فى مثل هذا اليوم 18 سبتمبر1952م..
رئيس الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري يستقيل من الرئاسة تحت ضغط الشارع، وقبل استقالته قام بتشكيل حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب مكونة من 3 أعضاء فقط وذلك لتسيير أمور البلاد لحين انتخاب رئيس جديد.
يُعتبر الشيخ بشارة الخوري، رئيس لبنان الأسبق، من الآباء المؤسسين للجمهورية اللبنانية، وهو شريك الرئيس رياض الصلح في الميثاق الوطني الشهير، الذي أُبرم سنة 1943، وفيه تم الاتفاق على توزيع الحصص الطائفية في لبنان، لتكون رئاسة الجمهورية من يومها حكراً على المسيحيين الموارنة، ورئاسة الحكومة للمسلمين السنة. وفي كل عيد استقلال يتم الاحتفاء به ورفاقه من الجيل المؤسس، حيث يتغنّى به اللبنانيون اليوم بسبب التراجع الكبير الذي شهده موقع رئاسة الجمهورية خلال السنوات القليلة الماضية، متناسيين أو ربما متجاهلين أخطاءه.
لا أحد يمكنه التشكيك لا بوطنية بشارة الخوري ولا بحرصه على لبنان، ولكن عهده لم يكن مثالياً، إلّا طبعاً إذا قارناه مع لبنان اليوم، حيث يكون أقرب إلى الأسطورة، بسبب رصانه وزرائه وهيبة دولته. لكن وفي عهد الشيخ بشارة مجموعة من الأخطاء، أحدها كانت قاتلة، وهي تعديل الدستور لأجل ولاية رئاسية ثانية سنة 1948.
ينتمى الشيخ بشارة إلى أسرة مسيحية عريقة، وهو من مواليد عام 1880. درس القانون في جامعة باريس وعمل في مكتب المحاماة الذي كان يديره إميل أده، الذي أصبح خصمه اللدود في سنوات لاحقة. هرب إلى مصر خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، ثم عاد إلى لبنان وعمل في سلك القضاء، ومنه إلى المعترك السياسي وزيراً للداخلية في حكومة أوغست أديب باشا سنة 1926، قبل أن يخلفه في رئاسة الحكومة. وقد ترشّح لرئاسة الجمهورية في كانون الثاني 1936 ضد صديق الأمس وخصم اليوم إميل إده، ولكنه لم ينجح بسبب مواقفه المعارضة للانتداب الفرنسي.
كان الشيخ بشارة مؤمناً بأن لبنان لا يمكنه أن يكون وطناً للمسيحيين فقط، ولا يمكن عزله عن محيطه العربي. فقد دافع عن عروبة لبنان وعن العيش المشترك بين المسلمين والمسيحين، مطالباً بالتساوي بينهم. وقف مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، ما قربه كثيراً من بريطانيا التي أيّدت ترشحه لرئاسة الجمهورية سنة 1943. وعند انتخابه في 21 أيلول طلب من رياض الصلح، وهو من القوميين العرب، أن يكون أول رئيس حكومة في عهده.
كان الصلح قد ذاع صيته منذ الحرب العالمية الأولى كأحد قادة الجمعية العربية الفتاة، المناهضة للحكم العثماني، وفي زمن الانتداب كان عضواً في الكتلة الوطنية في سورية وحليفاً لقادتها الكبار، أمثال سعد الله الجابري وجميل مردم بك.
أدرك الخوري أن رئاسته لن تكون مستقرة إلّا في حال تعاونه مع المسلمين، عكس إميل أدة الذي أبعدهم وتعامل معهم بخفّة بسبب ميولهم العربية. وفي عهده أبرم الميثاق الوطني مع الرئيس الصلح، الذي ضمن رئاسة الحكومة من يومها للمسلمين السنة، ودخل لبنان في أول حروبه، وكان ذلك في فلسطين عند إعلان قيام دولة إسرائيل سنة 1948.
الكثير من الموارنة عارضوا قرار دخول الحرب، كما عارضوا دخول لبنان جامعة الدول العربية قبل أربع سنوات، باعتبار أن هذا الوطن الصغير كان مختلفاً عن العرب ومتفوقاً عليهم حضارياً وعلمياً، بحسب تعبيرهم. وقد هُزم الجيش اللبناني يومها مثلما هُزمت الجيوش المصرية والسورية، ووصل الجيش الإسرائيلي إلى داخل الأراضي اللبنانية، ما ضاعف من انتقادات خصوم الرئيس الخوري.
الاعتقال سنة 1943
أشهر محطات عهده طبعاً كانت المواجهة الكبرى مع الفرنسيين في تشرين الثاني 1943، عندما قرر الرئيس تبنى تعديلات دستورية كان قد تقدم بها الرئيس الصلح، فيها نسف للانتداب الفرنسي والإرث الفرانكوفوني في لبنان. ردّت فرنسا باعتقالهم مع معظم وزراء العهد ونفيهم إلى سجن راشيا.
وكان إطلاق سراحهم بوساطة السفير البريطاني إدوارد سبيرز هو عيد لبنان الوطني في 22 تشرين الثاني 1943. وقد استقبل اللبنانيون الرئيسين الخوري والصلح بالهتافات والزغاريد، ورفعوهم على الأكتاف كأبطال محررين، لينالوا لقب الآباء المؤسسين للدولة اللبنانية الحديثة من يومها. وقد ترك هذا الاستقبال الحافل وما شهده الرئيس الخوري من دعم وترحيب، أثراً كبيراً في نفسه، وبدأ من يومها يفكر بمستقبله السياسي.
في عهد الشيخ بشارة مجموعة من الأخطاء، أحدها كانت قاتلة، وهي تعديل الدستور لأجل ولاية رئاسية ثانية سنة 1948
التجربة السورية وتجديد ولاية الرئيس الخوري
كانت ولايته الدستورية قد اقتربت من النهاية، وفكر الخوري في تجديد الرئاسة، ولكن ذلك كان يتعارض من الدستور اللبناني الذي لم يكن يجيز إلا ولاية رئاسية واحدة فقط لا غير. وما لا شك فيه أنه وجد معيلاً في صديقه السوري، الرئيس شكري القوتلي، الذي كان قد انتخب معه وبفارق شهر واحد سنة 1943 وبدأ هو أيضاً يفكر بتجديد ولايته.
مؤيدو الخوري والقوتلي دافعوا عن قرار تعديل الدستور، معتبرين أن ولاية الرئيسين الأولى كانت مخصصة لمحاربة الفرنسيين وتحقيق الاستقلال. وقالوا إنهما بحاجة إلى ولاية أخرى ليتمكنا من تنفيذ برامج الإصلاح الداخلية. في تشرين الثاني 1947، وافق مجلس النواب السوري في دمشق على تعديل المادة 68 من الدستور السوري، للسماح للرئيس القوتلي بولاية دستورية ثانية، وأعيد انتخابه رئيساً في 18 نيسان 1948.
وفي لبنان، حصل الخوري على توقيع 46 نائباً لتكرار التجربة السورية في بيروت، ليُعاد انتخابه رئيساً للجمهورية. في دمشق، اعترض نواب حلب على قرار التجديد وخرجوا مجتمعين من قاعة مجلس النواب عند أداء الرئيس القوتلي خطاب القسم، يتقدمهم رشدي الكيخيا وناظم القدسي.
وفي بيروت، اعترض تسعة نواب على تجديد ولاية الخوري، منهم وزير الخارجية هنري فرعون ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط وكميل شمعون، السياسي الماروني البارع والطموح الذي خلف الخوري في الرئاسة الأولى بعد سنوات.
ما لا شك فيه أن بشارة الخوري تخوّف كثيراً من سماع خبر الإطاحة بالرئيس شكري القوتلي على يد قائد الجيش حسني الزعيم في 29 آذار 1949، وفكر بأنه قد يواجه مصيراً مشابهاً. لم يكن الانقلاب السوري بسبب تجديد ولاية القوتلي بل كان ناتجاً عن نقمة المؤسسة العسكرية على الطبقة السياسية الحاكمة وتحميلهم مسؤولية هزيمة الجيش السوري في فلسطين.
ولكن التشابه بين بشارة الخوري وشكري القوتلي كان كبيراً، فكلاهما كان من ذات الطبقة السياسية وكلاهما كان قد عارض الفرنسيين بشدة ووقف ضد مشروع سورية الكبرى الذي نادى به ملك الأردن عبد الله الأول. الخوري اعتقل على يد الفرنسيين سنة 1943 الذين حاولوا التخلص من شكري القوتلي بنفس الطريقة بعد سنتين، عندما أمروا بقصف العاصمة السورية دمشق يوم 29 أيار 1945. وعندما زُجّ القوتلي في سجن المزة سنة 1949، دار في بال الخوري أنه قد يواجه مصيراً مشابهاً.
قضية أنطون سعادة
رفض الرئيس الخوري الاعتراف بشرعية حسني الزعيم، وظلّ متمسكاً بالرئيس القوتلي ومعتبراً أنه يمثل الشرعية السورية. ومن المعروف جيداً أن الخوري لم يعترف بالزعيم إلّا بعد تمرير صفقة تسليم أنطون سعادة إلى لبنان، رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي أعدم بأمر من الخوري في 8 تموز 1949. في مذكراته يقول الخوي إنه لم يكن على علم بالصفقة التي أدت إلى تسليم سعادة إلى لبنان، وأنه أُخبر بها بعد عبور الأخير الحدود السورية اللبنانية.
توجه فوراً إلى منزل رياض الصلح، وسمع منه أن الزعيم طلب من لبنان إعدام سعادة قبل وصوله إلى بيروت، ليبدو وكأنه حادث. رفض الخوري ذلك واتصل بالقصر الجمهوري بدمشق في الساعة الخامسة فجراً، ولكن حسني الزعيم لم يجيب إلا بعد ساعة كاملة. لم يمانع وصول سعادة إلى بيروت ومحاكمته أمام القضاء، فكانت المحاكمة الصورية والسريعة التي أمرت بإعدام أنطون سعادة، وقام الرئيس بالتوقيع على قرار الإعدام. وقد كافأ الخوري حسني الزعيم على تسليم أنطون سعادة بزيارة خاطفة إلى دمشق، تم فيها الاعتراف رسمياً بشرعية الانقلاب السوري وبحسني الزعيم رئيساً للجمهورية.
الخوري وحيداً
ولكن حسني الزعيم سقط بعد أسابيع قليلة من هذا الاعتراف، حيث انقلب عليه ضباط الجيش وقاموا بإعدامه رمياً بالرصاص في 14 آب 1949. أمّا بشارة الخوري، فقد كبرت المعارضة ضده داخل لبنان، وتحوّلت إلى تيّار جارف يحوي ممثلين عن كل الأطراف. أول المعارضين له كان السياسيون المسيحيون القدامى، الذين اعتبروا أن في تنازلاته للمسلمين كان فيها تحديداً صريحاً لهم و لمكانتهم ومستقبل الدولة اللبنانية وهويتها.
بعد تسع سنوات على حمله على أكتاف اللبنانيين واطلاق لقب بطل الاستقلال عليه، خرج بشارة الخوري من قصر القنطاري وحيداً ومهزوماً
وقد ترأس هذا التيار الرئيس الأسبق إميل أده، والمستقبلي كميل شمعون. ووجدوا الكثير من الحجج للمطالبة بإسقاط العهد، ومنها تعديل الدستور وتزوير الانتخابات النيابية، بحسب تعبيرهم، إضافة للنفوذ الكبير الذي كان يتمتع به بعض أقرباء الرئيس، مثل شقيقه سامي ونجله خليل، المتهمين بالفساد والمحسوبيات. وقد أيّدهم كمال جنبلاط والحزب السوري القومي الاجتماعي، الناقم على الخوري بسبب قضية أنطون سعادة، ومعهم حزب هنشاك الأرمني والمتمول اللبناني الكبير إميل البستاني.
لم يجد الخوري معيلاً سنياً لدعمه، لأن رياض الصلح كان قد قتل على يد القوميين السوريين منذ 16 تموز 1951، وشكري القوتلي كان منفياً في مصر منذ عام 1949. لو ظلّت سورية كما كانت عليه في عهد القوتلي وجيله من الوطنيين، لكانت مدّت الخوري بالدعم والعمق العربي، ولكن حكامها الجدد كانوا من العسكريين، أمثال أديب الشيشكلي وفوزي سلو، وكانوا بعيدين كل البعد عن الشأن اللبناني.
وفي مصر كان الملك فاروق في أيامه الأخيرة، يعاني من غليان كبير داخل المؤسسة العسكرية، قبل أشهر من الإطاحة به على يد الضباط الأحرار في تموز 1952. وفي السعودية، كان الملك عبد العزيز، صديق الرئيس الخوري، غائباً في مرضه، وقد تولّى زمام الأمور نجله الأمير سعود. قرر بشارة الخوري مواجهة خصوم الداخل منفرداً، وأمر بداية بتعطيل 12 صحيفة كانت قد وجهت له اتهامات الانفراد بالسلطة والفساد.
دعا كميل شمعون إلى مؤتمر شعبي في دير القمر يوم 17 أيار 1952، شارك به خمسون ألف معارض لرئيس الجمهورية، جميعهم من أبناء جلدة بشارة الخوري من المسيحيين الموارنة. وقد انضم الشيخ بيار الجميل، مؤسس حزب الكتائب، إلى قائمة المطالبين بتنحي الرئيس، وهو الشخصية المسيحية الأكثر نفوذاً وشعبية في لبنان يومها، وفي 11 أيلول قرروا مجتمعين، الجميل وشمعون وإده، النزول إلى الشارع في إضراب عام، يظلّ مفتوحاً حتى سقوط بشارة الخوري.
طلب الرئيس من قائد الجيش فؤاد شهاب التدخل لتفريق المتظاهرين والمعتصمين، وعندما لم تنفع كل أساليب الشدة، قرر الخوري التنحي في يوم 18 أيلول 1952، مقفلاً الستار على مسيرته السياسية الحافلة، التي ما كان أحد يتوقع أن تنتهي بهذا الشكل المذل. فبعد تسع سنوات على حمله على أكتاف اللبنانيين واطلاق لقب بطل الاستقلال عليه، خرج من قصر القنطاري وحيداً ومهزوماً.!!!!!!!!!