حمّام الخنازير
بقلم : ماهر اللطيف
قال لي دكتور صديقي بحسرة وندم وأسف ونحن نشاهد تصفية الصهاينة للإخوة “الغزاويين” في فلسطين المحتلة ، وقد نال منه الغضب والغيظ و الإشمئزاز :
“لا زلت أتذكر حادثة وقعت لي ذات عام في إحدى الدول الغربية حين وطأتها قدماي بمناسبة استضافتي للمشاركة في منتدى عالمي للطاقة المتجددة ، وكان ذلك في أواخر القرن الماضي حسبما أتذكر (يفكر قليلا ثم يستدرك) ، نعم هو كذلك ، وكنت مصحوبا ببعض الدكاترة الآخرين المستدعين مثلي من دول غربية وافريقية نجيد التحدث بالفرنسية ، خرجنا من نزل إقامتنا باكرا لنجتمع في مكان بعيد عن الأنظار عسانا نتفق على بعض الأمور ونتحد في التصورات والرؤى وغيرها قبل أن نلج المنتدى ونشارك في فعالياته وندواته….
فاقترح علينا دكتور من ذاك الوطن الجلوس في مقهي فخم جدا قريب من مقر المنتدى ، لا يدخله إلا قلة قليلة من” أكابر القوم وسادتهم و وجهائهم”، إضافة إلى تكلفته الباهضة التي لا يقدر عليها إلا ميسوري الحال.
فترددنا وكدنا نرفض الإقتراح لولا أن ابتسم في وجوهنا وقال بلكنته الفرنسية العذبة ” لا تخافوا فأنتم ضيوفي قبل أن تكونوا ضيوف المنتدى ، ويشرفني الجلوس بجواركم وتبادل المعارف والكلمات وغيرها مع خيرة البشرية بكل تأكيد” ،.
ثم تقدمنا إلى المكان المقصود – وكان فعلا تحفة هندسية رائعة لم أر مثلها من قبل وقد زرت العديد من الدول في كل القارات يا صديقي- حتى بلغناه وبهتنا فيه حقا ، ففتح لنا الباب وأمرنا بالدخول أمامه بكل أدب ولطف وحياء يجعلك تنفذ الأوامر بطواعية دون نقاش أو تردد…
وما أن ولجنا المكان حتى وجدنا المقهي مزدحما نوعا ما بالرواد في كل مكان ، مما عسر علينا ايجاد مكان في الوهلة الأولى، لكن مضيّفنا كان مشهورا ومعروفا هناك حيث سارعت صاحبة المحل بالترحاب به وبضيوفه وجهّزت لنا طاولة في ركن منزو من أركان المقهي بعيدا عن الأعين والألسن.
وفعلا ، بدأنا في احتساء القهوة والماء وبعض المشروبات الغازية – وبعض الدكاترة خيروا المشروبات الكحولية – ، وشرعنا في الحديث الجدي المثمر والبناء حين تهجمت علينا مجموعة من الناس ترتدي السواد من رأسها إلى قدميها بما فيها القبعات الكبرى السوداء ، ولحيّهم الكثيفة السوداء كشعر رؤوسهم ، وكانوا في مقتبل العمر يصيحون ويزمجرون باللغة العبرية وبصاقهم يتطاير في كل مكان ، مما أضفى على المكان موجة من الرعب والقلق والتشنج جعل صاحبة المحل تهرع نحو طاولتنا لإستجلاء الأمر – ولم نكن نعلم ما يقولون ويطلبون إلى حد الساعة –
وما إن توسطتهم حتى سألت أحدهم عن سبب هذه الفوضى ، فأشاروا جميعا بأصابعهم نحوي وقالوا بالفرنسية – حتى وددت لو انشقت الأرض وابتلعتني بعد أن كدت أغرق في عرقي – ” ماذا يفعل هذا الحيوان هنا؟ ألم يقرأ أن هذا المكان ممنوع عن الكلاب والعرب؟” (ولم تكن اللافتة موجودة في أي مكان هنا) ، وأردف آخر ” يبدو أنه لم يعرف طريق الزريبة فولج مكان البشرية خطأ” وغيرها من العبارات التي لم أعد أجرؤ على تكرارها من قوتها وشدة وقعها على ذاتي….
حينها ، مسكني مضّيفي من يدي وطلب مني الصمت ، وكذلك فعل بقية الندماء ، والتفت إلى صاحبة المحل وقال لها بغضب وصرامة ” ما هذا سيدتي؟ كيف يحصل هذا في محلك وأنت تعلمين من أكون ومن يكون هؤلاء؟ ألم اتصل بك للحجز وأعلمتك بثقل ووزن ضيوفي؟ هل بمثل هذا الصنيع ننهض بوطننا ونفرح بضيوفنا؟” – فاحمر وجهها وغضبت قبل أن تعتذر مني بكل لباقة وأدب و تعتذر من ابن بلدها وتتكفل بكامل تكاليف الجلسة والجلسات المقبلة طلية أيام المنتدى كعربون احترام وتقدير واعتراف بالجميل من جهة ، وتقديرا للعرب الذين تحتك بهم يوميا هناك وتعتبرهم من خيرة البشرية كباقي ناس التشريعات الأخرى من جهة ثانية -، فالتفتت إلى المهاجمين وصاحت في وجوههم:
– مرحبا بالجالية اليهودية هنا ، ومرحبا بالمسحيين أيضا وأنا منهم ،دون أن ننسى المسلمين (وقد حاول بعضهم التكلم فأمرته بالصمت والإنصات) ، فكلنا بشر وإلاهنا إله واحد ،جمعتنا هذه الرقعة الجغرافية في هذا الزمن أين نشترك في الحلو والمر وكامل تفاصيل الحياة ، وأنا كصاحبة مشروع لا أمانع في استقبال أي حريف مهما كان لونه وجنسه وسنه – ولو كان الرشد مطلوبا في كل الحالات إلا إذا كان مع عائلة – ودينه ، شريطة إحترام هذا المكان ومن فيه ومقدرته على خلاص ما سيطلبه من حاجيات
– (أحدهم ويبدو كبيرهم وزعيمهم وقد اشتعلت عيناه شرا واغتاظ أيما غيظ) هل تقصدين أننا لم نحترمك ولم نحترم هذا المكان؟ هل أنت جادة في هذا؟ ( يقهقه ويلتفت إلى بقية اليهود) تريد أن تطردنا لأننا رفضنا تواجد حيوان بين البشر ( ويضحك الجميع)
– (صائحة وهائجة وهي تنظر لي وتشير بيدها حتى لا أقوم بأية ردة فعل لا أنا ولا من معي) أصمت أرجوك ولا تسمه بتلك السمات التي يقدر أن يردها عليك كقوله أنك “قذر ووسخ وساخة الخنازير” مثلما يرون ويعتقدون – المسلمون – ، وبالتالي فيرد عليك كلمة حيوان لتمسي أنت الحيوان( وقد هاج وأراد الإعتداء عليها لولا التحاق الأمن التابع للمقهى بها ومنع أية محاولة اعتداء عليها) هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أنت تهاجم دكتورا في علم الفلك ، فمن تكون أمامه؟ وقع استدعاؤه لمنتدى عالمي ، هل استدعاك أحدهم حتى لاحتساء قهوة في أي مكان؟ من جهة ثانية ، ومن جهة ثالثة فالمال لا يصنع الرجال ما لم يكن مرفوقا بالمعرفة والعلم والتواضع والأخلاق وغيرها من القيم التي لا تتوفر جميعها فيك ( و الكل يتابع باهتمام وقد صمت الرواد جميعا) ، والآن غادروا المكان ولا تدخلوه مجددا إلى الأبد ، فمن لا يحترٍٍم لا يحترم…
ثم أمرت الأمن لاخراجهم مرة واحدة قبل أن تعيد الإعتذار منا وخاصة أنا إذ قامت بحسن ضيافتي بشكل لافت جعلتني أنسى نزرا من آلامي و أوجاعي التي لا توصف.
بعدها ، تبعت القوم إلى المنتدى ولم أرافقهم خطوة أخرى على إثر ذلك إلى أن عدت إلى وطني رغم الحاحهم واصرارهم على ذلك ومحاولة تكفيرهم لذنبهم – ولم يرتكبوا أي ذنب – وتضامنهم معي واحترامهم وحبهم اللامشروط لي وللعرب عامة والمسلمين خاصة.”