قراءة نقدية مزدوجة: “القصيدة و اللازمة الشعرية”.
المبدع:حمد حاجي: (قصيدة:أعندك فضوة وقت؟)(تونس)
المشاكس:عمر دغرير(المشاكسة:أتذكر يوم جئت لحيّها؟)(تونس)
الناقدة :جليلة المازني (تونس)
ان ما يجمع بين المبدع والمشاكس ان كلّا منهما جعل عنوان قصيدته لازمة ألزم بها نفسه ليردّدها في بداية كل مقطع .انها ترديدة أضفت على كل قصيدة موسيقى مشحونة بالعتاب غضبا وشوقا عند المبدع ومطبوعة بثنائية الألم والأمل لدى المشاكس.
لئن وردت ترديدة المبدع “أعندك فضوة وقت؟استفهاما يخفي توسل المبدع للقاء الحبيبة فان ترديدة المشاكس وردت استفهاما يؤكّد مجيئه الى حيّ الحبيبة.
1- المبدع حمد حاجي واللازمة الشعرية:
اتخذ المبدع عنوان قصيدته “أعندك فضوة وقت؟” ترديدة الزم بها شاعريته ليرددها في كل مقطع كمتنفّس يستردّ بها أنفاسه وهو يعاني من الشوق اليها راجيا منها موعدا يحيي أرضه التي باتت يبابا جرداء بدونها.
ان الحبيبة تتواصل من بعيد مع الحبيب تجنّبا لعين الرقيب والرقيب ظاهرة اجتماعية تحدّث عنها العديد من الشعراء فيقول بشار بن برد:
من راقب الناس لم يظفرْ بحاجته//وفاز بالطيبات الفاتك اللعج
ومبدعنا يقول:
تُمسّي عليّ وتغمزُ لي من بعيد
اذا ما رأت بالطريق
الرقيب وبعض الكرب
ان المبدع جعل الحبيبة جريئة وفاعلة ومسؤولة عما تفعل حين بادرته بالتحية
من بعيد وغمزت له بوجود الرقيب الذي يحول دون قربها منه خاصة وهي الريفية التي تجني العنب واذا بخطاها بطيئة لثقل جفنة العنب التي تحملها
وكأني بهذه الريفية ثملة بخمر العنب الذي تحمله .يقول المبدع:
على خصرها جفنة عرشت
مثل دالية بالبوادي
يكاد بعنقوده يشتكي لي العنب
كأن على قدرالرجل تمضي الخطى
كأن على قدرالخطو يأتي العتب…
انها صورة شعرية دعمها المبدع بمشهد الريفية التي تحمل جفنة ثقيلة من العنب وهي مبتسمة.
هذه المشهدية تثير حاستي الشمّ والبصر عند المبدع قيشتمّ رائحة عطرها ويرى جمال شعرها الذي يغطّي كواهلها :
تجيء كما رشة العطر
والشعر فوق كواهلها ارتخى وانسكب..
هذا الجمال الذي حرّك مشاعره جعله يعاتبها والعتاب بين الحبيبين دليل على مدى الحب بينهما.
يقول الروائي الروسي”ليو تولستي”:”اذا فقدت الرغبة في عتاب من تحبّ فاعلم انك شيعت حبّه الى مثواه الاخير”(1)
– يقول جميل بثينة في العتاب:
علّقت الهوى منها وليدا فلم يزل// الى اليوم ينمّي حبّها ويزيد.
– يقول نزار قباني:
من جرّب الكيّ لا ينسى مواجعه// ومن رأى السُمّ لا يشقى كمن شربا
امام هذا التعبيرعن العتاب من المحدثين والقدامى فما كان عتاب شاعرنا
حمد حاجي لحبيبته؟
هذا العتاب جعل عدّة مشاعر تتزاحم في نفس المبدع بين بوح وشوق وغضب.يقول:
أعاتبها
من يكن له قلب كقلبي
يجد له بالحب الف سبب..
اقول لها وبعيْني بوحٌ
وغُصّة شوق
وبعضُ غضب
هذا العتاب قد يجعل القارئ يتدخل ليتعاطف مع المبدع ويستحسن منه استرداد نفَسه بهذه الترديدة التي ستتكرّر”أعندك فضوة وقت” لتختزل كل تلك المشاعر المتزاحمة في نفسه وكأني به يتوسل لقاءها بدلا عن كل خطابها من بعيد.
وكأني بالمبدع يتوسل لقاءها “اعندك فضوة وقت؟” وهو في ذلك متعقّل في توسلها مراعاة لظروفها ليسألها ان كان لها وقت ليحدّد وقت اللقاء(عشوة سبت)ومكانه(أواعدك في ضيعة الاهل..) قيقول:
أعندك فضوة وقت؟
بعشوة سبت..
أواعدك في ضيعة الاهل..في عزبة من عزب
ان هذه الفجوة النصية التي تركها بعد تحديد الزمان(عشوة سبت..) والمكان(في ضيعة الاهل..) قد تثير فضول القارئ الذي قد يصف المبدع بالمتهوّر حين يواعدها في عقر دارها وهي الريفية وما للريفيين من غيرة على العرض ومالهم من نعرة اهل الريف حتى انه شبه نفسه بالمزارع في حقل الهوى شعورا منه بالانتماء الى اهل الريف.(انا كالمزارع وحدي بحقل الهوى والغرام)
=== يتبع ===
===يتبع ===
يستأنف المبدع ليكرر تلك الترديدة في بداية كل مقطع
“واللازمة القبلية تعتمد على ورودها في بداية القصيدة (العنوان)واستمرار تكرارها في بدايات مقاطعها بحيث تشكل مفتاحا يلقي بظلاله الايقاعية والدلالية على عالم القصيدة..”(2)
وتكرار اللازمة في القصيدة هونوع من التناص الداخلي للقصيدة والذي يضفي نفَسا جديدا عليها.
بعد ان توسلها موعدا في الزمان والمكان يعود من جديد لللازمة راجيا ان يعيش معها اليومي في حياته فيقول :
أعندك فضوة وقت؟
نمرّ ببائعة الخبز
نأخذ سخن الجرادق من تحت نار القصب
وننقعه في الزيوت
وألمظ من اصبعيك بقايا العسل
وأحدثك عن قصة العاشقين بأحلى الكتب
أعندك فضوة وقت؟
سأشوي عن الفحم سمانة
وأملّحُها وأقدمها في صحفة من خشب
انه يدعوها ان تعيش معه اليومي ليراقصها على وقع دقات قلبه وان شاءت ان تنام بحضنه فيقول:
وعند المساء سأدعوك للرقص فوق الروابي..
على وقع دقات قلبي..
وان شئت نامي بحضني…لكل امرئ ما أحب
ويختم المبدع بنفس اللازمة ملتمسا منها ان تهَبَه “عشية سبت لما لعشية السبت من رمزية اللقاء عند المحبين فيقول :
أعندك فضوة وقت؟
هبيني عشية سبت…فاني وهبتك قلبي
وهل يرجع الحرّ فيما وهب..
لعل القارئ يتدخل هنا وقد يعتبر هذه المقابلة المعنوية بين ضمير المخاطبة(هبيني) وضمير المتكلم المفرد فقد يعتبر التماسه لها للقائها يبرّره حبّه لها والذي لا رجوع فيه عند الحرّ.
في هذا الاطار كيف يرد ّ المشاكس على هذه الترديدة التي يلتمس فيها المبدع موعدا من الحبيبة في الزمان والمكان ؟
2- المشاكس عمر دغرير واللازمة الشعرية:
يَرُدُّ المشاكس على ترديدة المبدع بترديدة يذكّره فيها بيوم مجيئه لحيّها “عشية سبت”وكأني بالمشاكس يعتمد الترديدة أسلوبا للرد عليه بنفس بضاعته (الترديدة) ولئن كانت ترديدة المبدع تلتمس لقاءها في زمان ومكان معينين فان ترديدة المشاكس تثبت قدومه اليها في نفس الزمان والمكان مما أثار نعرة أهلها لتعنيفه معنويا وجسديا فيقول المشاكس:
“أتذكر يوم جئت لحيّها”
عشية سبت
وأحرقك الأهل قبل ان تقابلها
بكلمات كاللهب..
وكانت هناك تراقب من بعيد
وهي ملتاعة
ومن أعلى شرفتها كانت ترى العجب
أتذكر يوم جئت لحيها
صغار وكبار رشقوك بالحجارة
ومن ثمّ انهالوا عليك شتما وسبّ
ان المشاكس ينقل لنا مشهد عنف عاشه المبدع مع أهل سعدى بسبب جرأته
في القدوم الى ربوعها.
كأني بالمشاكس يسلط الضوء على علاقة الحبيب باهل حبيبته وهي الخاضعة لهم
وهذا يتناص مع قول احدهم:رجوْت منها رفق حالي//فأبدلتني من جرح أليم.
ان المشاكس قد برّر قدومه لحيّ سعدى ليس اكراما للمبدع ولكن انتصارًا لسعدى التي يريد ان يجْبُر بخاطرها فيقول:
أتذكر يوم جئت لحيّها؟
فقط سعاد كانت تعلم بالزيارة
وقد تسرّعت حين قدمت بدون ردّ على الطلب…
في هذا الاطار قد يتدخل القارئ وقد يلوم المبدع وقد يعتبره متهوّرا عرّض نفسه للعنف و قد يعرّض سعدى للتعنيف من قبل أهلها.
ان المشاكس يسلط الضوء على عقلية أهل الريف الُمتزمّتة وخضوع المراة لهكذا عقلية غير حقوقية في بيئة ذكورية لا تعترف بحقوق المراة خاصة حقها في الحب او البوح به.
وقد تشجعت لتطلب من أهلها أن يدعوه يقترب ولعلها هنا ستبوح لهم بسبب قدومه الشرعي والوجيه لهم لعلها تغيّر موقفهم منه.
يبدو انها انْتشلته مما عاشه من اهانة من أهلها لتجعله يستعيد هيْبته ويقف خطيبا ليبوح بحبّه لها فيقول المشاكس:
أطلت من الشباك وقالت:
دعوه يقترب..
وكم هزك الفرح حين أتاك صوتها شجيا
فاستويت واقفا أمام الجميع
كمن تعوّد على الخطب..
وقلتَ بصوت امتزج بالدموع والصدق أحبك سعدى
ولا يهمّ ان متّ لاجل هذا الحب..
أحبك والله يعلم كم يهواك قلبي
وان لك اكثر من مكان في العينين وفي القلب..
هنا قد يتدخل القارئ ويعتبر المشاكس يتناصّ مع نزارقباني الذي يعتبر من يموت من أجل الحبّ شهيدا فيستحضر ما قاله في قصيدة قارئة الفنجان:
قالت يا ولدي لا تحزن..
الحب عليك هو المكتوب..
يا ولدي..قد مات شهيدا..
من مات فداء للمحبوب يا ولدي يا ولدي.
وكاني بالمشاكس يتعاطف مع المبدع على غير عادته انتصارا لسعدى وتعاطفا معها لانها تبادله نفس مشاعر الحب.
وانتصار المشاكس لكرامة سعدى جعله يوحي لها بضرورة تشريع علاقته بها وجعلها رسمية مع أهلها ليطلب يدها من اهلها وللتعريف بعلاقته بها.
== يتبع ==
== يتبع ==
ان المشاكس أخضع مشاكسته لعقلية المرأة العربية التي تربط علاقتها بالرجل بالارتباط الاجتماعي معه وتعتذرله عمّا بدر من أهلها من عنف ضدّه فيقول المشاكس:
أتذكر يوم جئت الى حيها
خرجت سعاد وقالت:
جئنا مع أهلك’ فلنا أصول,
ان كنت بالفعل ترغب في القرب…
ومعذرة على كل ما صدر منّا
فانت غريب عن الحيّ
ولا مكان للغرباء بيننا
وان كره الكارهون وأحبّ من أحبّ…
وقد دعم المشاكس رأيه بان جعل سعدى تخاطب الحبيب بضمير المتكلم الجمع(صدر منّا/بيننا) ايمانا منها بعقلية أهلها وقناعة منها بتجذّرها في أصولها الريفية.
وبالتالي لئن اعتبر المبدع علاقته بالحبيبة علاقة حبّ وهي علاقة جريئة في وسط ريفي يرفض هكذا علاقة وهو في ذلك يحمل عقلية المتحرّر فان المشاكس يحمل عقلية المتجذّر في الأصول فربط العلاقة بالارتباط الاجتماعي الرسمي مع الحبيبة سعدى التي طالما دافع عنها.
ان الابداع والمشاكسة يؤسسان لثنائية علاقة الحبّ وعلاقة الارتباط الاجتماعي الرسمي( الخطبة/ الزواج).
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة.
بتاريخ 20/06/2024
المراجع:
https://www.raya.com>16/05/2022/ (1)
العتاب من علامات المحبة- جريدة الراية.
https://elwahat.univ-ghardaia.edu.dz>..(2)
جماليات التكرار في القصيدة الحديثة