قراءة نقدية: “القصيدة ونشوة ادمان العشق”
القصيدة: بم التعلل؟
الشاعر: كمال الدريدي(تونس)
الناقدة :جليلة المازني(تونس)
المقدمة:
يطالعنا الشاعر كمال الدريدي في قصيدته “بم التعلل؟”بتجربة معاناة عاشها مع حبيبته التي أدمن على عشقها.
فأية معاناة للشاعر تتحدّث عنها القصيدة؟
القراءة النقدية: “القصيدة و نشوة ادمان العشق”
اتخذ الشاعر كمال الدريدي عنوانا لقصيدته”بم التعلل؟” وأول مايتبادر الى الذهن انها معارضة لقصيدة المتنبي”بم التعلل؟”
بيْدأن القصيدة تختلف في البحر وفي الوزن وفي القافية:
ان الشاعر كمال الدريدي التزم ما لا يلزم في أدب المعارضة..لقد ألزم نفسه بالنثر وبالايقاع..التزم بالنثر ليتيح لمشاعره حرّية التعبير والتزم بالايقاع لاضفاء شيء من الموسيقى على القصيدة وحتى لا يشذّ عن القصيدة ذات الايقاع.
وحتى الروي لم يلتزم به شاعرنا فلئن كانت قافية قصيدة المتنبي نونية وما في صوت النون من أنين يعبر عن وجع المتنبي الداخلي من لوعة الاغتراب فان شاعرنا التزم بصوت الهاء الذي هو متنفس يجعله يستعيد أنفاسه من جديد لعله يُحظى بالجديد في حياته.
وبالتالي فان قصيدة الشاعر كمال الدريدي النثرية ذات الايقاع يتناصّ عنوانها ومطلعها مع عنوان ومطلع من بيت شعري للمتنبي حيث يقول:
بم التعلل لا أهل ولا وطن//ولا نديمٌ ولا كاس ولا سكنُ
انها “المعارضة الشعرية” الثانية لقصيدة المتنبي حيث كانت الاولى مع موعد عيد الفطر الذي حرّك في الشاعر كمال الدريدي الشعور بالانتماء العربي ليرثي غزّة الجريحة والشهيدة فكانت قصيدته النثرية ذات الايقاع “عيد بأيّة غزوة عدت يا عيد” المعارضة لقصيدة المتنبي “عيد باية حال عدت يا عيد…”.
وها هو اليوم يطالعنا بمعارضة يلتزم فيها ما لا يلزم لقصيدة المتنبي”بم التعلّل”
والتعلل هو الْهَاءُ النفس وتصْبيرُها.
تعلل بالأمل تلهّى به(معجم المعاني الجامع)(باي من الاشياء تطيب انفسنا بالامل والراحة والمؤانسة؟).
استخدم الشاعرسؤالا بلاغيا”بم التعلل”وهو سؤال انكاري ينفي التعلل
و لتاكيد النفي المطلق للتعلل فان الشاعر يبكي صباه الذي ولّى ومرحلة”الصبا” هي فترة “الطفولة” فالمولود يسمىّ طفلا أوصبيّا منذ الولادة حتى البلوغ وهذه المرحلة لا تكليف فيها على الانسان اي لا يعاقب فيها الصبيّ على ارتكابه محرّما
حتى يبلغ فيصير مكلّفا.
فبم يتعلل الشاعروهو قد فقد ملذات الحياة؟ :فقد ولّت الطفولة بمراحها وبراءتها وحلاوتها والشاعر هنا يتناص مع الشابي الذي يقول:
لله ما أحلى الطفولة// انها حلم الحياة.
فبم يتعلل الشاعروقد فقد كم نديما وغابت عنه كاسه ؟والمعنى هنا مجازي يقصد بهذه الصورة الشعرية متعة الحياة ونشوتها وقد تكون مرحلة الشباب وما بعدها.
فبم يتعلل الشاعر وقد هجره أنيس وحدته ليتركه يعيش نار الهجر؟
فباي الاشياء تطيب نفس الشاعر وقد فقد الامل والراحة والمؤانسة؟
اي أمل يتعلل به الشاعر وقد فقد طعم المتعة في الحياة؟
كأني بالشاعرقدّم هذه المقدمة كي يشوّق القارئ الى المعاناة التي يعانيها والمأساة التي يعيشها وقد استخدم في ذلك ضمير المتكلم المفرد المتصل(فقدنا/غابت عنّا/هجرنا)للتعبير عمّا بداخله.
يتحول الشاعرمن ضمير المتكلم المفرد الى ضمير المخاطب المفرد المذكر
وضمير الخاطب لاضفاء الواقعية على القصيدة فهو يوهم القارئ بانه سينقل لنا
حوارا بينه وبين الحبيبة لكن القارئ سرعان ما يتفطن الى انه نوع من العتاب يتوجه به الحبيب الى حبيبته.
والعتاب من الحبيب هو من علامات الحبّ:يقول الروائي الروسي” ليو تولستي”:
“اذا فقدت الرغبة في عتاب من تحبّ فاعلم انك قد شيّعت حبّه الى مثواه الاخير”(1).
والفرق بين العتاب واللوم ان :
– العتاب هو الخطاب الذي يحمل ملامة بسبب ضياع المودة والصداقة والاخلال
بالعهد ويكون من باب المحبة والرابطة.
– اللوم هو توبيخ وتهجين طريقة الفاعل,لتعريفه بخطئه والضرر الذي وقع بسبب
تصرّفاته.
يقول جميل بثينة في العتاب:
علقت الهوى منها وليدا فلم يزلْ// الى اليوم ينمي حبّها ويزيدُ
يقول المتنبي في العتاب:
أرُوح وقد ختمت على فؤادي// بحبك ان يحل به سواك
ولو اني استطعت خفضت طرفي//فلم أبصر به حتى أراك
يقول البحتري: خلت ورأتني مُغرمًا فتجنّبت//وشتّان في حبّ خَليٌ ومغرمُ.
يقول نزار قباني:
من جرّب الكيّ لا ينسى مواجعه// ومن رأى السمّ لا يشقى كمن شربا
أمام هذا التعبير عن العتاب من الشعراء القدامى والمحدثين فما كان عتاب
شاعرنا كمال الدريدي لحبيبته؟يقول الشاعر معاتبا حبيبته:
بيني وبينك هجر
انت صانعه
أدثرك برداء الحب..وتنزعه
ولظى العشق..دموعي تطفئه
يعاتب الشاعر حبيبته على الهجر ويحمّلها مسؤولية هذا الهجر واستخدم المقابلة المعنوية ليقابل بين حرصه على حبها(ادثرك برداء الحبّ/دموعي تطفئه) وردّة فعلها المضادّة(وتنزعه).
واكثر من ذلك فهو يُذكّرها بان القلب هو مرتع الحبّ بل يستجدي عطفها لتنتشله من الموت حين يعتبرفي بعد ها نزع الروح من الجسد فيقول:
أمَا علمت أن القلب حدائق الحب مرتعه
اذا نأيْت بطيفك نزعْت من الجسم روحه
انه يعتبر هجرها يؤذيه قلبا وروحا وجسدا فهجرها يؤذي كيانه كانسان وبالتالي فبم التعلل؟
ويعود الى اعتبارنفسه صبيا يسكن قلبها ببراءته وصدق مشاعره ودلاله وسهولة رضاه وترضيته بقبلة منها ليعود اليها والقبلة حب وحنان ودفء بين الاحضان.
فيقول: لا جرم ان الصبيّ
في القلب مسكنه.
بقبلة منك…يعود أكثره.
لعل القارئ هنا يتدخل لملء تلك الفجوة التي تركها له الشاعر ليتساءل:
– أية قبلة يتحدّث عنها الشاعر؟
هل هي القبلة تعبير عن الحب أم عن الجنس؟
يستحضر القارئ هنا الدكتور ابو بكر حركات المختصّ في علم الجنس ليجيبه قائلا:” القبلة الايروتيكية ليست مرتبطة بالضرورة بالحب,من الممكن ان تكون هناك قبلة جنسية بين حبيبين كما يمكن ان تكون بين شخصين تربطهما فقط علاقة رغبة جنسية ومن الممكن ان تكون القبلة بين الحبيبين قبلة حب وخالية من الحمولة الايروتيكية”(2)
وقد يستحضر القارئ بعض الاشعار في القبلة قائلا:
يقول ابو نواس في القبلة:
سألتها قبلة ففزتُ بها// بعد امتناع وشدّة التعب
فقلت بالله يا معذّبتي//جودي بأخرى أقضي بها أَرَبي
يقول أحدهم في تحليل القبلة:
يَبُثّ فمي سرّ الهوى لمُقبَّل//أجود له بالروح عني ضنين
اذا كنت في شكّ سلي القبلة التي//أذاعت من الأسرار كلَّ دفين
مناجاة أشواق وتجديد موثق//وتبديد أوهام,وفضَّ ظنون
وشكوى جوًى قاس,وسقم مبرح//وتسهيدَ أجفان وصبرَ سنين
وهنا يواصل القارئ بفضوله متسائلا:
أيّة قبلة يطلبها الشاعر؟:
– هل هي القبلة الجنسية أم قبلة الحبّ؟
– هل هي قبلة أبي نواس الملهوفة؟
– هل هي القبلة التي حللها أحد الشعراء وطبعها بعدّة دلالات نفسية؟؟
يبدو ان الشاعر قد رشف رحيق العشق والعشق هو أرقى درجات الحبّ
قيقول: يا لائمي في العشق
أنت ما ذقته
لو رشفت يوما رحيقه
ما نسيته.. يوما..بل العمر كلّه
ان المعجمية (ذقته/ رشفت/ رحيقه) التي استعملها الشاعر تشي بمعاني القبلة التي ينتشي بها”العمر كلّه”ولعله في ذلك يريد اقناع لائمه في العشق.
وأكثر من ذلك فهو يضمّن قصيدته بيتا لابي نواس:”دع عنك لومي //
فان اللوم اغراء//
هنا يعتبر الشاعر لومه في العشق يزيد في اغرائه وادمانه الحب والعشق تماما
كادمان ابي نواس على الخمرة دون اكتراث بلائميه.
ان الشاعر مُدْمنٌ على هواه ويعيش صبحا مساء تماما كما ادمان ابي نواس على الخمرة قائلا: “وما العمر الا سكرة بعد سكرة..”
ان وجه الشبه بين الخمرة والعشق في تلك النشوة التي يعيشها كل منهما بعيدا عن الواقع. يقول الشاعر:”دع عنك لومي// فان اللوم اغراء”
واتركني للهوى
أعيشه صبحا ومساء
ان الشاعرخاطب الحبيبب ليعاتبها وخاطب لائميه في العشق ليقنعهم بنشوة العشق
بل وأغلظ اللهجة لهم حين خاطبهم بصيغة الامر ليُلزمهم بالكفّ عن لوْمه.
وها هو الآن يستعطفهم بضرب المثل الديني بعد ان ضرب لادمانه في العشق مثل ادمان ابي نواس على الخمرة فهو يضرب لهم مثل قميص النبي يوسف الذي اعاد ليعقوب البصر ووجه الشبه ان الشاعر بلا عشق هو أعمى والعشق يعيد اليه البصر تماما كقميص النبي يوسف. يقول شاعرنا:
أمرّغ الثرى أنفي
أجد ريحه
كقميص يوسف ردذ ليعقوب بصره
واكثر من ذلك فهو يشبه تعلق نفسه بطيفها كتعلق الرضيع بثدي امّه وفي تعلق الرضيع بثدي امّه حياته وبالتالي فالشاعر حياته رهينة عشقه.
وبالتالي فان الشاعر لاقناع القارئ بعشقه عمد الى ضرب المثل فضرب المثل بادمان أبي نواس على الخمرة وضرب مثل قميص النبي يوسف وضرب مثل علاقة الرضيع بأمّه وكل هذه الامثال لدعم شرعية ادمانه العشق والحبّ.
وطريقة ضرب المثل يتناص فيها الشاعر في الادب مع الاديب ابن المقفع الذي يعمد لضرب المثل لكل قصة أمّ.(يقول :ومثل كذا كمثل….).
كما يتناص الشاعر في طريقة ضرب المثل مع النص القرآني فيقول تعالى في سورة ابراهيم الآية (25) “..ويضرب الله الأمثال للناس لعلّهم يتذكّرون”.
ويختم الشاعربقفلة كسرت أفق انتظار القارئ وانتهكت حرمة مشاعر القارئ الذي تعاطف معه طوال القصيدة حين باح واعترف بوجع الهوى ورغم ذلك ما مل ّ الهوى رغم وخزه.
فالشاعر هنا يتجرّع وجع الهوى ووجع وخز الاشواك المحفوفة به.. وهو في ذلك يتناص مع الشاعر أبي نواس في قوله:”وداوني بالتي كانت هي الدّاء”
الخاتمة:
ان الشاعر كمال الدريدي في قصيدته “بم التعلّل”ينفي عن نفسه ما يمكن ان يتعلل به ليبثّ فيه الامل لما يعيشه من معاناة هجر الحبيبة وهو في المقابل يصف ادمانه على عشقه بطريقة ضرب الأمثال لاقناع القارئ .
سلم قلم المبدع كمال الدريدي المتمرّد والمتفرّد والذي جعله لا يشبه الا نفسه.
بتاريخ 06/06/2024
=== القصيدة ===(الشاعر كمال الدريدي)
«بم التعلل»
بم التعلل؟؟
وزمن الصبى ولى أكثره
كم نديما..فقدنا …
وغابت عنا كأسه
وأنيسا هجرنا..
تاركا فى الحشى ناره
بين وبينك هجر
انت صانعه
أدثرك برداء الحب.. وتنزعه
ولضى العشق..دموعى..تطفئه
اما علمت أن القلب حدائق الحب مرتعه
اذا نأوت بطيفك نزعت من الجسم روحه
لاجرم ان الصبي
فى القلب مسكنه
بقبلة منك..يعود اكثره
يالائمى فى العشق
انت ماذقته
لو رشفت يوما رحيقه
ما نسيته..يوما…بل العمر كله
«دع عنك لومى
فإن اللوم اغراء»
واتركنى للهوى
أعيشه صبحا ومساء
فما أثر فى النفس إلا فقده
متيم بعشقه والنفس تذكره
مالاح صبح وغابت شمسه
أمرغ الثرى أنفي
اجد ريحه
كقميص يوسف رد ليعقوب بصره
تاهت نفسي
فهي عالقة بطيفه
تعلق الرضيع
بثديي أمه
لامللت الهوى رغم وخزه
كآنها طبطبة
على الفؤاد بكف يده
المراجع:
https://www.raya.com>16/05/2022/(1)
العتاب من علامات المحبة- جريدة الراية.
https://www.dw.com>..(2)
القبلة في الثقافة العربية:تعبيرعن الحب ام عن الجنس؟