن علاقات الحب الناجحة المستمرة إنما سببها تآلف الأرواح .. والعكس صحيح ، ولعل هذه الظاهرة غريزة فطرية بعيدة عن الحواس الطبيعية الخمس التي نعرفها .
أما علم المنطق والعقل فيسمي هذه الظاهرة باسم (تآلف الأرواح) ، أو أنّ الذي يحدث يكون حدثاً من زمن بعيد واستقر في العقل الباطن (اللاوعي) حتى جاءت اللحظة المناسبة وصار التلاقي دون ترتيب مسبق ، وبلاسابق معرفة . وقد قال المخرج العالمي مصطفى العقاد رحمه الله :
(نحن لا نحب حين نختار ، ولا نختار حين نحب ، إننا مع القضاء والقدر حين نولد ، وحين نحب وحين نموت) .
ويقول الشريف الرضي:
أنا أنتَ .. وأنتَ أنا ..
كلانا روحان سَكنّا بَدَنا
قال ليَ المحبوبُ لما جئتُهُ
مَن ببابي ؟
قلتُ بالباب أنا
قال أخطأتَ تعريفَ الهوى
حينما فرَّقتَ فيه بيننا
ومضى عامٌ ..
فلما جئتُهُ أطرقُ البابَ عليه موهَنا
قال من أنتَ ..
قلت انظر
فما ثَمَّ إلا أنتَ بالبابِ هنا
قال أحسنتَ تعريفَ الهوى
وعرفتَ الحبَّ ..
فادخل يا أنا .
ودائماً ما يثق الأشخاص المتوافقون روحياً ببعضهم البعض ثقة قوية دون أي تفكير ، لأنهم يشعرون بوجوب بناء الثقة ببعضهم البعض ، وهذا ليس بفعل الانجذاب ، وإنما لأنهم جديرون بثقة بعضهم البعض .
كما يشعر الأشخاص المرتبطون روحياً بالأمان ، فيُهدِّئون بعضهم في المواقف التي يسود بها الإحباط أوالتهديد ، ويساعدون بعضهم في التغلب على القلق وتدني احترام الذات وغيرها من المشكلات العاطفية .
ومهما كانت فترة معرفة الأشخاص ببعضهم فإن المتوافقين روحياً يشعرون بأنهم يعرفون بعضهم البعض منذ زمن بعيد ، بالإضافة إلى رغبتهم باستمرار هذا الشعور إلى الأبد ، ويبثون بين بعضهم الإحساس بالإلفة التي لا يشعرون بها أبداً مع أي شخص آخر .
وورغم أن الأشخاص الذين يُشعِرون بعضهم بالقلق كثيرون ، إلا أن الحال لا تكون هكذا مع الأشخاص المتوافقين روحياً ، لأنهم يرتاحون لوجود بعضهم ، ويَشعرون بأنهم مرآة بعضهم البعض ، ومهما يحدث حولهم فهم يستجلبون الشعور بالسلام بوجود بعضهم إلى جانب بعض مهما فصلت المسافات بينهم .
كما ينجذب المتوافقون روحياً إلى بعضهم بشكل قوي ، ويمكن أن يُشبَّه هذا بدخول شخصين غريبين إلى غرفة مظلمة ، ورغم ذلك يشعران بالانجذاب لبعضهما البعض دون أن يرى أحدهما الآخر ، وهذا الانجذاب التلقائي يعني بأن هذين الشخصين قد جمعتهما رابطة روحية قوية لا مجال للشك فيها .
ورغم أن الاحترام سمة مميزة لكل علاقة ناجحة ، إلا أنه يأخذ شكلاً خاصاً بين الأشخاص المتوافقين روحياً ، إذ يبادر كل طرف منهما بالاستماع للآخر بشكل دقيق ، وعندما يتحدث أحدهما فإن الآخر يولي اهتمامه الكامل للحديث ، ولا يقاطعه أبداً ، لأنّ كلاً منهما يقدِّر ما يشعر به الآخر ويفكر فيه .
وعندما يرتبط شخص ما مع شخصٍ آخر برباطٍ روحي لابد أن يشعر بأن سعادته لاتكون إلا في قيامه بإسعاد ذلك الشخص ، إذ نقابل الكثير من الأشخاص في حياتنا ونبحث عن السعادة والحب والراحة معهم ، ولكننا لن نشعر بتلك الطريقة إلا مع الأشخاص الذين تربطهم علاقة روحية قوية معنا .
كما يبادر الأشخاص المتوافقون روحياً بعمل كل ما يحتاجه كل طرف منهما لبعضهما البعض ، ويُشعِرون بعضهم باللطف وبالحب والمودة ، كما يسعون إلى تحقيق رغبات بعضهم ، ويضحون من أجل بعضهم ، وهذا ما يجعل علاقتهم مليئة بالحب والسعادة .
والمعروف أن أحد أهم علامات وجود الاتصال الروحي بين شخصين هو توافقهما بالقيم وبالأفكار ، وهذا يقود إلى اتفاق كلٍ من الطرفين على القرارات المهمة في العلاقة ، وتكون لديهما عقلية متوافقة رغم وجود بعض الاختلافات البسيطة التي تعطي روحاً للعلاقة . وعندما تقوم مناقشات حول أساسيات الحياة يكون هناك توافقٌ كبيرٌ بالقيم الأساسية وبالأفكار بينهما .
ولابد أن يكون في حياة كلٍ منا أشخاص يعنون لنا الكثير رغم أننا لم نخالطهم إلا لفترة وجيزة ، ولا يكون هذا التعلق ذنباً أو خطأً لأن تجاذب الأرواح أمر لا إرادي والأرواح جنود مجندة ، وهي أرواح تتعانق وتلتقي فتقترن لتسعد فيما بينها . وقد يتسائل : أترانا التقينا في زمان أو مكان من قبل ؟!!.
وعملية التوافق ذاتية الصبغة لأن الفرد المتوافق يخلو من الصراعات الداخلية الشعورية واللاشعورية ويتحلى بقَدرٍ من المرونة والاستجابة للمؤثرات الجديدة بما يتلاءم وحاجاته الداخلية الأولية والثانوية المكتسبة ويتوافق مع مطالب النمو عبر مراحل العمر المختلفة ، ويكون ذلك انعكاساً لبيئته التي يعيش فيها ، ولهذا يميل الباحثون إلى هذا الاتجاه التحليلي ، حيث يرون أن الشخص المتوافق هو الشخص صاحب الأنا الفعال والمسيطر على كلٍ من الأنا والأنا الأعلى ويستطيع أن يوازن بين متطلبات الأنا وتحذيرات الأنا الأعلى ، وبالتالي يستطيع الفرد المتوافق مع الآخر أن يقوم بعملياته العقلية النفسية والاجتماعية على أكمل وجه .