(الغنوصية) Gnosticism ..
د.علي أحمد جديد
الغنوصية ، مدرسة فلسفية حلولية (الحلول الإلهي في الشخص أو في الشعب) . نشأت هذه المدرسة في القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد ونشطت عملياً بانتشارها في القرن الأول الميلادي ، حيث أخذت الغنوصية منهجاً جديداً بعد انتشار الديانة المسيحية بحيث لا تتعارض أو تتصادم مباشرة مع الديانات التوحيدية التي كانت كالإبراهيمية (الأميّة) وكاليهودية والمسيحية ، ولكن تمت مقاومتها من الكنيسة المسيحية في الفترة مبكرة من زمن حكم الكنيسة في أوروبا .
وفي 1945 ازداد النقاش إبان اكتشاف مخطوطات مكتوبة في القرن الخامس الميلادي والتي كانت حافزاً كبيراً لدراسة (الغنوصية) من جديد .
و(الغنوصية Gnose) هي كلمة يونانية تعني المعرفة وقد اتفق الدارسون على استخدامها في وصف الحركات الدينية الرومانية القديمة ذات الآلهة المتعددة ، والبعيدة عن أي صلة لها بالديانة المسيحية . ولهذا يمكن اعتبار (الغنوصية) تياراً أومذهباً فكرياً مُعقّداً و ذا فلسفات حلولية أو باطنية يعمل على اكتساب المعارف الفلسفية الوثنية كأساس لكل معرفة كهنوتية يهودية أو لاهوتية مسيحية ، ويُفسّرها تفسيراً مجازياً يجمع بين النظريات الفلسفية الوثنية مع العناصر المنقولة عن العبادات الشرقية كعبادة (مردوخ) عند الكنعانيين و(آمون) لدى الفراعنة ، مكوِّناً بذلك نظرياته وفلسفاته الخاصة . لذلك فإن (الغنوصية) تشمل بعضاً من فكر الديانة اليهودية الحالية ، أو الموسوية التوحيدية إلى جانب الغنوصية الوثنية . ويتضح أن العناصر الرئيسية المؤسسة للغنوصية هي رؤى الديانة اليهودية الحالية بأفكارها عن العالم السماوي ، إضافة إلى عقيدة (ثنائية الكون والخلق) – المنقولة عن الفلسفة الفارسية – التي كانت في زمن الملك الفارسي (قورش) الذي حرَّرَ بني اسرائيل من سبيهم في (بابل نبوخذنصّر) والتي تضع الربَّ المعبود وأعماله “الصالحة” من جهة ، مقابل العالم الدنيوي وأعماله “الشريرة” من جهة أخرى . ولهذا قامت المدرسة الغنوصية بتنظيم مبدأ التعارض القائم بين الروح والمادة (الجسد) ، وبذلك يخلع الغنوصيون على الفكرين الكهنوتي و اللاهوتي طابعاً غنياً باستخدام المنطق . ويمكن القول بأنهم قد أسسوا (فكر اللاهوت العلمي) المعروف .
تقول (الغنوصية) بأن الخلاص يكمن في تعلّم الأسرار الخفية ، ومعرفة أصل الروح ومصدرها الحقيقي لأن الروح الخيّرة في مواجهة دائمة مع الجسد الشرير ، وفي حالة تعارض مع المادة الفاسدة ، وأن الأرواح وحدها التي تمتلك المعرفة ، وهو مايتطلب كُره الدنيا (المادة) والدعوة إلى التقشف .
وفي عقيدة (المدرسة الغنوصية) ، يكون الإله الحقيقي مخفياً عن عيون البشر ، ولكن يمكن له أن يتجلى بإلهٍ سفلي هو خالق العالم . وترفض (الغنوصية) إله العهد القديم (يَهْوَهْ) و تعتبره شريراً وغيوراً ومسؤولاً عن كل مآسي العالم ، كما تعتبر السيد (المسيح) عليه السلام معلماً روحياً مكلَّفاً بقيادة البشرية نحو معرفة الربّ الخفيّ والحقيقي لأن (المسيح) حسب (الغنوصية) ليس ابناً لربّ العهد القديم ، بل هو من سلالة (شيث) الابن الثالث لأبي البشر (آدم) والذي ينتمي إلى المعبودة الأنثوية “باربيلو Barbélo” .
ويمكن اعتبار (الغنوصية) حركة عقائدية غير مُحددة بسياق مُوحّد ، ذلك لأنها مجموعة من الفروق والمدارس التي كان لها في عصور المسيحية الأولى عقائدها المشتركة عن (المعرفة) ، رغم أن الكنيسة الأرثوذكسية ترفض هذه الحركة بمعارفها وبكل عقائدها وممارساتها لأن أعضاء الجماعات الغنوصية يعتقدون بأنهم يمتلكون مفاتيح المعرفة غير المُتاحة لغيرهم من الآخرين ، ويكرهون العالم المادي لأنه ليس من خلق الربّ ، كما يعتقدون ، بلقام بخَلقِ إلهٍ دونه وأوجده ليحبس فيه أرواح البشر ، لأن البشر مُحاصرون في أجسادهم ، كما في قول (يسوع) وهو يُخاطب (يهوذا) :
” هذا يُغلّفني ”
حسبما تُشير إليه مخطوطة إنجيل (يهوذا الإسخريوطي) .
والخلاص عند (الغنوصية) لايكون إلا بالتحرر من الجسد ومن شرور (المادة) .
تطورت (الغنوصية) في القرن الرابع الميلادي ، وتفرعت عنها عدة مذاهب، منها مذهب “جماعة قايين” التي نشطت عام 158/159 بعد الميلاد ، وهم جزء من حركة (عَبَدة الأفاعي) الذين يعتبرون الأفعى رسول الحكمة والمنقذة للبشر حين أوحت للأم الأولى (حواء) للأكل من الشجرة كما جاء في سفر التكوين من (التوراة) ، ويؤمنون أن الربّ التلمودي “يَهْوَه” ناقصاً ومليئاً بالجهل ، لأن اكتمال الألوهية يقتضي البحث عن حقائق مناقضة لوصايا “يَهْوَه” ، وأن في “قايين” نموذجاً غنوصياً خالصاً ، لأن “قايين” عندما قتل أخاه “هابيل” أثبت بأنه يتفوّق على الربّ التلمودي”يَهْوَه” الذي أظهروه في (التوراة) بأنه كان يرعى(هابيل) القتيل ، فقدِّسوا “قايين” القاتل ثم أضافوا إليه قداسة “عيسو” الذي قام أخوه “يعقوب” بسرقة بركته من أبيهما ، وأضافوا مدينة (سدوم) التي عرفت بجبروت أهلها ، وأخيراً “يهوذاالاسخريوطي” .
في العام 1850.م ، من الكتابات الغنوصية ، فَنَّدَ الكُتّاب الكنسيون (إيرينا ، س.هيبوليتس ، أبيفانيوس) مقتطفات من (إنجيل مريم) -طبعة شميدت 1896.م- بالإضافة إلى مجموعة من بعض المُؤلّفات التي ترجع إلى النصف الثاني من القرن الرابع والقرنين الخامس والسادس .
**********
المراجع التاريخية :
* المجموعة الآسكيفانية وكانت مُلكاً لشخص يُدعى (Askew آسكيف) وهي موجودة حالياً لدى “المتحف البريطاني” في لندن وتحوي (إنجيل الحَق Pistis Sophia) مُقسَّماً إلى ثلاثة أجزاء ، وموضوعاتها :
1) حوار السيد (المسيح) القائم من الموت مع تلاميذه على ساحل (بحيرة طبرية) ، وبصورة خاصة مع (يوحنا و مريم المجدلية) ، ويدور حول تكوين العالم المحسوس والسقوط في الخطيئة والفداء .
وقد أُلِّفَت المجموعةالآسكيفيانية (إنجيل الحق) بأجزائه الثلاثة ما بين عام 222 م ، وبدايات القرن الرابع الميلادي .
2) الجزء الرابع من المخطوط ، وهو مُؤلَّف مستقل (وحي يسوع عن التوبة) الذي يرجع تاريخه إلى النصف الأول من القرن الثالث الميلادي .
3) مُؤلَّف غنوصي مبتور البداية والنهاية و يتحدّث عن بداية خلق العالم (التكوين) كما في (توراة العهد القديم) .
4) المجموعة البروسية :
محفوظة في مقاطعة “أوكسفورد” محفوظة لدى مالكها (جيمس بروس) والتي كانت كتابتها بين القرنين الثالث والعاشر .
=-=-=-=-=-=
من كتابي :
“القَبّالَة و طوائف اليهود”