قراءة نقدية مزدوجة:
“القصيدة بين الزمن الجميل والواقع المرير”
فقرة جمع بصيغة المفرد(مبدع / مشاكس /ناقدة)
المبدع حمد حاجي (تونس)
القصيدة: “امرأة من نور”:” للصلح امكان”.
المشاكس عمر دغرير (تونس)
المشاكسة:”لا شيء يُجْبَرُ بعد كسره”
الناقدة: جليلة المازني(تونس)
أ – المشترك بين الابداع والمشاكسة:
– التناص المعجمي.
– الصلح بين الزوجين
– جبر الخاطر وكسر الخاطر
ب- المختلف بين الابداع والمشاكسة:
1- المبدع حمد حاجي والزمن الجميل (جبر الخاطر)
أسند المبدع عنوانا عامّا لقصيدته “إمرأة من نور”
فأي نور تمثله هذه المرأة هل هو النور الذي رآه الشابي في حبيبته حين رأى فيها روعة المعبود فيقول:
يا ابنة النور إني أنا وحدي // من رأى فيك روعة المعبود.
هل هذا النور هو الذي جعل المبدع لا يتحمل إغضابها ويفكّر في الصلح معها ليضع عنوانا ثانيا “للصلح امكان” وهو محتوى مصغر لكامل القصيدة.
وفي هذا الاطار يستهل المبدع قصيدته بمفردة في صيغة اسم فاعل مغاضبة من فعل “غاضب” الذي يفيد أن الحبيب قد ساهم في غضبها لذلك هي حملت أدباشها وفارقته الى أهلها تاركة أبناءها معه فيقول:
مغاضبة فارقتني الى أهلها
حملت شالها وصرائرها
تركت لي صغاري..ولم تُبق بالبيت من رمق.
والرمق هو اللحظة الأخيرة قبل الوفاة, هو بقية الحياة بالجسد.
وبالتالي ففراقها لم يترك بقية حياة بالبيت فغيابها قد أفقد البيت حياته وحيويته فحتى أبناؤها الذين تركتهم له لم يشيعوا الحياة على البيت.
والمبدع هنا لا يخفي حسرته على فراقها وافتقاده لوجودها
لذلك فكّر في المصالحة فيقول:
رأيت أصالحها.. وتعود..
عزمت الى جاهة بالقبيلة
يا خيرة الله ردوا لي الشمس في أفقي
يرى المبدع أن يصالحها وتعود اليه .
يبدو أن القارئ قد يعتبر اقدام المبدع على مصالحة زوجته الحبيبة أن ذلك قد يكون اقرارا بذنبه والإقرار سيد الادلة وبالتالي فيما أذنب هذا المبدع؟
– هل أنه أخطأ في حق زوجته حبيبته معنويا أم ماديا؟
– ثمّ هل هو ضامن لعودتها مع جاهة القبيلة؟
– هل أنه عاد الى ربّه مستغفرا وذاكرا ماقاله تعالى:
“وعاشروهن بمعروف”(النساء19).
لذلك نراه يعمد الى جاهة القبيلة ليعيدوا اليه شمسه التي تضيء نهاره وتبعث الحرارة والدفء في البيت وتشيع الحياة فيه.
انه تقليد سائد في ثقافة أهل الريف أن يجعلوا وسيطا له وجاهته ليصلح ذات البين.
ترى هذه الزوجة المغاضبة هل ستعود مع هذا الوسيط صاحب الجاه اليه؟
ولاقناع جاهة القبيلة بالتدخل بينهما بالحسنى لاغرائها بالعودة اليه عمد الى اقناعهم بتغييرما بنفسه ليجْبُر بخاطرها:
– مقابلة غضبها بالصمت ايمانا منه أن” الصمت فخامة لا يعرفه سوى عشّاق الهدوء”.
– مداراة ذنوبه بحبه لها فيقول:
سأمضغ صمتي اذا غضبت..
واداري ذنوبي بحبي لها..
بين منسجم بالصبابة متفق
وما يحمد السيف في الغمد
غير ذي الجبن
والخائف النزق .
وضرب لجاهة القبيلة مثل السيف في الغمد ليمتصّ غضبها ولن يشهر سيف لسانه وسيف عنفه في وجهها فيجعل سيفه في غمده حتى لا يستخدمه كوسيلة عنف ضدها ويستبدل العنف بالكلمة الطيبة التي مثلها “كشجرة طيبة أصلها ثابت في الارض وفرعها في السماء”(سورة ابراهيم 24) ليغطي ذنوبه ويسترها والمثل يقول :”من أقرّ بذنبه فلا ذنب عليه”
اننا نستشفّ أسباب مغاضبته لزوجته من حديثه لجاهة القبيلة الذين سيتوسطون له.
لقد توزّعت أسباب مغاضبتها الى أسباب معنوية وأخرى مادية:
أ- الأسباب المعنوية:
– العنف اللفظي.
– لا يظهر لها حبّه لان ذنوبه كثيرة فيقول :
أداري ذنوبي بحبّي لها..
هذه الفجوة النصية قد تثير فضول القارئ ليمارس حقه في التأويل فقد يعتبر أن هذا الزوج هو نموذج للزوج العربي الذي يعتبر البوح بحبه لزوجته نقيصة والزوج العربي يعجبه أن يسمع الكلمة الطيبة من زوجته ولكن غروره وتكبّره لا يسمحان له أن يبادلها إياها ..إنه “سي السيد”الذي يتلذّذ بخدمة الزوجة له دون أن يمنحها حق هذه المتعة.
وفي هذا الاطار هو سيكفّر عن ذنوبه ليكون للحب الكلمة الفصل:
ان هذا الحب سيوفر لها به كل أسباب الراحة مُسخرا كل كيانه لإسعادها فيقول:
لأبني قصرا لها وقرى ومدائن
عجلت
بالنور والمسك والزهر والورق
وتلك حقيقة حبي…
والحب يفعل المعجزات وها هو يعدّد كل ما أتاحه لها لتسكن كيانه دما وضلوعا وروحا وشرايين وفؤادا ونبضا فيقول:
وكان دمي وضلوعي وروحي عمارتها
وانتدبت الرياح مهندسة البنا..
وانبتت لأزورد بالطرق
وأركبتها بالشرايين والنبض..
يحفظها خافقي وفؤادي
كواكب تجري على نسق.
صعدت بها للعلا طبقا
لكأنه من تحتي الريح زوبعة
وكأن يد الدهر في عنقي
=== يتبع ===
=== يتبع ===
ان المبدع يقرّ أنه رغم العراقيل فهو يرتقي بها الى العلا وكيف لا يرتقى بها وهي امرأة من نور؟
ثم يعود الى نفسه لطمأنتها ويعتبرأن هذا القلق بينهما ماهو الا حالة طبيعية لا يحسّ به الزوج الا اذا عاشه والآن وقد عاش القلق سيتخذ فيه موقفا فيقول:
وأعرف لن يستقرّبمن قد هوى
قلق في الجوانح
حتى يبيت على قلق
انه يقرّ بذلك حتى يقنع جاهة القبيلة أن قلقه لن يستقرّ وهو ينشد السكينة معها
ولسان حاله يردد قوله تعالى “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمه إن في ذلك آيات لقوم يتفكرون”(الروم (21))
ومن هنا هو يَعدُ بالاحسان اليها :
ب- الاحسان المادي الى الزوجة فيقول:
مددت يدي اليها
ينابيع نهر
يغصّ بها العاشقون من الشرق..
وأعددت كفي
بيادر بالقمح زاخرة
لصغار العصاقير والورق..
والمبدع لم يفته شغف المرأة الريفية بالهدايا من اللباس والذهب فيقول:
وقد فتكم بالحكاية..أني
اشتريت لها بدلة وأساور من ذهب
كان قدّمها سيد الجاه في طبق..
من خلال هذه الذخيرة والفجوات النصية قد يستغرب القارئ من هذا الزوج الذي هو قادر على اكرام زوجته ماديا واسعادها بحبه معنويا كما ذكر
فلماذا لم يكن بهكذا كرم قبل أن يغاضبها ويكفي نفسه مؤونة سيد الجاه الوسيط في ارجاعها؟
– هل الزوج العربي لا يتخذ موقفا من المعاناة الا بعد أن يعيشها؟
– هل الزوجة فعلا هي شمس البيت وضياؤه عند “سي السيد” الزوج الريفي وقد جسّدها الكاتب الشهير نجيب محفوظ في ثلاثيته بتلك الممارسة التي تقوم بها زوجته المنتظرة له كل ليلة لتنير له مدخل البيت بالمصباح الذي تحمله بمجرد ان تسمع خطواته؟
وبالتالي هذه المرأة من نورهل امكانية الصلح معها ستكون مضمونة بواسطة جاهة القبيلة؟
لعلها وهي امرأة من نور ستنير محاولة الصلح التي ستجْبُرُ بخاطرها وتنير قلبها لتعود وتنير حياة زوجها حبيبها وأم أبنائه…
لعل المبدع يُراهن على تسامحها وعفوها خاصة وهي امرأة من نور لتكون “من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس”ايمانا منها بقوله تعالى.
في هذا الاطار هل سيتناغم المشاكس مع المبدع؟
2- المشاكس عمر دغرير والواقع المرير(كسر الخاطر)
أسند المشاكس عنوانا لقصيدته “لا شيء يُجْبر بعد كسره” وكأني به يردّ على المبدع الذي يرى امكانية الصلح بينه وبين زوجته .
لقد استخدم المشاكس اللام النافية للجنس (لا شيء) ليجعل باب الصلح غير ممكن وهو بذلك ينفي عنوان قصيدة المبدع “للصلح امكان”.
وقد دعم عدم امكانية الصلح بقوله:
وهل بالأساور والفساتين
تعيد جبر الخواطر
فتصلح ما كسرته بشتى الطرق..
هنا قد يتدخل القارئ :
– قد يعتبر القارئ المشاكس قد أغلق أبواب الصلح والتسامح التي
أقرّها ديننا الاسلامي للحفاظ على أواصر العائلة وقد قال تعالى” والصلح خير”
واصلاح ذات البين عبادة من أفضل العبادات أشاد بها الله ورسوله وقد قال الرسول” ماعمل ابن آدم شيئا أفضل من الصلاة وصلاح ذات البين وخلق حسن”
ومن أسماء الله الحسنى” الجبار” فالله يجبُر الضعيف وكل قلب منكسر”.(ويكيبيديا)
– قد يساند القارئ المشاكس لان المسالة مسألة كسر الخاطر ف”كسر الخواطر
بمثابة خطإ طبي الاعتذار لا يردّ عافيتك” كما يقول المثل .
والامثال كثيرة “اياكم وكسر الخواطر فهي ليست عظاما تجبر بل هي أرواح تقهر” .
ويقول علي بن ابي طالب:
احرص على حفظ القلوب من الأذى// فرجوعها بعد التنافر يصْعُبُ
ان القلوب اذا تنافر ودّها // مثل الزجاجة كسْرُها لا ُيشعَبُ
لذلك فان المشاكس لا يخفي سخريته من المبدع الذي اعتبره يريد ان يعيد لها ماانكسر ببديل لا يكافئه قيمة فالماديات(الأساور والفساتين) لا توازي المعنويات لجبر الخواطر.
=== يتبع ===
=== يتبع===
لقدعمد المشاكس الى تذكير المبدع بالايام الجميلة والوعود التي وعد بها حبيبته قبل الزواج حين كان يريد اغراءها واقناعها بنفسه.
انه وقتها فرش لها بأقواله جنة من الوعود فيقول:
أتذكر يوم كان اللقاء
في مقهى عروس البحر
والنادل أتى بالورود على طبق
ومع العصير كنت فاجأتها
بوردة حمراء
وقلادة تحمل اسمها علقتها في العنق..
وكنت وعدتها بالبيت الجميل
على شاطئ البحر
وبالسيارة وبحساب بالبنك ينهي زمن الأرق…
وكان حفل الزواج في أفخم نزل
وكان الأهل استبشروا خيرا
من زيجة بان فيها الوئام في الأفق.
يبدو ان المشاكس يرسم لنا علاقة بين حبيبين محكومة بالماديات والوعود المغرية للحبيبة في يومنا الحاضر بالوسط الحضري .
ان المشاكس لعب على المكان وكذلك على الزمان فتحوّل من الريف الى المدينة ومن عصر كان فيه لجاهة القبيلة مكانة في التوسّط للصلح بين الزوجين الى زمان تحكمه المادة والمظاهر.
– انه تحول من عصر تنشد فيه الزوجة جبر الخاطر الى زمان تعتبر فيه الزوجة
كسرالخواطر لن يجبر.
– انه تحوّل من عصر كانت فيه كرامة الزوجة في رفع معنوياتها الى عصر فيه كرامة الزوجة في الرفاه المادي.
– انه تحول من عصر امرأة من نور يشيد بها المبدع الى امرأة مادية قد يندد بها المشاكس.
– انه تحوّل من امرأة الجوهر( المبدع) الى امرأة المظهر( المشاكس) .
ان في هذا التحول في المكان والزمان يكمُن ابداع المشاكس الذي كشف لنا عن الوجه الآخر لطموحات الزوجة.
بيد ان المشاكس يكشف لنا حقيقة المبدع الزوج بقوله:
ولكن ليس كل ما نتمناه ندركه
وليس كل ما يقال نفعله
تجري الرياح بما لم نسجله على الورق…
ولعل القارئ هنا يتدخل وقد يعتبر المشاكس قد خرج بحكمة مفادها يتناص مع ما قال المتنبي:
وما كل ما يتمنى المرء يدركه// تجري الرياح بما لا تشتهي السَّفنُ.
وفي هذا الاطار يعمد المشاكس الى مقابلة معنوية بين الاشهر الاولى من الزواج حيث كان ضيفا مكرّما مع زوجته عند الاهل وما بعد الضيافة فيقول:
وكل سكان الحي أكرموك بخيرهم
الى أن جاء يوم كنت فيه لوحدك
سألتك سعدى وهي تحاول أن تخفي حزنها
حتى متى ستظل على هذه الحال
ألم تشعر بعدُ بالضيق وبالقلق؟
ان المشاكس جعل سعدى تنشد لدى المبدع زوجها الاستقلالية العائلية فيكفيها أنها كانت عالة على سكان الحي وما في ذلك من قلق سبب لها الحزن.
ان سعدى تنشد جبر خاطرها لينجز ما وعدها به وكأني بها تذكره بوعوده الأولى حين كان يريد أن يقنعها بنفسه قبل الزواج.
بيْد أن المبدع الزوج بدل أن يجبُر بخاطرها عمد الى كسر خاطرها بأن استبدّ به الغضب وتجاهلها ليجد حلا يخرج من هذا الواقع الى واقع مع الخمرة يجعله
يرغي ويزبد بل يطردها من البيت.
واذا بسعدى أيقونة حبه وهي مكسوة الخاطر تتعلم درسا من ماضيها بوعوده الكاذبة ومن حاضرها معه بالعنف الذي مارسه عليها.
انها مكسورة الخاطر لانه لم يجبر خاطرها بسبب وعوده الكاذبة ولا هو جبر خاطرها بالكلمة الطيبة بدل العنف الذي مارسه عليها بعد ان واجهته بحقيقته
المرّة فيقول المشاكس:
وما كانت تنهي سؤالها
حتى تغير وجهك وارتعد صوتك
واشتعلت شرارة الغضب في الحدق..
لم تقل شيئا وتركتها للحيرة
وقصدت أقرب حانة
وفي آخر الليل عدت مخمورا
وتطردها من البيت لحظة الفلق..
سعاد أحبتك بالفعل.
ولكن ما صدر منك من عنف
ومن كذب علّماها كيف الخروج من النفق…
ان المشاكس يجعل عزاء سعدى انها تعلمت درسا للخروج من النفق بما فيه من ظلام وتيه وضلال.
وكأني بالمشاكس بهكذا قفلة أراد أن ينتشلها من احباطها وكسْر المبدع الزوج لخاطرها ليجبر خاطرها بهذا الدرس الذي تعلّمته.
وخلاصة القول لئن كان المبدع يتوق الى الزمن الجميل حيث الزوجة باعتبارها امرأة من نور قد سخر لها ما بنفسه ووجاهة القبيلة لجبر خاطرها والميل للصلح
فان المشاكس قد جعل المبدع يستفيق على واقع مختلف باللعب على الزمان والمكان حيث كسر الخاطر يصبح بديلا عن جبْر الخاطر.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة زمنا جميلا و ما فيه من جبر الخاطر وواقعا مريرا وما فيه من كسر الخاطر.
بتاريخ 23/ 09/2024