فى مثل هذا اليوم15يوليو1958م..
مصرع رئيس الوزراء العراقي الاسبق نوري السعيد في منطقة البتاوين في بغداد في اليوم التالي للانقلاب العسكري الذي أنهى الحكم الملكي في العراق.
هو الفريق نوري السعيد بن صالح ابن الملا طه، من عشيرة القرغولي البغدادية: سياسي، عسكري المنشأ، يمتلك الدهاء والعنف. ولد ببغداد سنة 1888، من عائلة من الطبقة الوسطى ،حيث كان والده يعمل مدققاً مراجعاً في إحدى الدوائر في العهد العثماني وتعلم في مدارسها العسكرية، وتخرج في المدرسة الحربية في الاستانة (1906) ودخل مدرسة أركان الحرب فيها (1911) وحضر حرب البلقان (1912-13 19) كما شارك في اعتناق الفكرة العربية أيام ظهورها في العاصمة العثمانية، وهو عسكري وهو أيضاً سياسي من قادة العراق ومن أساطين السياسة العراقية والعربية وعرابها إبان الحكم الملكي، كما تولى مناصب وزارية ورئاسة الوزراء لفترات متعددة، ساهم بتأسيس عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة والجامعة العربية التي كان يطمح في ترؤسها، كانت له ميول نحو مهادنة بريطانيا على الرغم من حسه الوطني العالي.
بدأ حياته ضابطا في الجيش العثماني وشارك بمعارك القرم شمال البحر الأسود بين الجيش العثماني ونظيره الروسي وبعد خسارة العثمانيين عاد وحده من القرم إلى العراق، قاطعا مسافات كبير ما بين سيرا على الأقدام أو على الدواب.
انتمى إلى الجمعيات السرية المنادية باستقلال العراق والعرب عن الدولة العثمانية ثم شارك في الثورة العربية الكبرى مع الشريف حسن بن علي، يشير عبد الوهاب بيك النعيمي في مراسلات تأسيس العراق إلى أنه قد اختير لعضوية المجلس التأسيسي للعراق عام 1920 من قبل الحكومة البريطانية في العراق برئاسة المندوب السامي السير بيرسي كوكس حيث تشير المراسلات إلى أنه كتبت المس بيل بعد أول لقاء لها مع نوري سعيد: إننا نقف وجهاً لوجه أمام قوة جبارة ومرنة في آن واحد، ينبغي علينا نحن البريطانيين إما أن نعمل يداً بيد معها أو نشتبك وإيّاها في صراع عنيف يصعب إحراز النصر فيه وفي اعتقاد السفير البريطاني في بغداد بيترسون بان، نوري باشا ظلّ لغزاً كبيراً، لأنه بات بعد العام 1927 وتحديدا بعد انتحار رئيس الوزراء عبدالمحسن بيك السعدون أصبح نوري السعيد صعب الإقناع في بلد لم يتعود الإذعان لرجل أو الخضوع لسلطة ونوري كان يريد بناء العراق رغم كل الدعايات ضده من الحكومات والشعب.
وكان نوري السعيد الدبلوماسي الأول والأكثر شهرة في العالم العربي، كما كان حاد المزاج سريع الغضب ولكنه جاد وحازم في قراراته خصوصا إذا ما أراد الوصول إلى غاية ما أو تكريس سياسة ما، فإنه لا يثور ولا يتأثر بل كان يتحمل النقد اللاذع من خصومه، كان يتعمد الغموض مما يجعل المتخاطبين معه يفهمون ما يريد أن يفهمهم إياه وليس ما قاله.
وكان نوري أيضاً مناوراً بصورة فريدة، يعرف كيف يستغل الظروف والمتغيرات ويكرّسها لخدمة أهدافه. كان ميكافيلياً بالفطرة، يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، فكان يجيد اختيار ساعته ويعرف كيف يقتنص الفرص الثمينة لتقوية أوراقه الرابحة وله مبدأ خاص في الحكم عرف به وهو مبدأ خذ وطالب.
وتولى نوري السعيد منصب رئاسة الوزراء في العراق 14 مرة ما بين عام 1930 و1952.
قراراته ومواقفه السياسية
وصف نوري السعيد بأنه رجل الغرب في العالم العربي، ولكن كانت لديه من المواقف القومية ما يعد في حسابات اليوم منتهى الراديكالية، وكان مقتنعا بأن لابد للعراق أن يعتمد على دولة كبرى ليردع أعداءه.أحد عرابي تأسيس الجامعة العربية حيث تنافس مع رئيس وزراء مصر الأسبق مصطفى النحاس على تزعم واستضافة الجامعة العربية وحاول جعلها في بغداد إلا أنها أقيمت في مصر، وعمل على تعريب مدينة كركوك بتوطين الموظفين العرب فيها، مستخدما أسلوب نقل الموظفين سنويا منها وإليها، بحيث ينقل الموظفون التركمان والأكراد وقسم من العرب سنويا إلى المحافظات الأخرى لقضاء أربع سنوات خدمة مدنية فيها، وينقل إلى كركوك موظفين عرباً ليقضوا بقية عمرهم الوظيفي والحياتي فيها. من أهم القرارات السياسية الذي كان لنوري السعيد دور رئيسي فيها وخلقت ضجات عنيفة ومدوية هي دوره في تشكيل حلف بغداد 1954 والاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن 1958.
أحداث النهاية
بعد سماع نوري باشا السعيد للتفاقم المتلاحق للأحداث بعد إعلان الجمهورية وسقوط الملكية ومقتل الملك فيصل الثاني وعبد الإله عبدالحميد ولي العهد ولم تمنحه الحركة المتسارعة للأحداث الوقت الكافي لا للمقاومة ولا للهرب، إلا انه حاول الاختباء ولمدة يومين كاملين تمهيدا للهرب ومقاومة النظام الجديد كما فعل عند قيام حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941،وبعدها عاد النظام الملكي بمعاونة الإنكليز وعاد معه نوري السعيد. أما قادة الثورة الجديدة فبعد جلاء الموقف أمامهم أدركوا أن هروب نوري السعيد المعروف بدهائه وحنكته سيسبب لهم مصاعب جمة وربما بأسلوبه واطلاعه على خبايا الأمور سيقنع الإنكليز بالإطاحة بالحكم الجمهوري الجديد، وفي مساء 14 يوليو 1958 أعلن القائد المنفذ للحركة عبد السلام عارف مكافأة مالية للقبض على السعيد، وبعد يوم من ذلك قام من جانبه عبد الكريم قاسم زعيم الحركة ورئيس وزرائها بتكرار إعلان ذلك، وتوالت إعلانات هرب نوري السعيد بشكل هستيري من خلال بيانات اذاعتها وزارة الداخلية من دار الإذاعة العراقية مما وجه اهتمام الشارع نحو البحث عن السعيد بشكل محموم، وأسقطت من يد السعيد كل محاولات الاختباء والهرب وبدأت تضيق الدائرة حول تحركاته، كان هدفه أن لا يبقى مختبئا بل الفرار إلى خارج العراق ليتدبر أمر مقاومة النظام الجديد.
التنكر في زى امرأة
وعلم نوري السعيد بمقدم قوة عسكرية من المهاجمين بغرض إلقاء القبض عليه، وتنكر في زى امرأة ليتمكن من العبور من بين المهاجمين والحشود الملتفة حولهم، واختبأ لفترة وجيزة في منزل آل البصام وأراد الانتقال إلى دار التاجر الكبير محمود الاسترابادي صديقه الحميم ولذلك قرر ترك منزل آل البصام وبالفعل ترك نوري دار البصام ملتفا بعباءة سوداء وكوفيه وسار بين سيدتين متحجبتين واتجه معهما وباقي أفراد العائلة إلى الطريق المؤدية إلى حضرة الكاظمين، وعند مرورهم بدار الاستربادي وقف نوري أمام الباب الخلفي وسار الآخرون في طريقهم للقيام بصلاة الفجر. ولما طرق نوري الباب فتحت له السيدة الوقورة أم عبدالأمير زوجة الحاج محمود التي كانت بمثابة أخت لزوجة نوري السعيد، وأكرمت وفادته ولم يكن في المنزل سوى ولدها مظفر والخادمة، إذ كان الرجال ما زالوا في الخارج، فدخل نوري البيت مطمئنا ، وبعد أن استراح قليلا بدأ التشاور معها في إيجاد طريقة لإنقاذه. واقترحت السيدة أم عبدالأمير علي نوري أن تصطحبه متخفيا مع خادمتها بالسيارة عند رفع قيود منع التجول، إذ يمكن بعد ذلك إيصاله إلى مكان أمين في البتاوين هو بيت السيد هاشم جعفر زوج ابنة السيد محمود الاستربادي من زوجته السابقة وهاشم جعفر شقيق ضياء جعفر النائب والوزير في عهد نوري السعيد فالنسب الموجود يحتم الثقة بأهل البيت ومن المؤكد أن تستبعد السلطات القائمة رجوع نوري إلى بغداد ثانية، بعد أن اتجه إلى الكاظمية لعبر الحدود بعد ذلك إلى الخارج، وعند سماع الاقتراح رحب نوري بهذه الفكرة إذ كان يعلم أيضا أن صديقه الشيخ محمد العريبي يسكن في البتاوين، فربما يمكنه الوصول إليه متخفيا مشيا على الأقدام فيندمج مع رجال القبيلة، ويذهب معهم إلى الحدود للوصول إلى إيران وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. إذ كانت الأخبار الصادرة من العراق تخفي مقتل فيصل الثاني عند هجوم المعتدين على قصر الرحاب خوفا من إثارة الشعب الذي كان يحمل للعاهل الشاب المحبة والولاء فظل بعض الأمل عند نوري في إمكان إنقاذ الحكم الهاشمي في العراق إذا كان الملك حيا يرزق. وعند رجوع الحاج محمود الاستربادي وأنجاله من الصلاة أخبرتهم أم عبد الأمير بالنية المعقودة ووجوب كتمان الأمر بصورة قاطعة حتى لا تتعرض العائلة بأسرها لمكروه، فذهب كل منهم رأسا إلى حجرته ولم يطلع حتى الخدم على شخصية نوري ووجوده داخل الدار. ولما انتهت فترة حظر التجول جلس نوري متخفيا بين السيدة أم عبد الأمير وخادمتها في سيارة أهل البيت فاتجهت بهم بصورة طبيعية إلى دار السيد هاشم جعفر في البتاوين.
إلى البتاوين
وقد مكث نوري السعيد في تلك الدار لفترة قصيرة وطلب من أم عبد الأمير الاستربادي أن توصله إلى دار الشيخ محمد العريبي التي كانت تقع في محلة البتاوين جنوبي بغداد ولم تكن أم عبد الأمير تعرف مكانها وقد كان الشيخ محمد العريبي أحد كبار الشيوخ بالعمارة وتقع أراضيه الزراعية بجوار الحدود العراقية الإيرانية ومنها يمكن لنوري السعيد عندما يصل إلى هناك أن يعبر الحدود إلى إيران وهناك يمكنه البحث مع الأعضاء في ميثاق بغداد وهناك يفعل ما يرتأيه لإنقاذ الموقف في العراق، خرج نوري السعيد من دار أم عبد الأمير الاستربادي قبل الظهر بقليل متخفيا بعباءة نسائية وبسيارة عائلة الاستربادي وكان يقودها (عبد الرسول) أحد أولادها متوجهين إلى بغداد للبحث عن دار الشيخ محمد العريبي ولما كانت السيدة أم عبد الأمير الاستربادي لا تعرف موقع البيت كما مر ذكره فقد ارتأت إدخال (نوري السعيد) إلى بيت أمين إلى أن تهتدي إلى معرفة موقع بيت العريبي فأخذته إلى دار أحد أقاربها وهي دار السيد هاشم جعفر زوج ابنة محمود الاستربادي من امرأة أخرى، وقررت أم عبد الأمير الاستربادي أن تتركه هناك وتخرج وحدها للتفتيش عن مسكن شيخ ألبو محمد ثم ترجع لتأخذه إلى هناك وأوصت أم البيت أن تهيء لضيفها الشاي لحين عودتها.
وعن وصول نوري السعيد إلى دار هاشم جعفر في البتاوين تتحدث عصمت السعيد نجله نوري قائلة: وعند وصولهم طرقت السيدة أم عبد الأمير الباب بتحفظ ثم أسرت لابنة زوجها عندما فتحته بما يفيد بان نوري السعيد هارب من الشرطة ويستأذن في الدخول ثم قادته رأسا إلى حجرة الاستقبال، كما ذهبت صاحبة الدار لإحضار كوب شاي للوافدين.
دخل نوري إلى بيت هشام جعفر للتخفي لكن الأقدار شاءت غير ذلك فقد صادف أثناء دخول نوري السعيد باشا وأم عبد الأمير الاستربادي الدار وجود أحد أبناء السيد هاشم جعفر (عمر) في الدار وكان قد سمع من الإذاعة عن مبلغ الجائزة الضخمة المعلنة من السلطات لرأس نوري السعيد أو من يدل عليه حيا أو ميتا فخرج عمر هاشم جعفر حالا من البيت وقد بدا عليه الارتباك مع أخته واتصلا هاتفيا من اقرب محل تلفونيا بوزارة الدفاع مخبرين عن وجود نوري السعيد في دارهم بمنطقة البتاوين وقد انتبه نوري السعيد لخروج عمر المسرع من البيت بشكل دال على الارتباك فقرر مغادرة البيت قبل خروج أم عبد الأمير الاستربادي للبحث عن موقع بيت العريبي وعند خروجه من دار السيد هاشم جعفر عثرت قدمه بعتبة الباب المرتفعة فسقطت عن رأسه العباءة النسائية فشاهده الناس في الطريق وعرفوه وفي هذه الأثناء وصلت سيارة عسكرية تقل عددا من الضباط والجنود وعلى رأس المجموعة وصفي طاهر مرافق نوري السعيد السابق ولما شاهد نوري السعيد باشا تلك السيارة قادمة باتجاهه اخرج أحد مسدسيه اللذين كانا معه.
اختلاف الروايات
وما لبث أن تطورت المواجهة إلى اشتباك بالأسلحة الخفيفة بين نوري السعيد وعناصر القوة الأمنية حيث أصابت رصاصة طائشة أثناء تبادل إطلاق النار، السيدة الاسترابادي وأردتها قتيلة، في حين حوصر السعيد ولم يتمكن من دخول البيت أو الهرب عبر الأزقة المجاورة، وهنا اختلفت الروايات حول مصرع الباشا فإحدى الروايات تذكر أنه أصيب بعدد من الطلقات من قبل أحد عناصر القوة المهاجمة والتي أدت إلى وفاته، وتذكر رواية أخرى وردت في مذكرات الدكتور صالح البصام أحد أصدقاء نوري السعيد الشخصيين: أنه عندما وجد نفسه محاصرا وان مصيره سيكون مشابهاً لمصير الأمير عبد الإله فانه أطلق على نفسه رصاصة الرحمة، كي لا يعطي فرصة لخصومة للإمساك به وأهانته وتعذيبه.
ولكن وصفي طاهر لم يكتف بموت الرجل فأطلق النار من رشاشه على جثمان نوري السعيد باشا. أما الشاب الواشي (عمر هاشم جعفر) صاحب البلاغ عن مكان نوري السعيد باشا فقد حصل على الجائزة المقررة عشرة آلاف دينار مكافأة على إبلاغه عن موقع السعيد وسافر بثمنها إلى بريطانيا للدراسة ويقارن المراقبون بين الشاب المبلغ وبين ستة أشخاص فقراء كانوا يعملون في بيت الاسترابادي (مربية وحارس وسائق وأربعة من الخدم) وكانوا بأمس الحاجة لمبلغ كبير كهذا المبلغ وكلهم شاهدوا نوري السعيد في دار الاسترابادي ولم يجرؤ أحد منهم أن يفشي بهذا السر.
سحل الجثة
ويروي أحد المعاصرين عن لحظة سماع مقتل السعيد قائلاً: عبرنا ساحة النصر، واتجهنا مع الجماهير الراكضة إلى أحد أزقة البتاويين القريبة، حيث وجدنا جمعا من الناس تشكل دائرة حول جثة ملقاة على ظهرها على الأرض، الكل مذهول يشاهد رئيس وزراء العراق السياسي المخضرم الذي شكل العديد من الوزارات وكان له التأثير الكبير لسياسة العراق في المحافل الدولية وهو جثة هامدة ملقاة على الأرض. كان لابسا بنطال بيجامة زرقاء مخططة ، وصدره وبطنه عاريا واثر رصاصة قد ثقبت بطنه حيث قد خرج جزء من أحشائه خارج البطن مغلفاً بالشحم الأصفر.
نظرت إلى نوري السعيد راقدا جثة هامدة بلا حراك والناس في حالة من الهياج والحماس. وفجأة جاء احدهم بمطرقة حديدية فهوى بها على رأسه محاولا تهشيمها. وبعد لحظات أمسك شخص آخر بإحدى ساقيه وأخذه يسحله على ظهره باتجاه ساحة النصر وقد عاونه آخرون وانطلقوا مسرعين ، وركضت مع الراكضين خلف الجثة المسحولة على أسفلت الشارع الذي تحول إلى فقاعات سائلة بسبب حرارة جو شهر يوليو البغدادي اللاهب.
وما أن وصلت الجماهير الهائجة مع الجثة المسحولة بالشارع إلى ساحة النصر وقرب مطعم علي شيش للدجاج المشوي. وصلت سيارة جيب عسكرية فيها ضابط برتبة كبيرة مسلح برشاش قصير مع جنوده ، فصرخ بجموع الناس أن يتركوا الجثة ، جاء ليتأكد من أن رئيس وزراء العراق نوري السعيد المطلوب من قبل الثورة حيا أو ميتا قد قتل فعلا لأن وجوده حيا فيه خطر على الثورة.
بعد أن دقق النظر في وجهه وتأكد من شخصيته ، افرغ كل رصاصات مخزن رشاشه على الجثة وسمح للجماهير بسحلها بالشارع وغادر بسيارته العسكرية.
وهنا تم ربط نوري السعيد من قدمه بحبل خلف إحدى السيارات وانطلقت تسحله في شوارع بغداد والناس تركض وراء السيارة في هياج وهستيريا.!!!!!!!!!!