مفهوم الأمن القومي ..
د.علي أحمد جديد
لم يعد مفهوم الأمن القومي يقتصر على تعريفه السابق والمنحصر بالاحتياطات العملية في حماية المجال الإقليمي للدولة ذات السيادة ، كما لم يعد يعني مفهوم الأمن القومي دراسة العلاقات الداخلية والخارجية بين دولةٍ ما وبين مواطنيها من وجهة نظر وطنية وقومية، ولا البحث في السياسة العالمية إلا من وجهة نظر تعتنق فلسفة القوة ، وحتى القوة القاهرة في كثير من الحالات ، لأن الضرورات الأمنية في هذه الحقبة التاريخية باتت لا تعرف قانوناً للتاريخ القومي للأمم والشعوب في خدمة هذه الأغراض ، وبات مفهوم الأمن القومي يشمل حماية الثروات الاقتصادية و الثقافة الوطنية والهوية القومية لتحصينها باحتياطات تكرس السيادة الوطنية على الأرض في حدودها الإقليمية وفي مصالحها الداخلية والخارجية المرتبطة ببنائها القومي والثقافي الحضاري . ومن هذه النقطة باتت تتفرع مفاهيم الأمن القومي في بنيتها الوقائية بحيث لا تقتصر على تعزيز القوة العسكرية في تكريس وحماية السيادة الوطنية وحسب ، بل تتعدى ذلك إلى السياسة الخارجية في التقديرات الاستراتيجية للواقع الإقليمي المحيط ، ومدى التقارب أو التناقض الحضاري والإيديولوجي بين الدولة وبين جاراتها الإقليمية ، وكذلك دراسة إمكانيات الدول ذات المصالح المتعارضة مع مصالحها الوطنية والقومية والثقافية في تاريخهاالحضاري ، وتوفير الحماية الأمنية إزاء الأخطار المحتمل ظهورها من الأعداء المباشرين ، أو توطيد التعاون مع البلدان الحليفة والصديقة للحصول على المساندة والدعم الفعليين في حالة نشوب صراع مسلّح .
وبعد امتداد الحرب الكونية على سورية لأكثر من عقد من السنوات ، لم يعد هناك مجال الإنكار أننا اليوم ، فعلاً ، نواجه أزمةً وطنية وقومية ، وأن تجاوز هذه الأزمة والتغلب عليها يقتضي التفاهم الشعبي (الجماهيري) لإيجاد سياسة قومية تتمحور حول أمن قومي سوري لايستثني أي جزء أو كيان من سورية الطبيعية انطلاقاً من الالتزام القومي على مستوى الأمة السورية وعلى مستوى مساحة الوطن السوري الذي تم تقسيمه ، والذي لن تتوقف محاولات تقسيم ماتم تقسيمه ، وهو التزام يرتبط بحتمية حماية أمن كل جزء سوري وضرورته .
لقد بات الأمن القومي السوري مهدداً ومعرضاً للانهيار لأننا أهملنا ومازلنا نهمل الاعتماد على الخصوصية السورية تاريخياً وحضارياً ، والتفتنا إلى الإندماج الطبي والكامل بالمحيطين العربي والإقليمي على اعتبار أن ذلك الإندماج سيزيد من تماسك وقوة الأمن القومي الوطني لسورية ، لتأتي الحرب الكونية على سورية وتكشف أن المحيطين العربي والإقليمي كانا مجرد أدوات في حصار سورية وسهام متقنة التصويب والتسديد على قلب حضارتها الإنسانية والتاريخية ، وأن ذلك المحيط العربي والإقليمي هو في حقيقته العمق الاستراتيجي لحماية الكيان اللقيط المحتل من كل ما كان يتهدد وجوده في مرحلة سابقة ، وانقلبت ماكان معروفاً بسياسة مقاطعة العدو إلى سياسة حصار سورية والسوريين بقرار من (اصطبل) جامعة الدول العربية لتكون تلك الجامعة بدولها (الشقيقة) أكثر التزاماً بتخريب سورية وبحصارها من الدول الصديقة مثل فنزويلا وروسيا والجمهورية الإسلامية والصين كوريا الشمالية على سبيل المثال لا الحصر ، وكما تحولت اليوم مصر والأردن وتركيا ومشيخات الخليج إلى عمق استراتيجي فاعل و داعم لسياسة التدمير والقتل والإبادة التي يمارسها جيش الكيان اللقيط والمحتل في غزة اليوم .
لقد بات الأمن القومي السوري يحتل أولوية رئيسة في كل حديث عن إشكالية وحدة المجتمع السوري في الحفاظ على المقدرات المستقبلية والجهود التنموية التي نخوضها بعيداً عن التمسك بإرثنا الحضاري العريق وبهويتنا الثقافية السورية المميزة والتي لايمكن النجاح بدون الانطلاق من الانتماء لجذورها والتي لا يمكن أن تتفرع عنها فروع مناقضة كالتعريب أو التأسلم التدميري لأن سورية في كل تاريخها كانت ومازالت تستوعب كل الفكر الديني الصحيح والمعتدل وكل الاثنيات التي عاشت ولجأت إليها لتكون ملاذها الآمن .
إن إهمال التمسك بأصالة الجذور والالتفات إلى وهم الفروع أثبتت أن تلك الفروع ماهي إلا سهام يتم تسديدها للنيل من سورية بكل مجدها وبكل حضارتها واصالتها ، تمهيداً لمتابعة تقسيمها خدمة لأمن وسلامة الكيان اللقيط المحتل ، لأن الأمن القومي الفعلي هو مجموعة الإجراءات السليمة التي يمكن اتخاذها للمحافظة على أمان الوطن والمواطن في الحاضر وفي المستقبل البعيد على حَدٍّ سواء ، مع مراعاة الإمكانيات المتاحة وتطويرها بموجب المتغيرات الإقليمية التي يتصارع حدوثها بشكل لايمكن الانصراف عن الاهتمام بها لأي سبب من الأسباب وتحت أي ذريعة كانت .
ولتحقيق الأمن القومي السليم لابد من دعم وجود القيادة السياسية الواحدة والموحدَة والقائمة على أساس إجماع شعبي داعم ومساند للخطط القيادية في توفير أمن الوطن الذي هو من أمن المواطن ، وذلك لايمكن أن يتوفر على بالحصول على ثلاثة أسس رئيسة وهي :
” الإرادة و المَقْدِرَة و القوة ”
فالإرادة شيء لايمكن القضاء عليه ، لأن الإنسان كائن حيّ يولد ومعه إرادته المستقلة ، والوطن كائن حيّ تكون إرادته من إرادة شعبه ومواطنيه ، وإذا كان من المستحيل القضاء على إرادة المواطن ، فإنه سيكون من المستحيل أيضاً القضاء على إرادة وطن بقيادةٍ تستجمع إرادة المواطنين ككل ، والتي يمكن بواسطتها تجاوز كل الضغوطات الخارجية منها والداخلية مهما كان حجمها وتأثيرها ، خاصة، إذا تم التوفيق بين الآمال الوطنية وبين الإمكانيات المتوفرة في توظيفها ، لأن السياسة هي تحقيق الممكن دائماً وغير المستحيل ، وتلك هي مهمة القيادة المطلقة والتي لايمكن تحقيقها إلا بالحدّ من تفشي الفساد ومحاصرته للقضاء عليه ، ليأتي من بعد ذلك التوافق التام بين القيادة وبين المواطن في ترسيخ أمن قومي قوي وسليم .






