قراءتي في كتاب ( مات البنفسج)
للأديب ” بديع صقور” ..
لماذا اختار الشاعر لون البنفسج لمجموعته الشعرية ؟؟؟ لون البنفسج هو اللون الوحيد الذي يُسمى اللون الملكي أو الملوكي، لأنّ تصنيعه قديماً مُكلِفٌ جداً، ولايستطيع اقتناءه إلا الملوك، وقد ارتبط بالثروة والقوة والهيبة والحزن والغموض، وهو لون الروحانيات والعبادات واحترام الذات.
تبدو الصورة الشعرية الفنية في أبهى حلّتها في قصيدة” حينما” التي يقول فيها الشاعر: ( انهمر الرصاص، تخضّبَ وجهُ التراب بدم الزهور، جفّتْ مآقي السماء، ابتعد الصديق المطر، هاجر السنونو، تيتّمتْ زغاليلُ روحي، انكسرت شبّابتي القصب، ذبُلت رياحينُ الفرح، ماتَ العزيزُ البنفسج، إنها الحرب” ص٧
إنّها تجسيدٌ لشفافية روح الشاعر” بديع صقور”، فالرصاص أخذ دور المطر، وعوض أن ينهمر المطر رمز الخير، استلم الرصاص رمز الموت والدمار المهمة، فأخذ بالانهمار والسقوط بغزارةٍ، وبدل أن يتلّون الزهر باللّون الأحمر وغيره من ألوان الفرح والجمال تخضّبَ التراب بلون الدم، فللتراب وجهٌ وقد تلّون بلون الدم، باللّون الأحمر الذي تزدهي به الزهور.
القصيدة تغصّ بالصور الفنية المعبّرة عن حالة الألم والوجع لحلول الحرب، لقد تبدّلت الأمكنة والمنازل، فلم يعد لون الزهر أحمر، بل أصبح لون التراب، ولم يعد المطر منهمراً بل الرصاص. حتى السماء تحوّلت إلى إنسانوقد جفّت مآقي عينيه من شدة الحزن والبكاء… هاجر السنونوالجميل، رفيق الإنسان في بيته، فهو يختار أمكنةً قريبةً منه ليصنع أعشاشه، إنه رفيقه، يأنس بوجوده، لقد هاجر ورحل، بل؛ إنه آثر الرحيل، بعيداً عن مظاهر القتل والموت، يريد السلام والنجاة بروحه.. ولعلّ أجمل ماعبّر عنه الشاعر ” بديع صقور” قوله: ” تيتمّت زغاليل روحي”، عبارةٌ تدغدغ المشاعر والأحاسيس، فالزغاليل تلك الطيور الصغيرة التي مافتئت تفتح عينيها على حياةٍ جديدةٍ يملؤها الحبّ والفرح والشوق..فأيّةُ صورةٍ مأساويةٍ عبّر عنها الشاعر!! إذ تماهت عناصر الفرح والحزن بكلمة ” تيّتمتْ”، أصبحت روحه وحيدةً يتيمةً، لا صديق ولا رفيق، لا ونيس ولا حبيب..حتى شبّابة القصب رمز الحنين، والتي كانت معبراً لأحزان الشاعر ولمسارب روحه، يعزف من خلالها لحناً عذباً شجياً، انكسرت وتلاشت..
والصورة الفنيةُ في القصيدة تتجاوز الحواس جميعاً، الريحان ذو الرائحة العبقة المقدّسة والمحببّة إلى النفوس ذبلت رائحته، ويبس ومات.. وماذا عن زهر البنفسج الآسر بلونه الملوكي ورائحته الشفيفة؟؟ لقد مات البنفسج العزيز إلى القلب والروح، الزهر الذي تصدّر الزهور أعلن موته .. مظاهر الطبيعة وأجمل مافيها من زهور وطيور وسماء وشبابة قصب، أعلنت انسحابها من مسرح الحياة عندما علا صوت الحرب بصخبها وضجيجها، بقتامتها ورائحة بارودها.
لقد عبّر الشاعر في مجموعته الشعرية ” مات البنفسج ” إنها الحرب، عن دعوته إلى السلام، إلى العودة للوطن الحبيب، حيث الدفء والسكينة والهدوء.. يقول في قصيدته ” تحت أضلع الصدى ” : ” قبل أن تبتعد السفن، قبل أن تنأى الشواطئ، قبل أن يداهمنا الغروب، هلمي أيتها النوارس، هيّا نجمع معاً آخر خيوط الشمس، لنغزل منها شالاً نكسو به زغاليل أرواحنا، المبحرة إلى جزر الغياب” ص٢٠ … دعا إلى الحياة والتجدد من خلال الطبيعة المعطاءة ” هاتي ياكروم عناقيدك التي بلون الشفق، هيّا نعتصرها يا صبايا، هيّا نعبئ خوابي خريفنا بالنبيذ، مؤونة للشتاءات القادمة” ص٢٤
اختطّ الأديب ” بديع صقور” لقلمه طريقاً متفرداً، فشعره ليس شعرا عامودياً ملتزماً بالوزن والقافية والروي، وليس شعراً حديثاً وفق التفعيلة، إنّه ضمّةُ ورد عابقة بالمشاعر والأحاسيس الدافقة الفيّاضة، وكأنه يثبت لنا أنّ الشعر يكفيه مايقوله القلب فقط .. ولعلّ أجمل ماورد في هذه المجموعة الشعرية في قصيدته” مات البنفسج” قوله : ” قبل أن تطلق العنان لحصانك القصب، قبل أن تخفق بجناحيك المهيضين، وتطير بعيداً عن ساحات الحروب، تذكّر، أنّ أبناء الغابات أشدّ التزاماً، بقوانين الشرف من مشعلي الحروب، أماه، يامَن أنتِ في السماء، ليتقدّسَ اسمُكِ، دعيهم يعودون إلى الوطن، لاتسمحي بأن يموتوا في المنافي، يجب ملء العالم بالبنفسج”ص٣٠.
رولا علي سلوم
السبت ٦-٤-٢٠٢٤م