حي ميت
بقلم :ماهر اللطيف
كنت أستمتع بسماع الموسيقى الصاخبة الغربية في بيتي، فأرقص حينا وأغني حينا آخر وأصمت آخر، وأسبح في عالم الخيال أحيانا، إلى أن بلغ مسمعي صوت مضخم صوت قريب مني جدا يشهر ما تيسر من القرآن بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد – رحمه الله -، وتعالت أصوات عويل نساء وصياحهن، وتكبير الرجال وذكرهم الله….
فخفّت من صوت حاسوبي بادئ ذي بدء وركزت مع ما يحدث خارجا لأستجلي الأمر وأفهم ما يحدث في الخارج، ناهيك وأن الضجيج قريب جدا مني، فأغلقت الحاسبوب بعد أن تأكدت من حدوث حدث جلل – موت أحدهم بالتأكيد – ،ثم استقمت واقفا وفتحت باب غرفتي وأنا أنادي أمي وأختي وأبي، لكن لا مجيب ولا أثر لهم في المنزل…
فأوشكت على بلوغ الباب الرئيسي للمنزل حيث كنت أنوي الخروج ومشاركة أهل الميت عزاءهم حين سمعت أحدهم يقول لآخر – حسب ما فهمت – ” الله يرحم عبد السلام ويغفر له ويسكنه الفردوس الأعلى…” وغيرها من الكلمات التي زعزعت كياني وزلزلت جسدي الضعيف حتى كدت أفقد وعيي….
فمن هو عبد السلام الذي توفي من جيراننا ولا أعرف أحدا بهذا الإسم غيري؟ من هو هذا الميت وأين يسكن؟ (بعد لحظات من الصمت والتأمل والانصات) أ يكون المتكلم قد نطق اسما آخر بدا لي اسمي؟….
وبعد هنيهة من الزمن تماسكت واسترجعت قواي وأنا أحوقل وأستغفر الله وأذكره بإستمرار، ثم عاودت مناداة أهلي دون أن أحصل على جواب، ومنها فتحت الباب لأصدم صدمة لم أعرف لها مثيلا من قبل.
فقد كانت الكراسي مصففة يمينا وشمالا أمام منزلنا يجلس عليها رجال كثيرون – لا أعرفهم – وهم ينظرون إليّ ويرددون “يا لطيف يا لطيف يا لطيف ألطف بنا”، وكانت النسوة يجلسن قبالتي في مأرب السيارات تحت واقيات الشمس التي وضعت حديثا لهذا الغرض تترأسهن أمي وأختي وكانتا تبكيان بحرقة مثلما ترأس أبي مجلس الرجال، وبين الجنسين توسطهما نعش ومغسل الأموات – لوحة غسل الميت ومستلزماتها – و مجموعة من الشيوخ شرعت في تلاوة القرآن الكريم – ختمة جماعية – وسيارة موتى …
وما إن تخطيت الباب خطوة حتى تعالت الأصوات وازداد الصخب والصياح والعويل، واقترب مني والدي وهو يبكي وقد اقتفى أثره كل الحضور، وقالي لي “البركة فيك بني، لقد مات أخوك عبد السلام” ثم ضمني إليه بشده وأطلق العنان للبكاء وأنا مصدوم ومتسمّر في مكاني لا أعلم ما يحصل حقا، فكيف يعزّيني والدي في أخ لا وجود له في الواقع ويسميه بإسمي؟ متى ولد ليموت ومن يكون أصلا….
ومازلت في ذهولي ذاك حتى تعاقب علي بقية الحضور وقدموا لي العزاء في موت” أخي عبد السلام”، ثم جرت نحوي أمي وارتمت في حضني وهي تسرد لي نفس الرواية وكذلك أختي وكل قريباتي وجاراتي…
فلم استوعب الموقف ولم أفهم شيئا، ولم أشعر ببلل سروالي وتبولي غير الإرادي فيه، ولم أع ما يدور حولي ولا ما كنت أنبس وأقول، فشرعت في تلمس جسدي وقرص لحمه بشدة، تفقد نفسي ودقات قلبي،….
وبعد أن تأكدت من وجودي وحياتي بينهم، صحت فيهم بأعلى صوتي “أنا حي أرزق والحمد لله، أنا حي، أنا حي. أبي، أمي، أختي أنا حي، أنظروا ها أنا ذا”…. – وكان الناس يرددون “مسكين، أصيب بصدمة كبرى جراء فقدان أخيه” -، وكانت دموعي تنسكب مدرارا وكامل جسدي يرتعد بشدة، و سروالي يزداد بللا…
ومنها،استدرت فجأة وعدت على أعقابي بسرعة إلى المنزل وأنا أتذكر – في لمح البصر – طفولتي وأبرز محطات حياتي السابقة وما ارتكبته من سيئات وذنوب و تفاهات وشرور لا تحصى ولا تعد، قبل أن أرى نفسي في قبري وقد حضرني الملكان وهما يسألانني بكل حزم وثبات:
– من هو ربك؟
– (بعد تفكير طويل وعميق وبصوت خافت وحجرشة شديدة) الله.
– ما هو دينك؟
– (وقد كدت أنسى الكلام والتعبير) الإسلام
وغيرها من الأسئلة التي أرقتني كثيرا أجوبتها ونالت مني إلى أن سقطت أرضا وأغمي علي في بهو قاعة الجلوس ورائحة تبولي تكتسح المكان وتغزوه،فقبعت هناك مدة من الزمن وأنا فاقد للوعي وغير مكترث لما يحدث حولي…
وبعد زهاء الساعة، فتحت عيني فجأة لأرى رؤوسا كثيرة فوقي تنظر لي وتتجاذب أطراف الحديث وأجسامها ترتدي بيض الميدعات- ولم أفقه أقوالهم – لم أعرف منها أحدا، وسمعت بكاء وعويلا متأتيا من خلفهم صادرا عن أمي وهي تقول بصوت متقطع ومرفوقا بالآهات والاستغفار والذكر “كدت أفقد إبني وأحضر مأتمه فعلا جراء هذا المقلب السخيف وهذه الكاميرا الخفية التي وافقنا عليها بعد أن اقترحتها خطيبته التي تعمل معدة لهذا البرنامج بتلفزة المدينة الجهوية بغية النيل منه وامتحان صبره وتحمله لهذه الصدمة المفبركة”…
ومن يومها، تغير حالي ونال مني الوهن، فاستعمرت الأمراض جسدي وفقدت الثقة في الكل وأولهم نفسي، وابتعد عني القريب قبل البعيد وهجرني كل من وعدني بعدم الهجر إلى الممات، وكرهت نفسي، ثم دخلت في مرحلة الهبل والجنون ونكران الذات، ولم ينفع معي أي دواء ولا طبيب، وأمسيت محل سخرية واستهزاء من طرف الجميع بعد أن كنت محل احترام وتقدير وتبجيل من طرفهم لولا هذه الحادثة “الصدمة” التي قلبت حياتي مرة واحدة وحكمت علي بالموت وأنا حي….