ورشة واحة القصة القصيرة
إعداد الأستاذة منال خطّاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحلقة الثانية: ” القصة القصيرة ومتعة الرمزية”
ومتعة النقد بصحبة الناقدة :جليلة المازني (تونس)
عطفا على ما سبق:
هأنذا، أواصل نشر آراء السادة النقاد، فى القصة القصيرة “أشرقت حياتى”، التى بدأتها يوم الإثنين، الخامس من أغسطس، 2024، بنشر رؤية أكاديمية علمية ثاقبة، للأديب والناقد الكبير، مصطفى بالعوام.
واليوم، نلتقى بأديبة رائعة وقديرة، وناقدة لا يشق لها غبار، وقد قدمتها الأستاذة الأديبة القديرة/ منال خطاب، بقولها:
قلم نقدي رصين ومتمرس، وحضور بهي ومائز، ورؤي جادة وقيمة، وجهد وافر نعجز عن توصيفه … إنها الجميلة جليلة المازني، وقراءة لنص “أشرقت حياتي”.
قراءة نقدية:
” القصة القصيرة ومتعة الرمزية”
القصة “أشرقت حياتي نموذجا”
الكاتب :أبو السعود السباعي
الناقدة :جليلة المازني (تونس)
ورشة واحة القصة القصيرة: إعداد الأستاذة منال خطّاب.
القراءة النقدية: ” القصة القصيرة ومتعة الرمزية”
اختار الكاتب أبو السعود السباعي عنوان قصته القصيرة” أشرقت حياتي”أن يكون جملة فعلية، فعلها لازم ومزيد على وزن أفعل، يفيد الصيرورة ووجود الشيء على حالته . والفعل أشرق مشحون بمعنى التفاؤل وأن هذا الإشراق سيشمل حياته .
أي اشراق سيشمل حياته؟ فلربما قد يحتمل العنوان تأويلا آخر قد نقف عليه في غضون التحليل.
لقد استخدم الكاتب ضمير المتكلم المفرد بما يضفي على القصة الواقعية.
فأي إشراق لحياته يطالعنا به الكاتب؟ وأيّ جانب من حياته سيشرق؟
استهل الكاتب قصته بتأفف من الحياة ودخل في حديث سلبي مع النفس
ليكشف لنا سبب ضيقه من الحياة؛ فكانت وحدته المميتة بسبب الفقد الذي حرمه من كل أفراد عائلته.
هذه الوحدة التي جعلته يتمنى الموت فيقول”ضقت ذرعا بالحياة، ولا أفتأ أردد بيني وبين نفسي:لماذا طال بي العمر حتى الآن؟”، إنها وحدة قاتلة، فلا يرى غيرشقته، ولا يسمع غير صداها.
يتذكر الكاتب أيام كانت شقته تزخر بأبنائه، و الآن قد غيّبتهم الحروب؛ حيث استشهدوا فهو يشعر بالمرارة بدل المرة مرّات :
– يشعر بمرارة الوحدة، ومرارة الفقد وهو يدفن الابن تلو الابن.
– يُسرّ هذا الأب الوجع وألم الفراق ..إنه خسر أبناءه وخسر ذخيرته يوم مماته،كأني بهذا الأب يرثي أبناءه وهو يقول:”كم تمنيت لو كنت ثاويا في قبري حتى لا أموت كل يوم بدلا من المرة مرات، كلما تذكرت روحي وهي تسحب مني وأنا أرمسهم في قبورهم بيدي، الواحد تلو الآخر وكنت أدخرهم ليوم مماتي”، وكأنّ لسان حاله يردّد ما قاله أحد الشعراء:
أنتم ملاذي في الحياة نذرتكم//حتى تصونوا شيبتي وحطامي
وهنا يقول ابن الرومي في رثاء ابنه:
بُنيّ الذي أهدته كفاي للثرى // فيا عزة المُهْدَى ويا حسرة المهْدي
يقول الشاعر محمد بن وهيب الحميري:
من يتمنّى العمر فليدّرع//صبرا على فقد أحبائه
ومن يعمّرْ يلق في نفسه// ما يتمناه لاعدائه
ويقول محمد مهدي الجواهري:
في ذمة الله ما ألقى وما أجد// أهذه صخرة أم هذه كبد
قد يقتل الحزن من أحبابه بُعدُوا// عنه فكيف بمن أحبابه فُقدُوا
وهل هناك أكثر من أن معاناة هذا الأب مضاعفة :
معاناة الفقد، ومعاناة المرض، الذي حوّل مائدة الأطعمة إلى أدوية فيقول الكاتب:
“ما بال المائدة التي كانت تزدان بأطايب الطعام والشراب، استحالت لطاولة تنوء بما عليها من قوارير وعلب دواء.”
إن الكاتب أبو السعود السباعي، قد عبّر عن معاناة هذا الأب النفسية بسبب الوحدة بامتياز؛ وذلك باستخدام الحوار الباطني أو ما يصطلح عليه بالمونولج؛ والحوار الباطني هو” خطاب بدون مستمع، تكشف فيه الشخصية عن أفكارها الأشدّ حميمية، والأقرب إلى اللاشعور بجمل مباشرة شديدة الاختزال”(1).
إن هذا الحوار الباطني، هوحديث سلبي مع النفس جعله الكاتب مُتنفّسًا لهذا الأب الذي يعاني من الوحدة القاتلة التي جعلته يَكْفُرُ بالحياة .
إن الكاتب قد خطا في أرض الكتابة بخطى متزنة، فورد الجزء الثاني من القصة محكوما بثنائية الإيجاز والتكثيف باستخدام الرمزية.
والرمز هو “تكثيف دلالي إيحائي لصورة تتبدّى في مخيلة الأديب، ووظيفته تكمن في إعطاء النص بعدا عميقا ورحبا وحركة فاعلة في كلماته ودلالاته”(2)
إن الرمزية في قصة “أشرقت حياتي”، جمعت بين الرمزية الروحية الدينية، والرمزية الاجتماعية، والرمزية الوجدانية الإنسانية:
1- الرمزية الروحية الدينية: بعد حديث النفس السلبي لهذا الأب، وما يعيشه من معاناة بسبب الفقد، يُدْهشنا الكاتب ويَكْسرُ أفق انتظارنا، ويفاجئنا برفع الآذان لصلاة الظهر؛ ليقو م هذا الرجل الوحيد(الأب) للوضوء للصلاة؛ والوضوء طهارة للنفس مما انتابها من حديث سلبي، وطهارة للجسد مما تراكم عليه من أدران .
والصلاة عبادة الخالق، وكُفر بالشيطان الذي راوده كثيرا، ولعب بعقله في حديث النفس.” إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر” (العنكبوت(45)).، يقول أبو العالية”: إن الصلاة فيها ثلاث خصال:
1- الإخلاص،(يأمره بالمعروف).
2- الخشية، (تنهاه عن المنكر).
3- ذكرالقرآن (يأمره وينهاه).”(3).
وبالتالي فرفْعُ أذان صلاة الظهر، له دلالته الرمزية، التي حوّلت هذه الشخصية من شخصية يلعب بعقلها الشيطان إلى شخصية تعبد الله.
وهنا يتدرج الكاتب في تنامي ملامح هذه الشخصية، التي أعمى الشيطان بصيرتها؛ فتعيد الصلاة إلى هذه الشخصية البصر والبصيرة؛ فيقول الكاتب:”أرفع رأسي لأعْلَى لمشاهدة واجهة البيت فوقعت عيناي على شرفة شقتي، فبدت لي وكأنني أراها لأول مرة”.، هذه التغذية الروحية ستغذي فيه الشعور بالآخر، وبالتالي المجتمع ليخرج من وحدته وعزلته.
2- الرمزية الاجتماعية: إن الصلاة التي قذفت في صدره نورا جعلته يحس بالحياة الاجتماعية، التي حُرم منها، وقد جسّد هذه الحياة الاجتماعية زوجان من الحمام، ولا يخفى علينا ما يرمز له الحمام من السلام والألفة والعشرة والوفاء.
وإذا بالكاتب قد أراد من هذا الأب أن يخرج من قوقعته ويرى الآخر، ويتعايش معه، وقد رمز لذلك أيضا بثلاث نوافد، هي في الحقيقة نوافذ يلج منها إلى الحياة (كل ما تذكرته أن هناك ثلاث نوافذ أيضا).
وزوجا الحمام، يعود بنا إلى بداية الخلق مع آدم وحواء، وقوله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم “(الحجرات 13).
إن الكاتب ألقى في طريق هذا الأب زوجَيْ حمام لما يرْمُزان إليه من حياة جماعية، حُرم منها هذا الأب، وهو يعيش العزلة النفسية والاجتماعية.
إن الطهارة الروحية والرغبة في الحياة الاجتماعية، قد حرّكتا في نفسه الرغبة في تنظيف شرفة بيته، ولهذا رمزيته في التخلص من الأدران التي “لوّثت” حديثه النفسي.
هنا يضيف الكاتب عاملا آخر يُحْيي في نفس هذا الأب والزوج الأرمل ما مات من ماضيه التليد؛ وإذا به يسمع صوت امرأة فيقول:”رنّ في أذني صوت نسائي رقيق عذب يقول :”كيف حالك يا أستاذ طاهر؟”.
3- الرمزية الوجدانية الإنسانية:
إن قدوم هذه المرأة له رمزيته الوجداية والإنسانية، فهذا الأب وهذا الزوج الأرمل، الذي حُرم من كل المشاعر الحميمية؛ سواء مع الأبناء أو مع الزوجة؛ بسبب الفقْد، فإذا بالكاتب يعمد إلى إيقاظ مشاعره لينتشله من هذا الجفاف العاطفي، الذي قد يودي بحياته، ويبدو أنها راقت له(وقد أدهشتني أن اشراقة الجمال التي تتحلى بها لم تغرب عنها بعد..)، إضافة إلى ذلك فإن الكاتب قد انتشل هذ الأب والزوج الأرمل من ذاك الحوار الداخلي و الباطني القاتل، وحديث النفس السلبي إلى حوار خارجي حقيقي و حيّ؛ ليجد من يُبادله الحديث ويردّ عليه، وقد تنفّسَ بحوار مع جارته “أشرقت”.
وهنا نعود إلى العنوان الذي افترضنا أنه جملة فعلية، و هنا قد نفترض تأويلا آخر، وهو أن العنوان قائم على أسلوب بلاغي بديعي بامتياز استخدم الكاتب فيه التورية؛ والتورية هو أن يستخدم الكاتب معنى قريبا لا يقصده بل يقصد معنى بعيدا؛ فالعنوان تضمن فعلا ” أشرقت”، والفعل هو المعنى القريب، الذي يتبادر لذهن القارئ لأول وهلة، ولكن الكاتب يقصد به اسم جارته “أشرقت”، (وهو المعنى البعيد)، بما في هذا الاسم من رمزية؛ لينتشله الكاتب به من الظلام إلى النور، ومن التشاؤم إلى التفاؤل، ومن كفر بالحياة إلى إيمان بالحياة.
إن وجود هذه المرأة، سيؤثر إيجابيا فى هذا الأب والزوج الأرمل.
إن هذه المرأة تجسّد الجانب العاطفي والوجداني، الذي سيحدث التوازن في شخصية هذا الأب والزوج الأرمل.
– وهل أكثر من بعْث الحياة لزوجي الحمام مأكلا ومشربا ؟
– وهل أكثر من أنه أصبح يرى الحياة في كل مكان؟ يقول الكاتب:
(وإذا بي أبصر أشياء لم أكن أراها من قبل، أو كانت موجودة ولم أعرْها اهتماما؛ أشجار تحف بالبناية، وتمتد بطول الطريق، وأزهار عديدة وعجيبة تزدان بها شرفة الست”أشرقت”، وهذ الطيور الجميلة التي اختارت شرفتي..)
– وهل أكثر من أنه التفت إلى مظهره؛ ليُعيد إليه أناقته ؟( وقلت لنفسي بحزم:قد آن الأوان للتخلص من هذه اللحية الكثة..”
إن الكاتب قد جعل هذا الأب والزوج الأرمل يغيّر ما بنفسه جوهرا ومظهرا .
إن الكاتب قد جعله يثوب إلى رشده، ليستعيد إنسانيته بكل جوانبها: الروحي والاجتماعي والوجداني والإنساني قناعة منه أن الحياة لا بد أن تستمرّ.
إنها مصالحة مع الذات فتحوّلت الشخصية في القصة من كفر بالحياة إلى إيمان بالحياة :مصالحة مع الله ومصالحة مع المجتمع ومصالحة مع وجدانه ومصالحة مع إنسانيته…وهنا تكتمل ملامح الشخصية في القصة من كافرة بالحياة ومتشائمة إلى متفائلة ومؤمنة بالحياة.
إن هذا الأب والزوج الأرمل، سعى إلى تغيير حياته فتغيرت وأشرقت من جديد.وإذا به إنسان جديد.
ولعل القارئ من خلال هذه الذخيرة النصية قد يستحضرقوله تعالى:” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”( سورة الرعد الآية(11) .
سلم قلم المبدع المتمرّد أبو السعود السباعي، الذي جعله متميّزا .
بتاريخ 29 /07 /2024
المراجع:
https://ontology.birzeit.edu>term(1)
معنى “حوار داخلي” في المعاجم العربية والانطولوجيا مترادفات ,ترجمات
https://www.facebook.com>permal..(2)
تعريف الرمز :هو تكثيف دلالي…-عبد الرحمان محامدية ا فيسبوك
https://quran.ksu.edu.sa>katheer(3)
القرآن الكريم – تفسير ابن كثير- تفسير سورة العنكبوت- الآية45