أصغاء
النرد الذي اخفى عثراته تحت سرير النص
جواد الشلال ونرده في مقهى الفلاسفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول جواد الشلال ( ( أخفي عثرات قديمة تحت سريري ،
أنسقها مثل حديقة غناء ، أرمي عليها نرد. لم يسعفني الرقم )
سيوران
سيوران كان ينظر إلى الوجود البشري على أنه عبارة عن “عثرات” وسقطات قديمة مكبوتة تحت السطح. ففكرة “إخفاء العثرات القديمة تحت السرير” تتوافق مع مفهوم سيوران عن الإنسان ككائن متردد ومعرض للسقوط. إلا أن المحاولة “لإنسقها مثل حديقة غناء” تعكس رغبة الشاعر في إخفاء هذه “العثرات” وتجميلها – وهي محاولة لتزييف الوجود البشري المحكوم بالسقوط والتشظي.
أما رمي “النرد” على هذه “العثرات المنسقة” فيشير إلى عنصر العشوائية والفوضى الكامن في الوجود الإنساني، بحسب فلسفة سيوران. فالإنسان محكوم بالصدفة والعبثية ولا يملك القدرة على السيطرة الكاملة على مصيره.
سارتر
وبالنظر للعبارة من منظور فلسفة سارتر، فإن “إخفاء العثرات القديمة” يتوافق مع مفهوم “السيئ” عند سارتر. فالإنسان في نظر سارتر مسؤول عن اختياراته وأفعاله، وبالتالي فإن محاولة إخفاء “السيئ” هي نوع من “السيئ” في حد ذاته.
كما أن وصف الشاعر للمحاولة “لإنسقها مثل حديقة غناء” يتناسب مع مفهوم “السيئ المطلق” الذي يرفضه سارتر، والذي يرى فيه محاولة لإعطاء شكل جمالي لـ”السيئ” وتبريره.
وأخيرا، فإن عدم إسعاف “الرقم” لهذه المحاولات يشير إلى انعدام المعنى والجدوى في هذه الممارسات، وهو ما يتماشى مع تشاؤم سارتر بشأن إمكانية تحقيق الحرية والمعنى في عالم عبثي.
نيتشه
بالنظر إلى العبارة الشعرية من منظور فلسفة نيتشه، يمكن تحليلها على النحو التالي:
نيتشه يرى أن الوجود البشري محكوم بـ”إرادة القوة” والرغبة في السيطرة والتفوق. في هذا السياق، فإن “إخفاء العثرات القديمة تحت السرير” يمكن تفسيره كمحاولة للكبت والإخفاء لما هو “ضعيف” أو “مثير للخجل” في الذات.
ومحاولة “إنساق هذه العثرات مثل حديقة غناء” تعكس رغبة الشاعر في الظهور بصورة مثالية وقوية، تمهيًا لـ”إلقاء النرد” عليها. فالنرد هنا يرمز إلى الحكم الذاتي والقرار النابع من “إرادة القوة” والرغبة في السيطرة.
ومن وجهة نظر نيتشه، فإن عدم “إسعاف الرقم” لهذه المحاولات قد يشير إلى الإحساس بالعجز والفشل في تحقيق هذه “إرادة القوة” الذاتية. فالنص يعكس الصراع الداخلي بين رغبة الشاعر في إظهار القوة والتفوق، وبين إدراكه لعدم قدرته على تحقيق ذلك.
بالتالي، فإن هذه العبارة الشعرية تعكس جوانب متناقضة في مفهوم “الإرادة القوية” عند نيتشه: رغبة الفرد في السيطرة والتفرد، في مقابل إدراكه لحدود هذه الرغبة وإمكانية إخفاق الفرد في تحقيقها. وهو ما ينعكس في محاولات الشاعر المتناقضة لإخفاء وتجميل واقعه الداخلي.
هايدغر
من منظور فلسفة هايدغر، يمكن ربط العبارة الشعرية بمفهومي الوجود والحرية على النحو التالي:
بالنسبة لهايدغر، الوجود البشري هو “وجود في العالم” (Dasein) وهو ما يميزه عن مجرد الكائنات الأخرى. وهذا الوجود يتسم بالقلق والقدرة على الاختيار والتحرر من القيود.
في العبارة الشعرية، “إخفاء العثرات القديمة تحت السرير” يمكن تفسيره كمحاولة من الشاعر للهروب من مواجهة وجوده الأصيل وتحديات حريته. فهو يحاول “إنساق هذه العثرات” وإخفاءها بدلاً من مواجهتها.
لكن “إلقاء النرد” يمثل لحظة الاختيار والتحرر، حيث يتخذ الشاعر قرارًا نابعًا من وعيه بوجوده. ومع ذلك، فإن عدم “إسعاف الرقم” له يشير إلى الفشل أو العجز في تحقيق هذا التحرر والاختيار الحر.
من هنا، تعكس العبارة الشعرية الصراع الداخلي للشاعر بين الرغبة في الهروب من وجوده الأصيل، وبين محاولات التحرر والاختيار. وهو ما يعكس جوهر فلسفة هايدغر حول الوجود البشري وتحديات الحرية والمسؤولية.
مفهوم الوجود (Dasein) عند هايدغر:
هايدغر ينظر للوجود البشري (Dasein) باعتباره طريقة خاصة للكينونة، وليس مجرد “شيء” أو “موضوع” بين الأشياء الأخرى.
الوجود البشري هو وجود “في العالم”، أي أنه متشابك ومتداخل مع العالم المحيط به بشكل جوهري.
الوجود البشري يتسم بالقلق والانفتاح على الماضي والمستقبل، وبالتالي قدرته على اتخاذ الخيارات والتحرر.
مفهوم الحرية والاختيار:
الحرية عند هايدغر ليست مجرد إرادة حرة أو غياب القيود الخارجية، بل هي إمكانية الوجود البشري للاختيار والتحرر من الذوبان في “الوجود العادي” أو “التقليدي”.
الحرية تتطلب من الإنسان تحمل المسؤولية عن اختياراته وأفعاله، وعدم الهروب منها.
ارتباط العبارة الشعرية بهذه المفاهيم:
“إخفاء العثرات القديمة تحت السرير” يعكس محاولة الشاعر للهروب من مواجهة وجوده الحقيقي وتحديات حريته.
“إلقاء النرد” كلحظة اختيار وتحرر، لكن “عدم إسعاف الرقم” يشير إلى عجزه في تحقيق هذا التحرر.
بذلك تجسد العبارة الشعرية الصراع الداخلي للشاعر بين الرغبة في الهروب والسعي للتحرر والاختيار الحر.
إذن، يمكن قراءة هذه العبارة كتجسيد فني لمفهومي الوجود والحرية في فلسفة هايدغر، والقلق والصراع الذي يعانيه الإنسان في محاولة التحرر واتخاذ الخيارات المسؤولة. أتمنى أن يكون هذا التوسع مفيدًا لك.
باختصار، يمكن فهم العبارة الشعرية هذه على أنها محاولة للتعامل مع الماضي والذات بشكل فلسفي يجمع بين التخلص من الأعباء والاستعداد للنسيان، مع التركيز على التنظيم الذاتي والتقبل كأدوات للتحرر والوجود الحقيقي.
حيدر الأديب






