قراءة نقدية: الرباعية بين متعة حبّ ولوعة حبّ
فقرة :جمع بصيغة المفرد (مبدع/ مشاكس/ ناقدة)
المبدع حمد حاجي (تونس)
الرباعية :” تمرّ بمقهى المدينة”
المشاكس:عمر دغرير(تونس)
الرباعية:”أراك انتظرت قدومها”
الناقدة: جليلة المازني(تونس)
القراءة النقدية: الرباعية بين متعة حب ولوعة حبّ
أ- المشترك بين المبدع والمشاكس:
1- الرباعية وأدب المقاهي:
يمكن أن نعتبر أن الابداع والمشاكسة يندرجان ضمن أدب المقهى
وأدب المقهى هو خيال تسْنده جلبة المكان.
يقول الكاتب نجم الدين خلف الله (1):”ثمة سرٌّ مَا يحرّك الكتابة الابداعية وسط المقاهي المنتشرة في البلاد العربية والغربية سواء كانت شعبية ام راقية.
فلطالما اقترنت في تاريخ الأدب العالمي الحديث أسماء بعض كبار الكتاب بمَقَاه
تعوّدُوا على ارتيادها وألفُوا الكتابة في ضجيجها أو هدوئها مثل مقهى: Les deux magots)
هذا المقهى بحيّ سان جيرمان الباريسي حيث كان يجلس “جون بول سارتر”
و”سيمون دي بوفوار” ومن قبلهما “همنغواي و مالاريه”
وفي الفضاء العربي احْتضنتْ مقاهي القاهرة الكاتب نجيب محفوظ الذي اسْتلهَم منها حكاياته والشهرة نفسها نالتها مقاه في شارع الحمراء ببيْروت وفيها صاغ
شعراء هذه المدينة العديد من قصائدهم.
وفي تونس لمع اسم مقهى “تحت السور” الذي كان يقصده بعض الادباء مثل علي الدوعاجي وابي القاسم الشابي.
ولا شك ان هذه الاجواء الصاخبة والهادئة أحيانا فضلا عن مشهد أعمدة الدخان الصاعدة من النراجيل تخترقها حركات النادلين تُلهمُ المُخيّلة وتخلق ضرْبًا من
الانصهار بين الذات العميقة للكاتب.
وهذا ضرب من الغياب عن ذاك الوسط حيث يلجُ الوعي حالة من الانتشاء والغيبة التي تحرّك مخازن الافكار في الذهن”
وكل من المبدع حمد حاجي والمشاكس عمر دغرير قد ألْهَمَهُ المكان الذي جسّده مقهى المدينة رباعيته ولعل مقهى المدينة يشي بأحد مقاهي المدينة العتيقة المشهورة.
2- الرباعية وتسْريد الشعر:
*الراوي:
كلّ من المبدع والمشاكس تقمّصَ دور الراوي باستخدام ضمير المتكلم المفرد فالمبدع والمشاكس هما شاهدا عيان على الاحداث المسرودة.
*مقومات السرد وأركانه :
كُلّ من المبدع والمشاكس نقل لنا مَشهدا في مكان معين وهو مقهى المدينة وتحدث عن الشخصية الرئيسية وهي حبيبة المستقبل للمبدع ونقل لنا أحداثا متسلسلة وأوحى لنا بحوار مضمّن بالرسائل وشمل الوصف للحبيب وللحبيبة .
*القفلة : لقد كانت القفلة مدهشة ابداعا ومشاكسة.
ب- المختلف في الابداع والمشاكسة:
1- المبدع حمد حاجي: مُتعة الحبّ المُتبادل:
استهلّ الشاعر رباعيته بجملة فعلية فعلها لازم اقتضى مفعولا فيه للمكان(مقهى المدينة) ومقهى المدينة قد يحيلنا على أحد مقاهى المدينة العتيقة المشهود له بنوعية مرتاديه (2)
وقد ورد فعل الجملة (تمرّ بمقهى المدينة) في صيغة المضارع الذي يفيد الدوام والاستمرارية (تمرّ) فهذه المرأة تمرّ با ستمرار بمقهى المدينة.
يقابل المبدع بين الشخصية الرئيسية كفرد والشخصية الجماعية (الكلّ) وكأنّي بالمبدع يجعل المجموعة تنبهر بفرد وهي حبيبة المبدع مستقبلا(الكل في اثرها وقف) .
وقد استخدم المبدع أسلوبا بليغا ألهمه له مشهد أعمدة الدخان المتصاعد هذا الاسلوب القائم على الكناية فقد كنّى المبدع عن الجالسين بالمقهى بالرقاب التي اشرأبت لهذه الجميلة وبالادخنة والسجائر التي كانت متنفّسا لهم عند انبهارهم بجمالها.
انها صورة شعرية لجمال الحبيبة بامتياز اقتضاها خيال الشاعر وفق أدب المقاهي .
ان هذا الجمال جعل المبدع يَغْرق في حبّها ويشرح لها حالته العاشقة لها في رسائل والرسائل تقتضي ردّا عليها من طرفها ومن ثمّ كان ركن الحوار في هذه الرباعية السردية مضمّنا في هذه الرسائل المتعدّدة والتي من المفروض متبادلة.
فيقول: شرحت لها حالتي في رسائل…يا كم كتبت لها صحفا.
ان الفجوة النصية التي تركها المبدع قد تتيح للقارئ التدخل لممارسة حقه في التأويل:
قد يعتبر القارئ ان هذه المرأة لم تردّ عن رسائله التي تعددت(يا كم كتبت لها صحفا) وبالتالي لم تبادله حالة العشق التي يعيشها وقد يدعم القارئ ما ذهب اليه بذخيرة نصية تتمثل في انبهار كل الحاضرين بالمقهى بجمالها وبالتالي هناك احتمال تبادل الرسائل بينها وبين البعض منهم مما جعل المبدع يكثّف رسائله
سعيا لاقناعها بعشقه لها وهنا يزاوج المبدع بين أدب المقاهي وأدب الرسائل
فيعانق حبّه متعة المكان ومتعة الرسائل المليئة بوصف حالة عشقه لها (الشخصية الرئيسية بالرباعية السردية).
ان حالة العشق الجنوني للمبدع جعله يختم رباعيته السردية الشبيهة بالقصة القصيرة جدّا بقفلة مدهشة كسرت أفق انتظار القارئ وانتهكت حرمة تأويله الذي اعتبر ان للمبدع منافسين له على حبّ هذه المراة .
لقد أدهش المبدع القارئ بهذا اللقاء الذي حصل بينه وبين الحبيبة هذا اللقاء الذي استجاب له كل شريان من شرايين فؤاده فيقول:
فيقول: وحين التقينا كأن فؤادي تقطع بين حبائله كلما هتفا.
انه لقاء جعل الحبّ متبادلا بينهما…انها متعة اللقاء ..انها متعة الحب المتبادل.
=== يتبع ===
=== يتبع ===
2- المشاكس عمر دغرير: لوعة الحب من طرف واحد.
استهل المشاكس رباعيته باستخدام ضمير المتكلم المفرد الذي يضفي واقعية على
سردية الاحداث التي بدأها بانتظار المبدع لهذه المرأة التي تمرّ بالمقهى بصفة مستمرة وكأن المبدع على موعد يومي بمرورها واصفا مشاعره عند رؤيتها
وكأني بالمشاكس يُقرّ بجمال هذه المرأة ويشرّع لعشق المبدع لها فيقول:
أراك انتظرت قدومها وحين رأيتها نبضُ الفؤاد توقّف…
ان هذه الفجوة النصية قد تجعل القارئ يعتبر ان الانبهار بهذه المراة المارة بالمقهى قد جعله المشاكس حكْرًا على المبدع باستخدام ضمير المخاطب المفرد وبالتالي لا أحد من الحاضرين يشاركه هذا الانبهار بجمالها.
ان المشاكس يقتصر في بداية سردية مشاكسته على شخصيتين(المبدع/المراة المعشوقة)
ويواصل المشاكس ببوْح تصرّفات المبدع ليقضي وطرا من هذه المراة عند كتابة الرسائل لها .
ولئن أوحى لنا المبدع بامكانية وجود حوار بينهما من خلال الرسائل المكثفة (والحوار ركن من اركان السرد)فان المشاكس قد ألغى وجود الحوار عندماجعل المبدع يمزق هذه الرسائل لان المعشوقة لم تكترث به…يقول المشاكس:
وكم كتبت رسائل ثمّ مزّقتها لأنها ما ألقت لك الطرف…
لعل هذه الفجوة النصية قد تثير فضول القارئ وقد يُنصفُ المشاكسَ في وجود الحوار وقد يعتبر هذه الرسائل الممزقة هي نوع من الحوار الباطني للمبدع .انه حديث النفس للمبدع الذي يتغيّر بتغير نفسية المبدع وروحه المتعبة.
ومن علامات الروح المتعبة عدم الثقة في المستقبل والخوف منه وبذلك فان المشاكس قد صوّر لنا حالة روح المبدع المتعبة بامتياز بتقطيع الرسائل لعدم ثقته بامكانية علاقته بها… انه الخوف من مستقبل علاقته بها.
وهل اكثر من قسوتها في عدم رقتها لحاله وعدم عطف قلبها على دموعه
ولعل القارئ هنا قد يعتبرالمشاكسَ يثير حالة الحب من طرف واحد.
قد يستحضر القارئ رأي علم النفس عن الحب من طرف واحد فيقول:”
“يشكل الحبّ من جانب واحد خطرا على صحة الشخص وطريقة تفكيره.
في حالة الحب هذه يستنزف الشخص مشاعره دون أيّ فائدة وفي نفس الوقت
يكون الجانب الآخر من العلاقة في حالة من اللامبالاة وعدم الاهتمام.
يَكمُنُ خطر هذا الحب في الحقيقة ان الانسان لديه خوف دائم من الرفض وعدم القبول مما يولّد احساسا بالنقص”(3)
يقول المشاكس:
وكم كتبت رسائل ثم مزقتها لانها ما ألقت لك الطرف…
وما رقّت لحالك أبدا وقلبها على دمع عينك ماعطف..
ويختم المشاكس بقفلة مدهشة لم يكن القارئ ليتوقعها وتتمثل في اقحام المشاكس
لشخصية ثالثة(صديقك الاوحد) في هذه السردية (وذلك اثراء للحوار)سعيا منه لاقناع المبدع بالكفّ عن هذا الحب من جانب واحد بتحذيره من حبها.
يقول: فقط بمقهى المدينة, صديقك الأوحد حذّرك منها وانصرف…
ان هذه الفجوة النصية قد تجعل القارئ يتصوّر ان المشاكس بوصف الصديق باستخدام اسم التفضيل المطلق(الاوحد) دليل على انه عليم به ولعل هذا الصديق هو المشاكس نفسه .
وقد يذهب القارئ في تحذير المشاكس باسم الصديق الأوحد مذهبين:
– اما لانه عليم بعيوب هذه المراة التي سلبت عقل المبدع .
– اما ولعله الارجح ان المشاكس اذا سلّمنا انه الصديق الأوحد قد أشفق على صديقه المبدع من خطر الحب من طرف واحد.
وأراد أن يُثنيهُ عن ذلك بتحذيره منها لتجنيبه لوعة الحبّ من جانب واحد.
وخلاصة القول فان كلاّ من المبدع والمشاكس بتسريد الشعر قد كسرا القطيعة بين الاجناس الأدبية وانْتهَكا أفضلية جنس أدبي على جنس أدبي آخر.
وهل أكثر من أن كُلاّ من المبدع والمشاكس قد عانق أدب المقاهي وعاقر أدب الرسائل هذه الرسائل التي كشفت لنا متعة الحب المتبادل بين الحبيبين حين خُتمتْ الرسائل باللقاء بينهما عند المبدع في حين ان هذه الرسائل الممزّقة قد سلطت الضوء على لوعة الحب من طرف واحد و على خطره لدى المشاكس.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة متعة ولوعة في الحب.
بتاريخ :02/07/2024
المراجع:
https://www.alaraby.co.uk>culture(1)
أدب المقهى- خيال تسنده جلبة المكان
https://azzamanattounsi.wordpress.com>..(2)
مدينة تونس القديمة..مقاه وحنين وذكريات من الزمن الجميل
https://manasati30.com>hobb-tebb(3)
الحب من طرف واحد- منصتي30
=== رباعية المبدع حمد حاجي===
تمرّ بمقهى المدينة والكل في إثرها وقفَ
رقابٌ وأدخنةٌ وسجائر تُدنِي لها طرفا
شرحتُ لها حالتي في رسائلَ.. يا كم كتبتُ لها صُحفَا
وحين التقينا كأن فؤادي تقطّع بين حبائله كلّما هَتَفا
=== رباعية المشاكس عمر دغرير===
أراك انتظرتَ قدومها وحين رأيتها ,نبضُ الفؤاد توقف…
وكمْ كتبْتَ رسائلَ ثمّ مزقتها لأنّها ما ألقتْ لكَ الطرفَ…
وما رقتْ لحالكَ أبدا ,وقلبها على دمْع عينيكَ ما عطفَ…
فقطْ بمقهى المدينة ,صديقكَ الأوحدُ حذركَ منها وانْصرفَ…