صة قصيرة
ذات الاطار الأبنوسي
كانت العاهة التي عَوَّقت ( فريد ) قد وفَّرت له إدراكاً مبكراً بما يحدث من خفايا الأمور. دون أن يبدو على ملامحه, ما ينبئ من نضوج ، سوى زغب كحلي, رسم خطوطه بلطف على شفتيه, تحاصره غمازتان موحيتان . فتحكمت العينان بنظرات ثاقبة. كما تجلى بوضوح عمق التأمل, ورجاحة المنطق. بينما بدت قائمتاه مريضتين, تقهقرت حيويتهما, وضمرتا بسبب الشلل الذي رافقه منذ طفولته، فاعتاد أن يخفيهما . لذا.. فقد استكان, وأقر أن يعتاد, بقضاء وقته على كرسي متحرك مطلاً من فوقه عبر بوابة الدار, مراقباً بصمت ما تدب من حركة.
كان ودودا بل إن الجميع يستأنسونه, فيقفون بقربه، ليلتقطوا إجاباته المقتضبة, أو يجبروه على محاورة تخفف من معاناة عاهته.
يؤنسه أن يشاهد( مروج ) تلك الفتاة التي لم تخفِ رغبتها في اقترابها إليه وتشغله بمقارنة لشبيهتها التي طالما تأرّق من اجلها ، تلك اللوحة الجدارية التي شغلت غرفته منذ حداثته.
* * *
ذات يوم.. دعتها أمه, لكي تعينها على حمله إلى كرسيه المتحرك ـ طبعا ـ أخجله ذلك.
فقالت الأم :
ـ إني لا أستطيع أن أرفعه بمفردي, لقد كبر وخشن عوده .
قالت ( مروج ) بكلمات رقيقة:
ـ إني أرى ملامحه ناضجة و قد اكتملت .
تقابلت الأم والفتاة , كي يضعاه هناك, فتأرجحت ساقاه بين ساقي الفتاة المكتنزتين, ودفع ذلك بوعيه الرجولي, لكي يتأمل ملامح الفتاة الريانة. فاطرق برأسه, كما لو كانت قد أيقظت مشاعره عمدا.
ما أن استقر على كرسيه .. حتى مالت عليه مقتربة من جسده, وعلى نحو محسوس, متطوعة أن تدفع به نحو الحديقة, التي توحش مرجُها وأوحى إليه : بأنه قادر على تشذيبها وملئها بالأزهار.
قالت مروج :
– هل تستطيع إحياءها كما كان يفعل والدك من قبل ؟ إنها لا تحتاج سوى إلى جهد ضئيل، سنعمل معا لإعادة ازدهارها ؟
عندما غادرت (مروج) تحرت عيناه الحديقة التي لم تزل بنضارة خضرتها, عدا أن إطارها الزهري قد تلاشى, والذي يتطلب جهدا معافى . هــــل يستطيع أن يحييها بمفرده ؟
إذن عليه أن يهبط من كرسيه ويجرّب : إن كان بوسعه – كما فعل أبوه من قبل- أن يغرس أداته بشكل جيد, ويستطيع بموجبها.. أن يهيئ أرضا رخوة, صالحة للإنبات لكي ينشئ رحما عامرا بالأزهار.
فعلا.. هبط معتمدا على ذراعيه, واثقا بمقدرتهما . وزحف إلى داخل الحديقة, لكي يجرب تلك الأداة, ويغرسها هناك عميقا.
انه سيطلب من أمه : أن تهيئ أصص القرنفل والشقائق, وسينقل ذلك إلى الحديقة, مستعينا بالفتاة. إذا استطاعت فعلا فسوف يجعل البيت رائقا ومزهرا.
* * *
عندما جاءت الفتاة.. احتضنت الأصص بحماس, واقتربت بها إليه, وبدت تنوء بحملها باسمة. بدأ ( فريد ) يغرس الشتلات . كانا اثنيهما من الحماس : أن تتعانق أيديهما بألفة, وجسداهما. كذلك ,ليوحي هذا إليه بمشاعر طاغية . إنه يفترض.. أن تكون هناك مواقع يشغلها القرنفل والشقائق .
( مروج ) كان همها- كما يوحى إليه – أن ترى الشتلات تتداخل ورودها وتكتنز, وتتفتح في الربيع, على نحو يثير سعادة الاثنين بحديقة مزدانة عامرة.
نهضت مروج ، ودفعت بآلة القص لكي تبدو الحديقة, ذات مرج مستوٍ ، متجانساً ومهيأ أن يحتضن الأزهار. إن ذلك سيعكس لوالدته, ما كان يفعل والده. ويريدها أن تتحسس: بأن الحياة في هذا البيت ستمتلئ من جديد.
راقب ( فريد ) جسد ( مروج ) الفتي, وهو يثب ويدفع بأنوثته جهارا. وكان جهدها الشاق ، يستدعي أن يعلو صدرها ويهبط . كما لاح له : أن خِصَلاً من شعرها الفاحم تلتصق على نحرها.
بدت كأنها ربة بيت, تجري بالة الحديقة, حتى يكون باستطاعة ذلك الأريج الانثوي أن ينفح. إنه يستطيع فعلاً : أن ينشئ حديقة عامرة بالأزهار, فواحة, معافاة. إنه ليس بحاجة إلى جهد إضافي عدا جهد (مروج).
بدت ابتسامته, لأول مرة تميل إلى الجرأة. بدا كأنه قادر على النهوض باستقامة, على ساقين سليمتين, لكي يغرس( مسحاته ) كمزارع ماهر في العمق . بل انه أحس إن عوقه يمكن أن يكون هينا, وإنه مثل أي شاب مكتمل, لا يعوزه إلى ذلك وسيط.
قالت: مروج :
– إن شيئا واحدا يمكنه أن يحيي كل هذا .
قال : – ما هو ؟
قالت:- أن يقترن بالإرواء .
كانت ماسورة الماء مقتدرة : أن تدفع بمياهها على نحو يكفي لإرواء الشتلات لضمان نموها. فيما بدت ( مروج ) تضغط برفق على التربة المنتفخة المحيطة بالنبتة .
قال فريد:- لماذا تفعلين هذا ؟
قالت:- لكي تتشبث الشتلة بالأرض .
قال :- إنني أتوقع أن ننجح.
قالت :- و لمَ لا ؟ انك قادرٌ أن تكون مزارعا كالآخرين.
* * *
بعد إنجاز عملهما, غسلا أيديهما, وأدوات الحديقة.
قالت مروج : ـ هل أساعدك على الصعود إلى كرسيك .
قال :- إنني سأمكث, حاليا, أتأمل الحديقة .
ربما يصعب عليه أن يبدو عاجزاً. بالتأكيد يصعب عليه ذلك, فهو يريد أن يكون أمامها رجلاً كاملا. فقد بدا له : إنها تصرفت معه بإحساس امرأة أمام رجل.
* * *
طرأ في باله : كم سهر ليله لكي يتأمل تلك اللوحة البديعة المعلقة في غرفته ، قبال سريره ؟ التي شغلتها سيدة رائعة, بحليةٍ ذهبيةٍ ورداءٍ وملامح جذابة مألوفة ؟
عندما اكتملت أنوثة (مروج) كان يدعوها دوما أن تتأمل معه ذلك التشابه المدهش بينها وبين صاحبة الصورة . تقف ( مروج ) منبهرة. ربما يسعدها أن يتطابقا, بتفاصيل ملامحهما ويشغلان حيزا واحدا.
* * *
اقترب من الكرسي المتحرك, وثبّت يديه على تكيتيه لكي يتوازن, ويدفع بنفسه عليه, ثم يدفع به إلى ماسورة الماء ويغلقها.
بعد مضي وقت العشاء انسحب إلى غرفته ليقضي وقتا ليس قليلاً متطلعا إلى ذلك الوجه, وتلك الابتسامة الوقورة, وتساءل : (هل يعقل أن تكون مروج بهذا البهاء ؟ )
راقب بعناية منقطعة النظير .. إلى تينك العينين, اللتين أوحيتا إليه : إن حدقتيهما تبعثان إليه بإيحاء ناطق, وان تلك الحلية الذهبية, الراقدة على صدرها تثير غيرته.
ما هذا كله ؟
* * *
طيلة عوقه، واستعصاء قدرته، اعتاد أن يدفع بكرسيه, أمام بوابة الدار, ليرقب حركة الناس. كل أمله… أن يتحرى لكي يحظى برؤية ملامحها الأخاذة. ربما يحسسه ذلك بحاجته إن يضطرد نموه معها.
هيأ كرسيه حتى يطل مباشرة أمام طريقها, حتى يرتوي من سواد عينيها, ونضارة وجهها. أما إذا خلت الطريق, فانه سيظل ساهما, كأنه يستعيد ما نفحته من أريج. غير إن ذلك لا يتكرر باستمرار, فيقضي وقته يجتر تفاصيل ذكرياته.
ما الذي يدعوها إلى تلك النظرة ؟ أهو الحب ؟
***
كلما تأمل من فوق سريره تلك الصورة : ذات الإطار الأبنوسي , التي أطرقت برأسها نحوه ، و أرسلت إليه ابتسامة ماكرة ، وجدها تجنح إلى ملامح ( مروج ) وكأنها هي.
ظل يرقبها , ويتأمل ابتسامتها التي عودته عليها, فلاحت له كأن العينين تغازلانه. كيف لهذه الفتاة الرائعة, أن تنساق في حب مراهق ؟ كيف لها أن تحب كل هذا الحب؟
بدا جسده يميل إلى الاستسلام إلى الخدر . و جفناه يميلان للكسل .
لاحت ( مروج ) و هو مستلقِ على سريره : واقفة في فرجة باب غرفته ، وهي بذلك البهاء نفسه, ترمقه بتلك العينين الماكرتين , اللتين عاشرهما, منذ نعومة أظافره حتى هذه الساعة، أخفى قدميه تحت غطائه, كي لا تفاجئها حالته المحزنة.
ظلت واقفة قباله وقالت :
– من أين لك هتين العينين الناعستين ؟ لماذا تخفي ابتسامتك الآسرة ؟
فابتسم بحياء . ثم قالت كأنها تتوعده :
– انتظر …
دلفت مجتازة بوابة الغرفة، ناولته يديها فتمنّع، وقالت دون أن تراعي حرجه :
– لماذا تتحرج ..لأنك لا تستطيع؟
خفض رأسه بحياء و تعرّق, وضعت كفها تحت حنكه، ورفعت محياه :
ـ- هل تسمح برؤية ساقيك ؟
تندّى جبينه، ضاغطاً بذراعيه هناك، أراحتهما بهدوء، ومسحت عرقه وقالت :
ـ أنا أساعدك .
لم يقل شيئا, لأنه يعرف مدى عجزه.
قالت له بصوت آمر:
– أنا أقول : انهض .
نهض ( فريد ) ، فراقب ساقيه كيف استقامتا .
سألته: ـ من في البيت ؟
قال : – أمي نائمة.
واربت الباب الخارجي وقادته إلى الحمام، كانت قدماه تتنقلان بعناء .
قالت :- امش .. ستعتاد كالآخرين.
دخلت به إلى المنـزع ..
خلعت ثيابه. دعكت جسده كله. دلكت ساقيه بعنف. وسكبت الماء على جسده وساقيه.
قالت : ـ كم أنت جميل ؟افتح عينيك وشاهد ساقيك كيف تحلوان :
اغتصب نظره إلى هناك وقال :
– هل هذا أنا ؟
قالت : ــ ومن تكون ؟ أليس من حقك أن تكون ؟ انك بحاجة إلى هذا, هل شاهدت سحر عينيك ؟
قال لها :- اعطني الصابون .
اخذ الصابون، وقطعة الجلي، وجلا ساقيه وجسده واقفاً.
ضحكت وقالت :
– أتقبلني زوجة ؟
أومأ برأسه موافقا .
أتت بالمنشفة، وناولته ملابسه الجديدة، فارتداها وغادرا الحمام.
كان الوقت يمضي في الليل. جلسا سوية في غرفته مثل زوج وزوجة. أمه لما تزل نائمة، ولا تعلم بأمرهما .
* * *
استلقيا على السرير ، قال :
ـ أنا بحاجة إلى هواء نقي.. إني أختنق .
قالت :
ـ هل ترغب أن نتجول مادام الجميع يخلدون إلى النوم؟
غادرا إلى الشارع, الجو بديع، وضعا يدا بيد، وانطلقا راكضين . مرا بطرق المدينة كلها، عبثا هنا وهناك، طرقا الأبواب. الناس يجفلون فيطلون برؤوسهم ويهتفون :
– من الطارق ؟
الاثنان يختبئان، وهما يمضيان بالضحك، بعض العجائز تشتم وتقول :
– من هو الخبيث الذي يطرق في عمق هذا الليل ؟
فتهمس ( مروج ) بصوت خافت :
ـ فريد……. انه فريد……. الذي اختطف ( مروج ) . تعالوا وانقذوها ؟
أجهدا نفسيهما بهذا الجري والعبث، أجهدتهما المشاكسة. أية لذة عظيمة لهذه المشاكسة ؟
بعد أن كلّت قواها من شدة الضحك قالت له :
ــ فريد ….أنا لا أستطيع الجري، لقد كلّت رئتاي من الضحك ، ألا تستطيع أن تحملني بين ذراعيك ؟
حملها بين ذراعيه ، كأي شاب فتي ، وركض باتجاه زاوية قريبة يلوذان فيها .
قال:- أتريدين أن أحملك مسافة أكثر؟ أنا لا يتعبني ذلك .
قالت: – دعني أتوسد ذراعك و أنام .
قال :- لا يجوز هذا في العراء. دعيني أحملك إلى البيت .
عادا إلى البيت متعبين , واندسا في الفراش, مضيا يتأملان جولتهما ويضحكان بصوت واطئ ، قالت مروج :
– مستيقظ؟
قال : – أُصارحك ..؟ إنّي متعب جداً . فقد مضيت أجري كالحصان .
قالت :
– آه ..كنتَ من الجموح بحيث عانيت من اللحاق بك. لا تنس.. عندما يشعشع الصباح أيقظني لكي أعود من حيث أتيت.
قال :
– أليس بوسعك أن تستغني، ولو لليلة ثانية، عن موقعك العالي ونمارس أحلامنا الجميلة؟ أليس من حقنا أن نتقارب في إطار أبنوسي واحد؟
موسى غافل