قراءة نقدية مزدوجة:
“الرباعية بين المُتخيّل والواقع”
فقرة جمع بصيغة المفرد(مبدع /مشاكس / ناقدة )
المبدع:حمد حاجي (تونس)
الرباعية:”هبي أنني في هباب جهنم..”
المشاكس:عمر دغرير(تونس)
الرباعية:”تأكد فمهما انتحبت..”
الناقدة:جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية: “الرباعية بين المُتخيّل والواقع”
1- المشترك بين القصيدتين:
أ- على مستوى الشكل:
– الرويّ: ورد حرف الروي في كل من الابداع والمشاكسة “الباء”
والباء صوت جهوري احتكاكي يتلاءم مع الحالة النفسية لكل من المبدع والمشاكس وكل منهما يأمل في تغيير الواقع.
– المعجمية اللغوية: أنتحب/ انتحبت جنات/ جنة /أنهار خمر/خمور/شربة ماء / الذهب/
ب- على مستوى المضمون:
– طلب شربة ماء
– المرجعية الدينية.
2- المختلف بين المبدع والمشاكس:
أ- المبدع حمد حاجي و المتخيّل:
ان هذه الرباعية تحظى في ديوان المبدع (عند عينيها علائم زوبعة) بمنزلة كبيرة
حيث نقشها مكتوبة على قفا الديوان.فهل لذلك رمزيته؟
استهل المبدع رباعيته بوضع فرضية باستخدام عبارة ” هَبي أنني في..”
والفرضية في البحث العلمي قد تقتضي التأييد كما قد تقتضي الرفض وقد يتمّ دعمها كما قد يتمّ دحضها.
هذه الفرضية عززها بتقنية في الخطاب وهي ضرب المثل بين الجنة وجهنم
وببراعته المعهودة رسم لنا المبدع مشهدين مشهدا بجهنم استخدم فيه ضمير المتكلم المفرد ومشهدا بالجنة واستخدم فيه ضمير المخاطبة فجعل مشهد جهنم “يخاطب” مشهد الجنة فيقول:
هبي أنني في هباب جهنم
محشورة أضلعي
وأنادي وأنتحب…
وأنت بجنات ربك
تحتك أنهار خمر
وسكناك وما كتبوا..
وفوقك
فاكهة متدلية وثمار
وفي معصميك الأساور
والذهب…
هنا يقابل الشاعر بين جهنم التي حُشرت فيها أضلعه وهويستغيث ويطلب النجدة من حبيبته التي تنعم في الجنة بما في الجنة من نعيم(انهار خمر/سكناك قصر/ فاكهة متدلية وثمار/ في معصميك الاساور والذهب)
ان الحبيب يفترض أن حبيبته في الجنة ويفترض أنه في الناروهو يطلب منها
شربة ماء والماء حياة أو موت في انعدامه.
فالفرضية هل ان الحبيبة التي هي بالجنة ستعطي حبيبها الذي هو في جهنم شربة ماء وتشفع له بذلك؟؟
وبالتالي هل هذه الحبيبة ستشفع لحبيبها لتحْييه بشربة ماء؟ “وجعلنا من الماء كل شيء حيّ “(سورة الانبياء 30)
لماذا هذا الحبيب اختار الحبيبة شفيعة له لتمْنحه شربة ماء وبلّة ريق؟
ألا يعلم هذا الحبيب أن الشفاعة لا تكون الا للنبيّ محمد (عليه الصلاة والسلام)
وهو شفيع المسلمين والبشر جميعا (الآية 23 سورة سبأ “ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أذن له”) وثبوت الشفاعة للنبي.؟
هل أن الحبيب يقدّس الحبيبة حدّ جعْلها تشفع له بشربة ماء وهوفي جهنم وهو الذي يريد في قصيدة سابقة امرأة “بيقين النبي الرسول”؟
وفي هذا الاطار سيردّ المبدع على الفرضية الاستفهامية التي وضعها والمتمثلة في :اذا كان في جهنم وكانت الحبيبة في الجنة هل ستشفع له وتعطيه شربة ماء؟
هنا يدحض المبدع فرضيته بالرجوع للدين معتبرا ان لا شيء يشفع للانسان الا عمله في الحياة الدنيا فيقول:
أم الناس في الدين..
ما فعلوا بالحياة.
وماكسبوا…
ومن خلال تلك الفجوات النصية (…) قد يتدخل القارئ ليدعم رأي المبدع بقوله تعالى في سورة الزلزلة (ومن يعملْ مثقال ذرة خيرا يرَه(7) ومن يعملْ مثقال ذرة شرّا يره (8))
في هذا الاطار لا يخفي المبدع مرجعيته الدينية الاسلامية فدحض فرضيته بأن جعل الحساب عند الله وفق أفعال الانسان في الحياة الدنيا وكان ضرب المثل بجهنم والجنة ليعتبر الانسان بان الحياة الدنيا جسر للأخرى.
يقول تعالى:”..ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون”سورة ابراهيم الآية(25).هذا من مرجعية دينية.
هل ان الفرضية التي وضعها المبدع وما تبعها من ضرب المثل في المتخيل يعكس واقعا جحيمًا يعيشه المبدع الحبيب مع حبيبته؟:
ان تقنية ضرب المثل بالجنة والجحيم وحاجته الحياتية لشربة ماء تحْييه كانت في خدمة الجانب الديني والجانب الواقعي بامتياز:
بقدر ما سلّط المبدع الضوء على أن الحساب هو وفق أعمال الانسان في الحياة الدنيا بقدر ما سلّط الضوء على معاناة الحبيب المصيرية وأزمته العاطفيية حين جعل انفراج هذه الأزمة رهين حاجة حياتية وهي الحاجة الى الماء وبين وجود الماء وانعدامه حياة او موت.فالماء حياة وجنة مع الحبيبة وانعدامه جحيم وموت
وهنا قد يتدخل القارئ بفضوله المعهود متسائلا:
– هل المبدع يعيش جحيما في بُعْده عن الحبيبة بعد الجنة عن جهنم ويرى الجنة معها ؟
– هل المبدع رهين شربة ماء من حبيبته لكي يَحْيَ؟
– هل خروج المبدع من الجحيم رهين شربة ماء من جنة الحبيبة؟
– هل أن قسوة الحبيبة على المبدع في الواقع جعلت منه يعيش جحيما؟
– هل ان جحيم الواقع الذي يعيشه مع الحبيبة جعله يفترض هذا المتخيل لعله يظفر بشربة ماء تبلّ ريقه؟
لعلنا نجد جوابا شافيا لدى المشاكس:
=== يتبع ===
=== يتبع ===
ب- المشاكس عمر دغرير والواقع
يستهل المشاكس رباعيته بتأكيد شماتة سعدى فيما يتلقاه المبدع من عذاب الجحيم
يقول المشاكس:
تأكد …فمهما انتحبت
ومهما صرخت فيسعدها
أن تراك وقودا
لنار تلتهب…
ويسعدها أن تراك هناك
تندب حظك
هنا ومن خلال تلك الفجوات النصية قد يتدخل القارئ وقد يعتبر المشاكس قد أفرط في تعاطفه مع سعدى مما جعله يُبيح لسعدى وهي التي يصح فيها قوله تعالى “من الكاظمين الغيظ والعافين على الناس” الشماتة والتشفي في الحبيب الذي يعيش الجحيم .
فكيف يجعلها المشاكس تسرّ كل هذا الحقد لتشمت في حبيبها الذي أحبته حبّا معتّقا
وقد قال تعالى في سورة آل عمران(140)”ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس”فالشماتة والتشفي في المصاب الذي يصيب الانسان أيّا كان مُخالف للأخلاق النبوية الشريفة والفطرة الانسانية السليمة.
ولئن كان المبدع يطلب الشفاعة من الحبيبة بشربة ماء فان المشاكس يحصر العفو بيد الله وحده ايمانا منه بقوله تعالى في سورة غافر(60) ” وقال ربّكم
ادعوني أستجبْ لكم”.يقول الشاعر
وترجو من الله ان يعفو عنك
فهو السميع
لكل من يشكو اليه , وعفوه يُطلب
ولئن كان المبدع في المتخيل يرجو من حبيبته التي افترض انها بالجنة ان تشفع له بشربة ماء فالمشاكس يعود بالمبدع الى الواقع ليذكره بالجنة التي كان ينعم بها في الواقع مع سعدى ولم يحمد تلك النعمة.
ولئن كانت شربة الماءالتي طلبها المبدع من حبيبته التي هي بالجنة فالمشاكس يُنكرها عليه لانه كان سببا في جف ريقها وأحزنها سنوات وهذه شماتة أخرى
فيقول:أتطلب شربة ماء
من التي (شيّحت ريقها)
وأحزنتها سنوات؟
يصرّح المشاكس بهذه الشماتة تعاطفا مع سعدى.
بيْد أن المشاكس يستدرك وكأني به أحس بالذنب و بالندم وهو يغلظ اللهجة
للمبدع الذي يتحدث عن متخيل وعن افتراض واذا بالمشاكس ينعرج به الى الواقع مع سعدى التي يعرف المبدع انها باقية على العهد ولن يغيّرها المال والذهب فيقول: وتعرف سعدى على العهد باقية
ولن يغيرها المال والذهب
لقد باتت سعدى مزدوجة الشخصية :
– هل هي شامتة ومتشفية في عذابه أم هي الوفية له وهي على العهد باقية؟
ان المشاكس تدرّج في وصف ملامح سعدى التي اكتملت بنهاية الرباعية:
فمن شامتة ومتشفية الى باقية على العهد الى ثابتة على مبدئها لا يغيرها المال والذهب وهي طبيعة النفس البشرية.
وهذا الروي حرف الباء وهو صوت جهوري يعلو ويرتفع وقد عبّر عنه كل من المبدع والمشاكس بمعجمية لغوية في المناداة والانتحاب والصراخ..
وهذا الصوت الجهوري يتلاءم والحالة النفسية المتأزمة والغاضبة لكل من المبدع والمشاكس .
فلئن ساءت حالة المبدع النفسية وغضب لانه ضمآن ولم تطفئ الحبيبة عطشه
فان حالة المشاكس قد ساءت وغضب تعاطفا مع سعدى التي لم يقدرْها المبدع حقّ قدرها.
وكل من المبدع والمشاكس يأمل في تغيير الواقع:
فالمبدع يأمل أن تشفع له الحبيبة في جنتها بشربة ماء فتكون حياته.
والمشاكس يأمل من المبدع أن يقدر سعدى الوفية حقّ قدرها.
وخلاصة القول فلئن رسم المبدع رباعيته في المتخيل ووفق فرضية وضعها ووفق أسلوب ضرْب المثل ليسلط الضوء على واقع مرير يعيشه مع الحبيبة فان المشاكس قد أراد ان يعيد المبدع الى واقعه مع سعدى التي جعلها تعيش ازدواج الشخصية (بين الشماتة والوفاء) ولعل هذه الازدواجية في شخصية سعدى تدعم ثنائية المتخيل (عند المبدع) والواقع (عند المشاكس) وفق مرجعية دينية.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة ومتخيلا وواقعا.
على جعل الرباعية تتصدر قفا غلاف ديوانه Hamed Hadjiشكرا للدكتور
شكرا للأستاذ عمر دغرير الذي بادر بمشاكسة هذه الرباعية.
بتاريخ 04/08/2024