المعادل الموضوعي للحدث وصيغه الانجازية في القصة القصيرة جدا
فضاء نقدي مغاير في تحليل القص الوجيز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حقيقة السرد (تكمن في نقل وتحويل الحدث والتجربة الإنسانية الى واقعة لغوية) أما مكوناته فهي (الذات – وظيفة – موضوع)
في الواقعة اللغوية يتحول الحدث الى فعل معرف بمحايثة الى وظيفته الانجازية لحظة شروعه ومن هنا فان الحبكة هي (احداثيات للفعل مع موسوعته الشعورية والفكرية تتوزع في مشكلة ما وتنتهي بمستوى اقفالي يحرّضه السياق)
علاقة الفعل بمكونات السرد تنقسم الى مستويين تبعا لحضور الفعل ونوعه وتركيزه ومستوى تمثله
1- إذا كان الفعل او مجموعة الأفعال حاضرة بماهيتها وتمظهرها الخارجي المادي فعلاقتها بمكونات السرد هي (بنية تفاعلية) كنص تضور للقاص مصطفى شقرة
تضور
هناك على الرصيف.. ثمة عرّافة تقرأ الأكف،
تبيع الحظ بحفنة دراهم، كل من يمد يده ; يعود متخما بالابتسامة.. وحده بقي خلف عربته، يتحسس ذراعه الاصطناعيّة.
2- إذا كان الفعل أو مجموعة الأفعال غير حاضرة بماهيتها وليس لها تحقق خارجي أو نسبة حدوثها لا تمثل عتبة شروع تحقق فعلية الفعل أو منقولة من حقل اخر كالأحلام او الواقع النفسي او اللحظات الشعورية العارضة او الذكريات او حتى تمثلات الاحتضار فعلاقتها بمكونات السرد هي (صيغة انجازية)
والفعل هو مجال تبدّي العلاقة بين الذات والموضوع وهذه الصيغة هي معادل موضوعي يتركز في تمثلات القيم التي تنفذها تلك العلاقة
الصيغة الانجازية هذه تشيع في اشكال لا يظهر فيها الفعل انما تظهر مجموعة القيم التابعة له مكونة (بلاغة ادراكية) التي تفرض سياقا على الكلمات بانها أطر ذهنية
يمكن تنفيذ الصيغة الانجازية بعدة اشكال وتقنيات نذكر منها
1- التناص / كما في قصة احمد باشا
قنوط
جالت بنظرها ولهى.. بكت، وعندما هزت جذع النخلة ; لم يسّاقط عليها الرطب
فقد تغشى محاربها الربيع…!
2- التجريد / كما في قصة Mustafa Shakrah
تنويم
ارتَدى نظارةَ الحقيقة، المصداقيّةُ تُجُلد بسياط الأكاذيِب، بينَما الجريمةُ تتلقُّف المطرقةَ.. حاول مسح العدسة، باحتكار الرؤية
كذلك قصة سعدون جبار البيضاني
جنون أولي
فكر أن يشطر نفسه الى شطرين، يستخدم نصفا ويحتفظ بالآخر، احتار أي النصفين يختار، إذا شطر نفسه عموديا ربما لا يستطيع أن يديم حياته بعين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة، إذا أشطر نفسي أفقيا، هل آخذ النصف الأعلى، كيف أصل الآخرين وأتواصل معهم وإذا اخترت الأسفل يعني لا تفكير ولا أكل ولا شرب، بعدما استفاق من صفنته عدل عن فكرة التشطير وقال:- الآن عرفت لماذا المجانين متعبين الى هذا الحد ،
وأيضا قصة عمى Yaser Aboajeeb
عمى
الزّاويةُ التي يقفُ بها تشير إلى نصفِ الحقيقة..
رسمَ دائرةً أحاطتْ بالجميع، ابتلعته بنهمٍ نقطةُ المركز.
3- السخرية
كما في قصة يحيى أبو فارس
أبرق لي مبتهجا، كتبت اليوم مئة قصة قصيرة جدا.. اسرعت لزيارته كي أهنئه، احمل هدية له ; سلة مهملات
4- الغرائبية / السريالية
تشظ / مصطفى شقرة
نفخوا بي.. كتمت صرخاتي ، أحدثت تأوهاتي ثقوبا حين هدأت ريهم صرت نايا
5- الانسنة
كما في قصة الأحدب لــ حميد محمد الهاشم
تهاوتْ الضرباتُ على السندان، يعلو صراخهُ الصامت، المطرقةُ هازئة لكنها هي الأخرى كانت مُتعبة، بَيدَ إن المسمارُ المعوجُ أكثر غروراً، تقاومُ حِدْبَتهُ غضبَ الطْرَقِ فوقَ سجادةِ الحديد، ذراعُ الحدّادِ ما زالت تصعدُ وتهبط، الإبهام ضحيةُ أخرى؛ يَسْبَحُ في بقعةِ دمِ الضُفرِ القريبِ من السقوط…قفزَ الألمُ بصاحبهِ إلى عِنانِ السماء، سقطتْ المتغطرسةُ المتعبةُ من كفهِ، السندانُ يدخلُ هدنةً مؤقتة..
وحدهُ الأحدبُ رفعَ رايةَ الإنتصار.
ولنتأمل في هذا النص وكيف يتم انتاج الدلالة في الصيغة الانجازية المعادلة للفعل
ثمة برنامج نفسي واخر مادي لكل واحد منهما امتداده وطريقته في انجاز القصد عبر شكله لا عبر مرجعتيه الموضوعية أو الواقعية ويتمثل هذه الإنجاز بملفوظات صيغية ووصفية ونقلية كما يظهر من القصة وهذه الثلاثة واقعة تحت مقولة الاستلزام كمنتج لحواضن القيم لا للقيم
يتمظهر البرنامج النفسي بــــ (الصراخ– الهزء – التعب – الغرور- المقاومة – الغضب- الألم- – التغطرس- الانتصار)
ويتمظهر البرنامج المادي (السندان– المطرقة – المسمار – الذراع –الابهام)
ملفوظات الصيغ نرصدها في (تهاوتْ الضرباتُ على السندان) (تقاومُ حِدْبَتهُ غضبَ الطْرَقِ فوقَ سجادةِ الحديد) (الإبهام ضحيةُ أخرى؛ يَسْبَحُ في بقعةِ دمِ الضُفرِ القريبِ من السقوط)
وملفوظات النقل (المطرقة هازئة متعبة) (المسمار أكثر غرورا)
هذه القصة مبنية على مفهوم التعاقد الثنائي بين ذاتين والتعاقد (إقامة علاقة بين ذاتين لتغيير وضع ما سواء أكان هذا الوضع من طبيعة الكينونة أو الظاهر)
ومما يلاحظ هنا هو تقاطع التزامات بين المطرقة الهازئة والاحدب فالمطرقة تقترح بإرادة متواترة (ضربات) لتغيير سيرة الأحدب ويرد الأحدب على المقترح بإرادة مضادة (المقاومة)
يتوزع برنامجي السرد على طرفي التعاقد حيث يتم استدعاء الموسوعات من تاريخ وسياسة ودين وفلسفات وأوضاع شخصية عبر الصيغ والاوصاف والمناقلات
ذراع الحداد هي ذات الفعل كما يعبر سيميائيا عنها والتي ذكرت في المتن القصصي لخلق فضاء الابهام والتي يقابلها ذات فعل أخرى هي المسمار
باقي الذوات هي ذوات الحالة والفرق بين ذات الفعل وذات الحالة هو ان ذات الفعل هي الذات التي ترمي الى تملك موضوع ما او حال ما بينما ذات الحالة هي الذات موصوفة بتملكها ذلك الوضع
ثمة ما يسمى بالمراوحة الزمنية (السندانُ يدخلُ هدنةً مؤقتة..) هنا لا يتوقف الزمن انما تتوقف دلالاته لان الزمن سرد مشخص بقيمة ما ولكن اللغة تخدعك في تصور طبيعته
الوصف في هذه القصة كإجراء ينتج دلالة فالوصف في البعد المرجعي (المشهد اليومي) يقدم أشياء ترى، تلمس، تشم أما في البعد اللفظي (المشهد الوصفي) فيقدم جملة من الأشياء ينبغي تصور دلالتها بصريا وبهذا يتحول الجهد البصري الى تأمل
ووحدة الشيء الموصوف هي حجمه المادي الساكن في سياقه الطبيعي يأتي مع توقيتات أجزاءه دفعة واحدة الى العين (المشاهدة) وهنا لا قيمة للمشخص لأنه ليس محكيا بل هيئة محيدة أما تجزيء الشيء الموصوف فهو توارد تدريجي لموسوعته (اللون / الهيئة / الحجم / الخ) عبر (القراءة) هذا التجزيء يأتي للعين عبر نماذج مفهومية تفسره وهذا ما يمنح المحكي موصوفا موقعا خاصا في ذاكرة الانسان انه وكما يقول سعيد بنكراد لا يروي حدثا وانما يشخص خبرة ضمن تفاصيل الفرجة
حيدر الأديب