قراءة في قصة
( تكريم )
للمبدعة ( صديقة علي)
تكريم
أما تعبت؟ طال وقوفك ياحنونة؟ وطال تحديقك، طافت دموعك، امسحيها قبل أن تغرقي العالم، لم كل هذا؟ لك أن تفرحي.
أتذكرين؟
هس! اصمتـ، مازلت صغيرا. تقولينها بعينيك، بهمسك، بسبابتك وشفتيك المضمومتين،..وكنت أقول لك:” هذا باطل ولو أنه صادر عن أبي” كبرت وأنت تحذرينني بأن صراحتي ودفاعي المتهور سيهلكني، وكنت اقول لك وما حاجتي لحياة كهذه؟ وتقولين بغصة واستسلام :
_العين لا تلاطم مخرزا.
-وعيني ترى غيلان حيا.
أغافلك وأشهد، قلت لك:
– افرضي أنهم حلفوني على المصحف؟
تصمتين. ولم يحلفونني، لكنني تركت لضميري العنان. ومضت أيام ولم يكترث لي أحد، أما قلت يوما سأضيع نفسي بلساني؟
لن أقطعه فليفعلوا إن أرادوا..وها هم يطلبونني بكل احترام!
ماذا سأصطحب معي؟ هاتفي عليّ ألا أنساه، سأطلب من أحدهم أن يصورني، وهم يقلدونني وسام النزاهة، قد تطول لأيام فترة إقامتي معهم وعليَّ أن أكون نظيفا، الآن أدرك أهمية أن تبقى نظيف اليدين
– بسرعة، لو سمحت؛ السيارة تنتظرنا، لا تأخذ حقيبتك؛ فمبنى الإدارة غير مجهز للنوم، سنعود حال تبيان الأمر.
تبيان؟! لن أقول له إنني أخمن مرادهم؛ لأن ما قمت به يجب التستر عليه، كي لا نعطي للصوص فرصة للهروب، لاشيء يعادل راحة ضميرك وأنت تتحداهم، وتؤمن أن الله يمهل ولا يهمل؛ فها هم يتساقطون أمامي بكل آثامهم ومناصبهم، مُرافقي يرمق سعادتي بارتياب، وأنا أغرق بنشوة الانتصار، أين وجه صديقي المحبط؛ كي أخبره أن الحق لايموت، إذ يقول:
– دعك منهم، هم حيتان وأنت سمكة هشة ضعيفة.
-ليس كلهم ليس كلهم، لابد أن هناك في الأعلى من ينتظر صوتنا؛ فيضحك كأنه يشفق عليّ ويقول وهويشير إلى السماء:
– تقصد من ينتظر أرواحنا.
ويغادرني مقهقها.
مغادرة الحدود التي نحرسها بصخورها وأتربتها الحمراء، والعطش والجوع فرصة جيدة، لأشعر بآدميتي ولأول مرة أرى المدينة بهذا البهاء، عروساً تستحم بالشمس، رغم شبح الحرب المخيّم عليها، لكنها تنتشي بصباحاتها و تناسل الحياة فيها.
كل شيء هنا مختلف، صنابير المياه، الدفء، الروائح المعطرة، المكاتب الفخمة بسطوحها الخشبية اللامعة. أوصلني الحارس إلى مكتب يبدو أنه لشخصية مهمة، يتصدر الجدار الذي يقابلني شعار العدل بحروفه البرونزية.
كانت الغرفة مضاءة بشدة.. نعم، عليهم أن يبالغوا بإنارتها، كي تتضح الصور ويكون تكريمي المخمن على نور.
جلست على أقرب كرسي من الباب، وأنا أشد ظهري، أنفخ صدري، وأُعلي رأسي حتى شعرت أنه يصل للمصابيح المعلقة في السقف؛ فلقد دخلت مَجْدًّا لم أكن لأحلم به، أحضر الكلمات المناسبة لهذا المقام.
لدخوله رهبة، خفق لها قلبي، وقع أقدامه على البلاط الصقيل يحدث جلجلة، كأن قدميه تحولتا لأقدام فرقة عسكرية كاملة، لم أتمكن من الوقوف بسرعة حين زلزلني صوته، واقتلعني من اطمئناني، لا بد أن هناك خطأ ما؛ فأنا لغاية هذه اللحظة المربكة لم أكن موقوفا في سجن، كي يشتم أمي. عام كامل وأنا أغرق في (خطأ ما) ومع كل صرير لباب الزنزانة انتظر قدومهم ولا أحد يجيء.
استريحي، ولا تحبسينني ضمن إطار فقد كرهت القيود، أزيحي بأصابعك المنيرة ستار دموعك، امسحي الغبار عن شريط أسود يثقل زاوية صورتي المعلقة على جدارك المزعزع، بل انزعيه يا أمي، فغيلان المقطّع لازال حيًّا، وهم الفانون.
*******************
قراءتي لقصة ( تكريم ) …
المعادلة الموضوعية في حياتنا : ظلم البشر ..وعدل الله
ألهذا صُورت العدالة بصورة امرأة معصوبة العينين لاترى مايحدث حقيقة على هذه الأرض ..؟؟
ألهذا جعل الشاعر الحطيئة جزاء الخير محصورا بين الله والناس فقط ؟؟
ألهذا قال جبران : والعدل في الأرض يُبكي الجن لو سمعوا به … ويستضحك الأموات لو نظروا …؟؟؟
لماذا عنون الكاتب قصته ب ” تكريم ” ؟؟؟
هل هو تكريم حقا ؟؟ أم إذلال ؟؟؟
شخصيتان في القصة حاضرتان بملء المشاعر والأحاسيس .. الأم و ابنها ..
سرد ملون بأسلوب الاستفهام الاستنكاري والحوارات القصيرة تبدأ الكاتبة سردها بقولها : ” أما تعبتِ ؟ طال وقوفكِ يا حنونة ؟ ” ..
سردية تحمل بين طياتها مواساة وتعاطف كبيرين، من هي تلك الحنونة ؟؟ إنها أمه كما تخبرنا نهاية القصة ..
طافت دموعها، فيطلب منها أن تمسحها قبل أن تغرق العالم بها .. وتتعاظم المواساة بقوله : ” لكِ أن تفرحي ”
توحي المقدمة من خلال كلمتي ؛ ” تكريم ، تفرحي ” بوجود وسام يستحقه الشاب ..
ثم يعود الشاب في القصة ليسرد لنا حنين الماضي القديم ؛ الماضي الذي يستذكره مع أمه وهي تقول له : ” هس! اصمت مازلت صغيرا .. وأقول : ماحاجتي لحياة كهذه ؟ فتقولين بغصة واستسلام : العين لاتلاطم مخرزا ” ..
هو العجز أمام القوة الغاشمة .. هو اللسان أمام العدالة العمياء .. هو الوهم أمام الحقيقة العارية ..
ظنّ الشاب أنهم يطلبونه بكل احترام .. لذا قرر اصطحاب هاتفه كي يطلب من أحدهم تصويره، وهم يقلدونه وسام النزاهة، لذا عليه أن يكون نظيفا، كما كانت يداه نظيفتان في السابق ..
خياله أومأ إليه أنه لاشيء يعادل راحة الضمير وهو يتحدى اللصوص والفاسدين .. إيمانه أكد له أنّ الله يمهل ولا يهمل .. وأمام الحق يتساقطون أمامه بكل آثامهم ومناصبهم ..
عاش نشوة الانتصار ظناً منه أنه على صواب، وأن الحق لايموت .. أراد أن يقطع شك صديقه الذي قال له مرة : دعك منهم، هم حيتان وأنت سمكة هشة ضعيفة . فكان رده : ليس كلهم ليس كلهم ، لا بدّ أنّ هناك في الأعلى مَن ينتظر صوتنا .
كم كان متفائلاً !!! حتى رأى مدينته بهذا البهاء والإشراق، وكأنها عروس تستحم بالشمس .. تراها كذلك ؟؟؟ إنها رغم الحرب بدت له جميلة كالعروس ..
يصف الكاتب المكان الفخم الذي قاده إليه السائق، والذي بدا مكتباً طاغيا في فخامته، وكأنه لشخصية مهمة تمتهن مهنة القضاء من خلال ما ذكره الكاتب لشعار العدل بحروفه البرونزية .. ثم بعد وصفه الدقيق للموجودات الثمينة في تلك الغرفة، ينتقل الشاب إلى حالةٍ تزلزله يقول : ” كأنّ قدميه تحولتا لأقدام فرقة عسكرية كاملة، لم أتمكن من الوقوف بسرعة حين زلزلني صوته، واقتلعني من اطمئناني ..”
هنا تبدو ذروة العقدة في القصة، إذ كيف حصل معه ذلك ؟ حاول تبرير ذلك بقوله: ” لابدّ أنّ هناك خطأ ما ” ، أصبح الشاب موقوفا في سجن، تُشتم أمه، متأملا مجيء أحدهم إليه .. وعبثا يأتي أمله ..
هذا الشاب الذي سرد لنا تلك القصة يفاجئنا أنه صورة حبيسة ضمن إطار، وعلى زاويتها شريطة سوداء كساها الغبار، يأبى أن يكون حبيسا ولو ضمن صورة .. فكيف ضمن هذا الكون …!!!
إنه غيلان وهو يستدعي والدته الحنونة لتنزع عنه ذاك القيد ؛ الموت .. إنه لم يمت .. لازال حيا …
لقد اختارت الكاتبة” صديقة علي ” اسم شخصيتها غيلان مفرد غول .. لتمنحها مزيدا من القوة والصلابة والعزيمة ..
قصة تحرك الوجدان من الأعماق، لتقول لنا : نحن في زمن المتناقضات ؛ حيث الشريف النزيه سجين ذليل .. بينما الخائن الفاسد طليق محترم ..
نحن في زمن صراع القيم والأخلاق .. زمن الخديعة والزيف والدهاء .. زمن القهر والانكسار الموجع ..
طريق الحق موحش لقلة سالكيه ، وصوت الحق مخنوق .. ليس سوى ضمير يمد رأسه بين الأموات ليقول : مازلت حياً ، لم أمت .. بل ؛ أنتم الفانون .
رولا علي سلوم
شكرا للصديقة المبدعة ” صديقة علي” وقد أمتعت ذائقتي الفنية بهذه القصة المعبرة ..
كزهر اللوز أو أكثر تنثرين عبق حروفك في ذاكرتنا صديقتي ..⚘⚘