قراءة نقدية لنص
كم أشتهي أن تختفي من المرآة
للشاعرة التونسية سليمى السرايري
بقلم احمد الكاتب/مصر
ا….. ا
في نص سليمى السرايري “كم أتمنى أن تختفي من المرآة”، تتداخل الشخصيات مع عناصر النص بشكل يعكس الصراع الداخلي بين الذات والآخر، وهو نص يجسد حالة من الضياع والانفصال العاطفي، محملاً بالإشارات الحسية التي تعكس رغبات مكبوتة وألم الفقد.
الشخصيات:
الراوية/الأنا:
الشخصية الرئيسية التي تتحدث بضمير المتكلم.
تعيش حالة من التمزق بين الحب والحنين والرغبة في التحرر من طيف الحبيب.
هي امرأة تتحلى بحساسية شديدة نحو الذات والآخر، ما يجعلها تعيش في تناقضات مستمرة: بين الرغبة في البقاء تحت سطوة الحب والهروب منه. شخصية الراوية في النص تعبر عن أنوثة متألمة، ممزقة بين الحب والفقد، ومثل هذا الألم يظهر في استسلامها للصمت وتأملها في نفسها عبر المرآة.
الحبيب/الآخر:
يظهر الحبيب كظل بعيد لكنه مؤثر بقوة في وجدان الراوية. فهو يمثل الغياب الحاضر، الطيف الذي يطاردها في كل لحظة حتى عبر انعكاسها في المرآة. هذا الطيف يعكس علاقة حب مشوبة بالعذاب والتوق، ولكنها مليئة بالانكسارات والانفصالات.
المرآة: تلعب المرآة دورًا رمزيًا قويًا في النص، حيث تعكس صراعات الراوية الداخلية وعلاقتها بنفسها وبالحبيب. تصبح المرآة وسيلة للتأمل الذاتي وتكرار للواقع الذي لا يمكن الهروب منه. المرآة هنا ليست مجرد انعكاس خارجي، بل نافذة للداخل، تعكس الوجوه الحقيقية للروح والمشاعر.
الجار: يمثل الجار، الذي يتصاعد صوته في الخلفية، عنصرًا من الحياة اليومية، ولكن صوته ووجوده يعكس جوانب أخرى من العالم الخارجي، حيث يمارس “العشق الحرام” في مكان منعزل. هذه الشخصية الثانوية تسلط الضوء على تناقضات الحياة اليومية مقارنة بالعوالم الداخلية المعقدة التي تعيشها الراوية.
عناصر النص:
الأرق والصمت:
الأرق يتكرر في النص كحالة دائمة تعيشها الراوية، وهو يعبر عن قلقها وعدم قدرتها على الهروب من مشاعرها. الأرق يرتبط بالصمت الذي يحتضنها، حيث تجد نفسها وحيدة وغارقة في أفكارها، غير قادرة على الانفصال عن الحبيب.
الطيران والانهيار:
تتكرر صورة الطيران في النص، سواء في صورة “طائرة ورقية” أو “طائر فاقد الوعي”، كرمز لحالة الفقدان والسيطرة التي تشعر بها الراوية. الطيران هنا هو رمز للحلم، ولكنه حلم متكسر، حيث لا تستطيع الراوية الحفاظ على توازنها أو الإمساك بالخيط الذي يربطها بالحبيب.
القبلة والشهوة:
تمثل القبلة والشهوة في النص رغبات مكبوتة وصراع داخلي، فكلما أطلت الشهوة من عيني الحبيب، تدرك الراوية أنها غارقة في شغف يجرها نحو الاحتراق والضياع. الشهوة هنا ليست مجرد فعل جسدي، بل تجسد استسلام الروح للآخر والاندماج في حالة من الجنون العاطفي.
الأشياء الصغيرة:
تشير النصوص إلى التفاصيل الصغيرة التي تحيط بالراوية، مثل “الولاعة الذهبية” و”ربطة العنق”، مما يضفي لمسة واقعية على مشاعرها ويعيدنا إلى لحظات الحب الماضية. هذه الأشياء تحمل ذكريات مشتركة، لكنها تتحول في غياب الحبيب إلى رموز فارغة لا معنى لها.
الريح والفراغ:
الريح تمثل القوة التي تحمل التغير والانفصال. بينما تتحدث الراوية عن الرياح العاتية، يمكن اعتبارها رمزًا لحالة الفقدان والوحشة التي تعيشها. الرياح هي التي تأخذ كل ما كان، وتترك فراغًا هائلًا داخلها.
التحليــــــل النفســـــي:
النص يعبر عن حالة انفصام بين الذات والآخر. الراوية تبحث عن وجود الحبيب في كل شيء، حتى في انعكاسها الذاتي في المرآة، لكنها في النهاية تدرك أنها تعيش في حالة ضياع. يظهر النص التأرجح بين الرغبة في التواصل والانفصال، وبين الحاجة إلى الحبيب والرغبة في التخلص منه.
الخلاصة:
في نص “كم أتمنى أن تختفي من المرآة”، تقدم سليمى السرايري تصويرًا شاعريًا مكثفًا للصراع الداخلي بين الذات والآخر، حيث تعبر الراوية عن ألم الفقد، التوق للحبيب، ومحاولة الهروب من سيطرة الطيف الذي لا يغادرها. النص يتناول موضوعات الحنين، الشهوة، والانفصال عبر رموز مثل المرآة، الأرق، الطيران، والأشياء الصغيرة التي تحمل معاني الذكريات المفقودة. الشخصيات والعناصر تتفاعل لتشكل مشهدًا معقدًا من الألم والرغبة في التحرر، مما يعكس عمق العواطف والاضطراب النفسي الذي تعيشه الراوية.
المنظــــور البنيوي والبلاغــــي
في تناول النص “كم أتمنى أن تختفي من المرآة” لسليمى السرايري من منظور بنيوي وبلاغي، يمكن التركيز على عدة جوانب تتعلق بالبنية النصية وأسلوبه البلاغي بالإضافة إلى بلاغة السياق.
النقد البنيوي:
النقد البنيوي يهتم بكيفية تشكل المعاني من خلال العلاقات الداخلية بين أجزاء النص وعناصره، مع التركيز على البنية العامة وأسلوب التنظيم.
البنية العامة:
التكرار والإيقاع:
يتكرر في النص عدد من الصور والأفكار مثل الطيران والمرآة والشهوة، مما يخلق نوعًا من الإيقاع الداخلي الذي يعزز شعور القارئ بالقلق والتوتر الذي تعيشه الراوية. التكرار هنا ليس فقط إعادة للأفكار بل يعكس تراكم مشاعر الراوية وتصاعدها التدريجي.
التجزئة والانكسار:
النص يتألف من مقاطع قصيرة متتابعة، تشبه التدفقات الشعورية التي تتدفق وتتراجع. كل مقطع يشكل وحدة شعورية منفصلة لكنه مرتبط بما يليه. هذه البنية المجزأة تعكس تمزق الذات وصراعها الداخلي.
التوازي والتباين:
النص يعتمد على التوازي بين حالات الشعور المختلفة: الشهوة مقابل الفقد، القرب مقابل البعد، المرآة مقابل الغياب. هذا التوازي يعمق الصراع الداخلي لدى الراوية، حيث تبدو ممزقة بين مشاعر متناقضة، ويؤكد على الاستقرار العاطفي الذي تعيشه.
التباين يظهر بين الشخصيات والعناصر:
الجار يمارس الحب المحرم بينما الراوية تغرق في شعور الوحدة والانكسار. هذه الفروقات في الشخصيات تسلط الضوء على العزلة الداخلية للراوية مقابل حيوية الخارج.
العناصر الرمزية:
المرآة: تلعب المرآة دورًا محوريًا في النص، فهي ليست مجرد أداة للنظر بل تصبح وسيطًا بين الذات الداخلية والخارجية. إنها رمز للتأمل الذاتي والانفصال عن الواقع المادي، تعكس الصراع بين الرغبة في الحبيب والهرب منه.
الطائرة الورقية:
تمثل حالة عدم الاستقرار، والانفلات من السيطرة، وهو ما يتماشى مع فكرة الفقد والضياع التي تعيشها الراوية. الطائرة الورقية تحمل دلالة على هشاشة العلاقة بين الراوية والحبيب، فهي سهلة الانقطاع والتكسر.
الأشياء الصغيرة:
مثل “الولاعة الذهبية” و”ربطة العنق”، هي رموز لعلاقة الحب، لكن هذه الأشياء تفقد معناها وتصبح فارغة بعد الفراق، مما يعمق شعور الضياع.
النقد البلاغي:
من الناحية البلاغية، النص يبرز ببراعة في استخدام الاستعارات والتشبيهات، إضافة إلى تداخل الحواس، مما يعزز تجربة القراءة ويعطيها عمقًا إضافيًا.
الاستعارة:
يستخدم النص العديد من الاستعارات للتعبير عن مشاعر الراوية، مثل استعارة “طائرة ورقية” للدلالة على الشعور بالانفلات من السيطرة. الطائرة الورقية هنا ليست مجرد وسيلة للطيران، بل تعبير عن الذات الهشة التي تُحركها الرياح دون إرادة.
استعارة “العزلة التي تمد ألسنتها” تعطي العزلة سمة حية، وكأنها كائن يتفاعل مع الراوية، مما يعمق الإحساس بالوحدة والانكسار.
التشبيه:
التشبيه البارز في النص هو “كَطَائِرٍ فاقِدِ الوَعْيِ” و”كَشُرْفَةٍ وحيدةٍ دون حِيطَان”، وهذان التشبيهان يعكسان حالة الضعف والفقدان لدى الراوية، فالتشبيه الأول يعبر عن السقوط الحرّ بلا قدرة على التحكم، بينما التشبيه الثاني يرمز إلى الفراغ والوحشة التي تعيشها.
تشبيه “الشرفة الوحيدة دون حيطان” يبرز حالة الانكشاف والعزلة، إذ أن الشرفة بطبيعتها تطل على العالم الخارجي، لكن كونها دون حيطان يجعلها عُرضة للفراغ المحيط بها.
التناقض:
هناك تناقض واضح بين رغبة الراوية في الحبيب ورغبتها في نسيانه. هذا التناقض يخلق نوعًا من التوتر الداخلي في النص، مما يجعله أكثر عمقًا ويعبر عن التمزق العاطفي الذي تعيشه الشخصية الرئيسية.
التكرار:
النص يعتمد على التكرار كوسيلة للتأكيد على مشاعر معينة، مثل تكرار فعل الاحتراق والضياع. هذا التكرار يعزز الشعور بالغرق في مشاعر لا مخرج منها.
بلاغة السياق:
بلاغة السياق تعني تحليل النص في ضوء الظروف والمواقف التي يعبر عنها، وكيف يتفاعل النص مع هذه الظروف.
السياق النفسي والعاطفي:
النص يعبر عن حالة نفسية معقدة، حيث تعيش الراوية في حالة صراع بين التعلق بالحبيب والرغبة في التخلص من طيفه. بلاغة السياق هنا تظهر في قدرة النص على نقل مشاعر الحيرة والضياع بأسلوب يشدّ القارئ ويجعله يتعاطف مع الشخصية الرئيسية.
الرغبة في الهروب من المرآة هي رمز لرغبة الراوية في الهروب من نفسها، من الانعكاس الذي يعيد تذكيرها بغياب الحبيب. وبالتالي، المرآة تصبح هنا رمزًا للذات الحقيقية التي تحاول الراوية إنكارها أو التهرب منها.
السياق الاجتماعي:
في النص إشارة إلى “العشق الحرام” الذي يمارسه الجار، وهذا يعطي النص بعدًا اجتماعيًا يتجاوز المشاعر الفردية. بلاغة السياق هنا تكمن في إظهار الصراع بين الرغبات الفردية والقيود الاجتماعية، حيث تكون العلاقات محكومة بأعراف وتقاليد تجعل الراوية تشعر بأنها مقيدة حتى في عواطفها.
الخلاصة:
النص “كم أتمنى أن تختفي من المرآة” يتسم ببنية معقدة تعتمد على التكرار والتوازي والتباين لتعكس الصراعات الداخلية للشخصية الرئيسية. من الناحية البلاغية، النص يعتمد على الاستعارات والتشبيهات لتعميق المعاني وتوضيح مشاعر التمزق والحيرة. بلاغة السياق تتجلى في تفاعل النص مع الظروف النفسية والاجتماعية التي تحيط بالراوية، مما يجعل النص تعبيرًا قويًا عن الفقد والصراع الداخلي والتمرد على القيود الاجتماعية.
ا………ا
جمال الصورة الشعرية في نص:
“كم أتمنى أن تختفي من المرآة” لسليمى السرايري
يتجلى في استخدامات اللغة المكثفة والرموز العميقة التي تعكس الصراعات الداخلية وتجارب الفقد، مما يضفي عمقًا وثراءً على النص. إليك بعض جوانب جمال الصورة الشعرية في النص:
1- الاستعارات الغنية :
تستخدم الشاعرة الاستعارات بمهارة لتعبر عن مشاعر مركبة. مثلاً، وصف “طائرة ورقية” كرمز للانفلات من السيطرة يعكس حالة الراوية النفسية الضعيفة. هذا الاستخدام يجعل القارئ يشعر بضعف الشخصية الرئيسية وعجزها عن التحكم في مشاعرها.
2- التشبيهات الحية :
التشبيهات التي تستخدمها الشاعرة مثل “كَشُرْفَةٍ وحيدةٍ دون حِيطَان” تعزز من الإحساس بالوحدة والعزلة. هذه الصورة الشعرية تُشعر القارئ بأن الراوية تعيش في عالم مفتوح لكنه خالٍ من الأمان، مما يعكس حالة الضياع التي تعيشها.
3- تداخل الحواس:
الشاعرة تتقن تداخل الحواس، حيث تمتزج الصور السمعية والمرئية واللمسية بشكل متوازن. على سبيل المثال، تصوير مشهد “الولاعة الذهبية” و”ربطة العنق المنقطة” يخلق إحساسًا ماديًا يضاف إلى التجربة العاطفية، مما يجعل القارئ يشعر وكأن هذه الأشياء تحمل عبء الذكريات.
4- تجسيد المشاعر :
تجسيد العواطف من خلال الصور الشعرية، مثل “أُقَبِّلُ وَجْهِي في المرآة”، يعبّر عن الصراع الداخلي الذي تعيشه الراوية. هذه الصورة تُعطي إحساسًا بالتناقض بين الرغبة في الاعتراف بالنفس والحنين إلى الماضي، مما يجعل القارئ يتعاطف مع الحالة النفسية للشخصية.
5- إيقاع الكلمات :
النص يحمل إيقاعًا موسيقيًا من خلال استخدام الألفاظ التي تتدفق بشكل سلس، مما يعزز من تجربة القراءة. الجمل تتنقل بين الهدوء والانفعال، مما يخلق جوًا شعريًا متوترًا يتناسب مع الموضوعات التي يتناولها النص.
6- الرموز العميقة:
الرموز المستخدمة مثل “المرآة” و”العشق الحرام” تعطي النص عمقًا إضافيًا، حيث تحمل معاني متعددة. المرآة تعكس ليس فقط صورة الراوية بل أيضًا هويتها المتأزمة وعلاقتها بالحبيب، مما يجعل هذه الرموز تدور حول مواضيع الحب والفقد والهوية.
7- اللغة الشعرية :
استخدام لغة غنية بالصور الشعرية والكلمات القوية تعكس عواطف عميقة، مثل “أَطْلَقَتْ صَفَّاراتِ جُنُونِها” حيث تُجسد الفوضى العاطفية التي تعيشها الراوية. هذه الصور تجعل القارئ يشعر بمدى عمق الصراع الذي تواجهه الشخصية.
الخلاصة:
جمال الصورة الشعرية في نص سليمى السرايري يأتي من قدرتها على نقل مشاعر معقدة عبر استخدام استعارات وتشبيهات قوية، وتجسيد دقيق للعواطف، مما يجعل القارئ يعيش تجربة نفسية غنية. هذه الصور تساهم في جعل النص ليس فقط تعبيرًا عن الألم والفقد، بل أيضًا رحلة شعورية متكاملة تعكس ثراء التجربة الإنسانية.
–
الناقد أحمد الكاتب/مصر