قراءة نقدية مزدوجة:
“القصيدة بين الحبّ والمواساة ”
فقرة جمع بصيغة المفرد(مبدع / مشاكس/ ناقدة )
المبدع حمد حاجي (تونس)
القصيدة:” يا دار زبيدة ”
المشاكس عمر دغرير (تونس)
القصيدة: ” ليس لك مكان بدارها”
الناقدة جليلة المازني (تونس)
أ- المشترك بين الابداع والمشاكسة:
– التناصّ المعجمي.
– شخصية زبيدة.
ب- المختلف بين الابداع والمشاكسة:
1- المبدع حمد حاجي بين الحب والمواساة ضدّ البُؤس
اختار المبدع عنوان قصيدته “يا دار زبيدة” وهو نوع من التناصّ استدعى فيه المبدع المكان وهو الدار وهو مطلع بيْت لعنترة بن شداد في معلقته حين قال:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي// وعمي صباحا دار عبلة واسلمي.
استهل المبدع قصيدته بتحديد المكان (دار زبيدة) والمكان عنصر رئيسي يعطيه الشعراء القدامى قيمة من الوقوف على الاطلال الى المرور على الديار لعل الشاعر يلتقي بحبيبته فيقول مجنون ليلى:
أمرّ على الديار ديار ليلى // لعلي أراهم أو أرى من يراهم
ويقول في موضع آخر:
يقولون ليلى بالعراق مريضة// فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
ويقول عنترة :
يا دار عبلة بالجواء تكلمي// وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
ان مبدعنا كذلك مرّ بدار زبيدة كما الشعراء العاشقين والشوق يهزّه اليها فيقول:
مررت بدار زبيدة
والشوق أبلى هامتي
وطاح على كاهلي الحب والدرك..
إن الحبيب ضرب معها موعدا ليتقابلا وطلب منها أن تجيء وحدها.
يبدو أن المبدع الحبيب يعرف وضع حبيبته زبيدة الاجتماعي فقد تكون متزوجة أو أرملة.
وقد يكون لها أبناء لذلك طلب منها أن تجيء وحدها حتى لا يكون هناك رقيب
على حبّهما مهما كان جنسه أو نوعه. يقول:
وقد كنت واعدتها
أن تجيء لموعدنا وحدها..
لأقول لها ما يجود به الحنك..
انه يريدها أن تجيء لوحدها ليستمتع معها بحبّه اللامتناهي لها حيث وهبها كل
كيانه لتصبح الملكة عليه فيقول:
وقد كنت أهديتها كلّ مملكتي
أضلعي وفؤادي
ولم يك من قبل عرش ولاملك
وملتحفا بغرامي
نصبت شباك الهوى..
أترقب ما قد يجيء به الحظّ والشبك.
انه نزّلها منزلة الملكة في الحبّ وبالتالي فهو يريد أن تبادله نفس المنزلة لتجعله ملك قلبها.
بيد أن الحبيبة لم تكن” وفية” لطلبه وجاءت تحمل طفلها معها والذي تظهر عليه علامات البؤس وقد دعم المبدع ذلك بلوحة الطفل الباكي للرسام الفنان الايطالي جيوفاني براجولين (1911/1981)
يقول المبدع:
وجاءت يشدّ بمئزرها ابنها..
كان يزوك طويلا
ويشكو بكاء كما الضحك..
ينازعه اللهو حين يشاء
وتدمع عيناه ناشحة حين يبغي..
وأحيان يعدو ويرتبك…
قد يتدخل القارئ من خلال المقاطع و الفجوات النصية ومن خلال تلك اللوحة المصاحبة وقد يعتبر أن هذه الحبيبة من فئة البؤساء وقد يتساءل :
– هل أن هذه الحبيبة البائسة قادرة أن تمنح الحبيب ماكان ينتظره من لقائها؟
– هل أن هذا الرقيب (طفلها) سيمنعه من تحقيق ماخطط له في هذا اللقاء؟
يبدو أن هذه الحبيبة لم تكن مشغولة الا بطفلها ولم تكترث لا بمشاعرها ولا بمشاعر الحبيب فيقول المبدع :
فتمسحُ سيل الخنانة من أنفه..
فيصبح كفرخ العصافير
كالطير قد حازه شرك.
ازاء هذه الوضعية البائسة بقدر ما يُسرّ المبدع الحبيب الحسرة على لقاء قد أُهْدرَ ولم يقض منه وطرا مع الحبيبة التي واعدها بقدر ما يبدي تعاطفه مع هذه الحبيبة البائسة التي لا تفتقر الى الماديات فحسب بل هى محرومة حتى من الوجدانيات فبات همّها الوحيد هو العناية بابنها البائس وقد داست على مشاعرها.
ولعل المبدع فهمَ الوضعية وآثر التعاطف معها على اشباع عاطفته فتأقْلَمَ معها وقال: يا ويل عاشقين ..
لقد أفسد الطفل كل جميل..
أحاديثنا الفقه والزهد والنسك…
من خلال هذه الفجوة النصية قد يتدخل القارئ وقد يجد لهذه القصيدة تناصّا مع رواية البؤساء لفيكتور هيغو وقد يستحضر بعض ما قيل فيها:
“ان رواية البؤساء هي قصة أخلاقية الى حد كبير والتي فيها تشكل الشفقة أو الحنوّ .الفضيلة الأكبر والأعظم التي تدعو دائما الى الاقتداء والاصلاح والتخليص”(1).
وأكثر من ذلك قد يستحضر القارئ ما قاله البطل الرئيسي لرواية البؤساء” جان فالجون” عن الحبّ:
ماذا يقول البؤساء عن الحب :”حتى أحلك الليالي ستنتهي وستشرق الشمس .أن تُحبَّ شخصا آخر هو أن ترى وجه الله”(2)
وفي هذا الاطار هل أن مبدعنا حمد حاجي قد رأى في حبّه لهذه البائسة وجه الله
وبذلك تحوّل حبه لهذه البائسة حبّا لله فتجلى في “الفقه والزهد والنسك” حتى يخفّف عن حبيبته البائسة معاناتها المادية والعاطفية.
انه الجانب الانساني الذي آثره المبدع على الجانب العاطفي الوجداني.
وفي هذا السياق هل سيتناغم المشاكس مع المبدع أم سيكون له رأي آخر؟؟؟
=== يتبع ===
=== يتبع ===
2- المشاكس عمر دغرير بين الحب والمواساة ضدّ الفقْد.
اختار المشاكس عنوانا لمشاكسته ينفي فيه وجود مكان للمبدع بدار الحبيبة سعدى” ليس لك مكان بدارها” وكأني به يُسرّ الغضب عنه.
يستهل المشاكس قصيدته بشبه وقوف المبدع على أطلال سعدى مستدعيا بعض كلمات من قصيدة أبي نواس والتي يثور فيها على الوقوف على الاطلال وهو يقول:
عاج الشقي على رسم يُسائله // وعُجت أسأل عن خمارة البلد.
والمشاكس استخدم كلمتين (عجْتَ/ تسائلها).
و التناصّ عند المشاكس تناصّ محمول على تقنية من تقنيات التناص القائمة على ثنائية التوافقية و الضدية:
– التوافقية لان المشاكس يتفق مع أبي نواس في رفض الوقوف على أطلال الحبيبة.
– الضدية: المشاكس يتفق معه في الرفض لكن هو لا يتفق معه لنفس السبب.
لئن كان أبو نواس يرفض الوقوف على الأطلال ليستبدله بالاستهلال بشرب الخمر فالمشاكس يرفض الوقوف على الأطلال لأن أهل الدار قد هلكوا في حرب الدواعش و الدواعش هم الاسلاميون المتطرفون و تجار الدين فيقول المشاكس:
أخيرا عُجْت على دار سعدى
تسائلها
ولا تعرف أن أهل الدار كلهم هلكوا..
حرب الدواعش مرت من سنين خلت
قتلوا الرجال والاطفال
والنساء ما تركوا…
إن القارئ بفضوله قد يعتبر أن سعدى كانت من بين من ماتت من النساء
بيد أن المشاكس بعد هذا التشويق قد عزّعليه أن يؤلم القارئ بموتها فأخبره بان سعدى قد نجتْ من بطش هؤلاء الدواعش ولكنه جعلها تعيش شعورين متضادين باستخدام طباق لفظي (حسن حظها / سوء حظها) خدمة لمقابلة معنوية بين شعورين:
– شعور بالفرح لحسن حظها لأنها نجت من الدواعش.
– شعور بالحزن لسوء حظها حين فقدت إخوة لها ووالديها في حرب الدواعش فيقول:
فأين كنت حين دخل الغزاة
دار سعاد وحيّها.
ونهبوا أهلها وحرمة بيتها انتهكوا…
وهل تعلم أن سعدى
من حسن حظها لم تكن هناك
ومن سوء حظها أنها كانت مع من بكوا
على المفقودين إخوة في عمر الزهور
ووالدة سيدة النساء كانت
وأب في بيته ملك…
ان القارئ قد يتعاطف مع المشاكس ليَدْعُو المبدع الذي تعاطف مع الحبيبة البائسة والتي انتشلها من بؤسها ليجعلها تؤمن بقدرها وبحكمة الله فاستبدل الحديث عن حبها بالحديث عن حبّ الله.
ومن الأوْلى أيضا أن يواسيَ حبيبته الأولى سعدى التي تعاني بسبب الفقد الذي جناه عليها الدواعش المتطرفين في الدين.
وبالتالي فلئن واسى المبدع الحبيبة البائسة بالرجوع الى الله فالمشاكس يدعوه الى مواساة الحبيبة سعدى التي تعاني الفقد بسبب التطرّف في الدين.
وفي هذا الاطار كأني بالمشاكس يلوم المبدع عن تقصيره في حق سعدى للقيام بواجب العزاء لانه مشغول بزبيدة فيقول:
تأخرت جدّا وزبيدة ألهَتْك عن سعداك
حتى نسيت واجب العزاء
وجئت تسأل عنها وأنت مُنْهك…
ولم يكتف المشاكس بلومه بل تعمّد أن يصْدمهُ ويزرع في نفسه اليأس من العودة لسعدى التي تزوجت وأصبحت أمّا .فيقول:
سعاد اليوم في بيت جديد
لها ابنة كالبدر
ولها ولد يحمل اسم والدها وهما خير ما تملك.
وأكثر من ذلك فقد دعاه في نبرة من التهكّم الى العودة لزبيدة لمواساتها مع ابنها المزعج لعله ينسى سعدى التي لن يستطيع نسيانها لان اسمها يحول دون ذلك فيقول:
فعد لزبيدة ولا تترك طفلها المزعج
يلهو وحيدا
فقد تنسى ولن تنسى فسعدى اسمها مربك..
كأني بالمشاكس يريد أن ينتقم لأيقونته سعدى فجعل المبدع يتخبّط بين ثلاثة مشاعر مؤلمة:
– شعور بالحسرة لأنه لم يقم بواجب التعزية لحبيبته الأولى سعدى بسبب الفقد.
– شعور باليأس عندما صدمه بزواج سعدى.
– شعور بالازدراء والاحتقار من نبرة المشاكس وهويدعوه الى العودة الى زبيدة مع ابنها المزعج.
وخلاصة القول فان الحب يمكن أن يكون وسيلة مواساة للمعاناة البشرية سواء معاناة البؤس أو معاناة الفقد لان الحب قيمة انسانية راقية.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة حبا للحبيبة أوحبا لله ومواساة ضد البؤس أو ضد الفقد.
بتاريخ11/ 10/2024
المراجع:
https://www.alittihad44.com>(1)
رواية “البؤساء “لفيكتور هيغو كقصة اخلاقية عظيمة الفضيلة
https://www.good reads.com>quotes(2
goodreadsاقتباسات البؤساء-فيكتور هيغو-