ما وراء السطور أعظم
قراءة بقلم/
محمد البنا
لنص * موت الفراشة *
للأديبة السورية / ريم محمد Reem Mohammad
______€€______€€______
موت_الفراشة
____________
لطالما أحببتُ المزجَ والخلط، أختار مايناسبني بالضّبط، اعتبروا ذلك إلهاماً أو حاسة سادسة، أو ربما انتكاسة شعورية اكتسبتها من إحدى جولاتي في الأزمنة السابقة.
بلباسي الميداني الكامل، وملعقة الطبخ الخشبية التي ربحتها من إحدى الثقوب الزمنية في العصور الوسطى عندما كنت أمتهن الطبخ كالآن تماماً.
القِدرُ على النار، تغلي مكوناته ببطء، أضفت بعض التوابل القوية التي جلبتها معي من الهند أيام كنت أطهو في مطبخ “أنديرا”، نعم القليل فقط وبمعايير مدروسة، واستدرت استدارة كاملة وأنا أستمع لأغنيتي المفضّلة، وبطرف إصبعي-ودون أن أخشى السخونة- لعقت المكونات،
أمممم، أحتاج لطعم حلو من أين سأحضره؟، أغمضت عينيّ وذاكرتي تلهث باحثة في أعماقها عن ذلك الطعم، وأخيراً وجدته في النظرة الحانية المستعطفة للعرّابة “مليفيسنت”، أحتاجها بشدّة، فعملية الإنبات تحتاج مني تلك النظرة بالذات من عينيها القويتين.
الأمر يزدادُ تعقيداً، لكنّي مصرّة على إتمامه، الأغنية تقول :
” ارقصي ، ارقصي، ارقصي ، ثم …حلّقي، حلّقي ، حلّقي…”
آه …تذكّرت، يجب أن أُهملَ قدميّ إن كنتُ أريدُ التّحليق، فقد تعبتا كثيراً.
الوقت يمرُّ بسرعة، القِدر يغلي ويغلي، وأنفاسي المتقطّعة تسبقني،…
و…ماذا أيضاً؟ ، كيف سأستحضر شعور الغضب؟!…
تأوهت وأنا أدير رأسي يمنةً ويسرة، باحثة في الأزمنة عن أشدّ المشاهد النسائية قسوة، لأستحضر منها ما يكفيني من روح الغضب، أحتاج ذلك؛ الغضب كثير لكنه غير كافٍ للتحليق، لو كنتُ أفهم لغة العصافير، لاستفسرت، لا يجب أن أفشل، الموسيقا ترتفع، وصوت الغليان أيضاً، الرّائحة نفاذة، سأخفّف النّار قليلاً ، فالمكونات لا يجبُ أن تفسد قبل أن تكتمل…
حذاء راقصة الباليه خاصتي أصبح تالفاً؛ رقصتُ كثيراً عبر العصور ولم أصل للقمّة بعد، لذلك لا مفرّ من التّحليق.
الغضب ، الغضب ، الغضب، من أين سأجتثه ياترى!؟
وصلتني من مذكرات ” زنوبيا ” أشدّ تلك الرسائل، والتي فيها من الغضب والكبرياء الكثير الذي أحتاجه، نعم هذه هي وجدتها!…
أضفتها على شكل دمعتين قويتين.
الوصفة جاهزة، سآخذ حاجتي فقط، لا بدّ أن أنجح، لا أحتاج تعاطفاً أو مواساة، يجب أن تنبت أجنحتي مهما كان الألم شديداً، أنا على موعد مع الشّمس منذ عصور، وهي تنتظرني دائماً…
الخليط جاهز ، وألمٌ لا يحتمل بين لوحيّ كتفيّ، يبدو أني نجحت، لكن الآلام مبرّحة كالمخاض، اغرورقت عيناي بالدموع، تناولت من القِدر ملعقة، وفي طريقي إلى السّماء كانت عيوني الدّامعة تعكس من ذاكرتها الزّمنية مشاهدَ تحوّلها من فراشة إلى طائرِ الفينيق.
ريم محمد / سورية في ٥ يوليو ٢٠٢٤
*****************************
القراءة
المغزى والخطاب السردي:
____________________
من الفراشة إلى طائر الفنيق، رحلة طويلة وشاقة بدؤها ضعف ونهايتها قوة.
هذا ما ألمحت إليه القاصة المبدعة، وحاولت أن تبثه خفية في أذهان قرائها.
بطلة القصة أنثى خيالية حالمة، تستمد من الأزمنة المتعاقبة منذ بدء الخليقة أحلامها وأمانيها؛ هى زنوبيا الملكة القوية الحاكمة المسيطرة في أوج غضبها، وهى العرابة ” مليفيسنت ” في طلاوتها وعذب كلامها، وهى الطاهية الماهرة المعدة لما يمد ” أنديرا غاندي” بالقوة والحكمة، وهي راقصة الباليه في رقتها ودقيق حركتها عنوانًا للجمال في أرقى صوره، وهي المحاربة بلباسها الميداني الكامل، وهى الأنثى التي رفضت أن تظل فراشةً، فراشةٌ لا يرى فيها الذكور إلا رقة وجمال وأنوثة وصاحبة خدن!
لذا قررت أن تثور أن تتمرد على الهيمنة الذكورية، أن تتخلص من ضعفها وتحيله إلى قوة وبأس، وما الطهى هنا إلا طهى ذات، ذاتٌ تنسلخ من رقتها كفراشة، ومن أقدام تعبة تثقلها إلى الأرض ( الأنوثة )، فتستبدلهما جناحين يحلقان بها في سماء القوة ( طائر الفنيق/ الذكورة ).
لا تريد أن تصير ذكرا، ولكنها تريد أن تثبت له قوتها بعد أن استمرأ ضعفها لملايين السنين.
هى دعوة للنساء جميعًا للثورة على وضعهن الحالي الخانع المستسلم، وكأنها تقول لهن ” اصنعن بأنفسكن أقداركن، كنّ أقوياء ولا تكنّ محظيات ومتخذات أخدان، أنتن أنديرا وزنوبيا ومليفيسنت ووو، التحول مؤلم ولكنه ضروري فتحملن وجعه، فأنتن من تحملن الحمل والمخاض، فلا يشق عليكن التحول من فراشات إلى فينيق، رغم آلام التحول وأوجاعه، ففي آخر الطريق انتصار”.
اللغة والأسلوب :
____________
تتميز عادةً كتابات أ. ريم بلغة حالمة ملائكية، وبأسلوب سردي هادئ ورائق، يعتمد على المشهدية التصويرية أكثر من المشهدية الديناميكية، إلا أنها في هذا النص احتفظت إلى حدٍ ما بلغتها الحالمة، وانتهجت المشهدية الديناميكية خلافًا لما انتهجته في معظم إبداعاتها السابقة، وكما مزجت المطهي بالتوابل والمسكرات؛ مزجت السرد بالحركة التتابعية، وقفزات متعددة إلى الماضي القريب والماضي البعيد عبر ثقوب ذاكرتها الأزلية، وتراوحت حركة النص بين الأماكن المستدعاة من الذاكرة ودقائق التجول بين أروقة الذاكرة بحثًا عن مراد.
التقنية السردية :
______________
اتكأت القاصة لصياغة نصها هذا على تقنية الحركة البندولية بين حاضر وماض، في مزاوجة ممتعة بين الميدان والمطبخ واللباس والملعقة، والرقص والأقدام، والتحليق والأجنحة ووو.
كما اعتمدت تقنية الأنسنة بسهولة ويسر عبر صور بلاغية بسيطة ومتقنة.
– وذاكرتي تلهث باحثة في أعماقها
– وأنفاسي المتقطّعة تسبقني،…
– الشّمس منذ عصور، وهي تنتظرني دائماً…
دلالات سيميائية :
____________
– بلباسي الميداني الكامل
– الوصفة جاهزة
– القدر يغلي
– الخليط جاهز
– نبت لي أجنحة
– الشمس تنتظرني
– التحليق
– موت الفراشة
– دموع الفرحة بالنجاح واكتمال التحول.
محمد البنا / القاهرة في ٥ يوليو ٢٠٢٤
**************