خطاب حرباوي !!
لم يبق سلاح إلا وحملوه على طريق البحث عن اللادغة القاتلة التي اغتالت طفلاً بعمر الورود من أهل المدينة ، ونشرت الذعر في كل أرجائها .. بعضهم قال : ( إني رأيتها حمراء قانية كلون الدم الذي سرى بعروق ضحيتها ) .. فيما قال آخر : ( يا إلهي إنها سوداء مخيفة كلون الظلام الغاسق بقلوب الخائفين ) . صرخت الأم المفجوعة : إنها صفراء راقطة تخيف الكبار قبل الصغار .. ظلت تلك الصور مخيفة شجية تتراكم معانيها في ضميري أتناقلها جيلاً بعد جيل حتى تعملق جبل الحزن في وجداني الذي لم يعد ينفك عن كراهية كل الألوان القريبة والمعبرة عن تلك الأفعى القاتلة الخاطفة للسعادة ..
بعد آلاف السنين ، وجدوا طفلاً آخر قد فارق الحياة ، مع أن جسده أبيض ناعم طري لم يخدش ، ولم ينزف دماً، ولم يجرح ، ولم يظهر عليه أي أثر لتعذيبٍ أو إطلاق رصاص أو لدغ .. ظلوا حائرين بهوس المعنى وهاجس الأفعى .. كل التفسيرات تحوم حول تلك الرقيطة التي تجيد تغيير ألوانها وتعدد أساليبها مع كل المواسم والظروف .. الشبهات قد تلبستها حد اليقين لكن لا أحد يجرؤ على نطق الحقيقة، فالحرباء بقمة شهرتها، وتعيش منتشية في ظل مملكتها ..
ظلت قصص الموت تترى على خط مستقيم يعلو الأفق تارات ، وينزل في الزنزانات تارات أخرى بأغلب أحيانه .. يتعرج مع كل مستجدات، يتلون بكل العبارات ، يتلبس معاطف مزكرشة مجلببة ملونة … لكنها لم تدرك حقيقة ذلك الهاجس الغائص حد اليقين في نفوس أهل المدينة المنكوبة ..
إنه من فعل الرقطاء لا غيرها .. هكذا صرخ والد حزين فجيع .. ردت الجموع : ماذا نفعل إذا كان القتل واللدغ وسلب الأرواح من أهم غرائزها التي لا تستطيع تغييرها بتربية أو حكمة أو موعظة ، ولا تثنيها عن ذلك حتى العقوبات القاسية ؟!
بعد سنين طويلة شوهدت الأفعى حية تسري على جدار أحد البيوت، بدت مسالمة جميلة بمنظرها الزاهي، لم تلتفت إلى أحد برغم كل ما أُحيط حولها من ضجيج وتهديد .. إلا أنها ظلت محافظة على هدوء واثق الخطى ، مطمئنة كأنها لا تعبأ بدعواهم، ولا تهتم بأكاذيب اتهاماتهم، ولا تخشى ما يبطنون من نوايا بدت واضحة من زخم المحتشدين وعويل الثائرين .. قرروا أن يرسلوا أحد شجعانهم ؛ ليضرب ( بالمليان ) بلا رحمة .. وقد تقدم زائرا تحت تصفيق وتشجيع وأنشودة الثار المتعالية بين الجموع .. رفع سلاحه ، امتطى نفسه، ارتفع صياحه ، أنزل أول ضربة هوى الحائط من وقعها ، إلا أن الأفعى ظلت تسير بتؤدة غير معهودة كأن شيئاً لم يكن .
شعر بإهانة الموقف ، بعضهم ضحك ، وآخرون هزئوا به .. اشتد غضبه ، صب جامه على ظل الأفعى التي بدأت تتحرك بخطوات أسرع .
هدت ضربته الثانية باب الدار ، وأفزعت الطيور في أعشاشها والأطفال في مهدهم ، والأموات في أجداثهم .. إلا أن الحية ظلت وفية لمبادئها الحرباوية ، لم تلتفت إلى هذا الوغد اللاهي لمحو خط مسار خريطتها الأزلي .
بعد أن أعياها التعب والمطاردة ، أزاحوه كي تتطوع مجموعة من ثائري الجمع الغفير لإتمام المهمة .. تسلقوا الجدران .. عبثوا بأمن السطوح ء وقطعوا الأغصان ، وحجبوا ضوء الشمس ؛ كي تسهل عملية الاغتيال ، وإلقاء القبض تحت جنح الظلام .. بدوا كأنهم أفاعٍ تسير خلف أفعى كأمهم في الميدان .. خجلوا مما هم فيه ، بدت علامات العجز تختلج أنفاسهم الرعديدة .. تراجع البعض، بينما تقدم احدهم بنزق ، ومراهقة غوغائية واضحة .. حاول اللحاق بها قبل أن تدخل جحراً لا يمكن أن يدركوه .. ارتمى بكل ثقله ، استشعر الاستغاثات والتوسلات الجماهيرية لذبح الأفعى .. أمسك بها لكنها ظلت تتلوى بين كفيه لم يعد يملك قدرة تحديد مكامن الرأس الذي يحتوي فيه مركز القرار والحياة والممات .. انتزع سيفه، رمى غمده ، نزع غطاء رأسه ، علت أصوات المهللين أن النصر آت لامحالة .. غرز سيفه في أعماق الامتداد الأفعواني الذي تمدد أكثر مما كان عليه حتى التف والتف على نفسه ، لم تعد تلك الحية الناعمة كما بدت بأول لحظات المطاردة .. ها هي ذي الآن تنين يجيد فنون الحوار .. غلبت أهواء الناظرين، وخذلت المتطوعين الذين ولوا فارين مذعورين من قدرة الحرباء على التلون والإفلات من الموت .. قال كبير لهم : لا تتعبوا أنفسكم فقد قتلناها منذ أول صرخات ثائرة لطفل عصر البداوة ، وها نحن نلتمس نتاجات الفرح في عصور ما بعد العولمة .
لم أستسغ كلماته ، ولم أعِ شيئاً من مفرداته .. فحكاية الموت والاغتيال والمطاردة بدت ضعيفة السيناريو واهية الحجة حد السخف .
رحت أبحث عن تعليل للهرج والمرج السائدين بعبثية الموت والاغتيال ومحاولات الثأر المزعومة المنتشرة بين نفوس أهل المدينة بأخلاق متدنية ، وإن غُطيت بمبررات وحجج حرباوية ، لم أجد تفسيراً لكني أصبت بدهشة ذعر وفرح غامرين معاً .. حينما وجدت الأفعى تداعب ذلك الصبي القتيل ، وكأنهما وُلدا معاً بزي جميل لا يستقطب أنظار الأميين والجهلة من ملدوغين ولادغين !!