سعيد جدا بهذه القراءة الراقية من صديقتي Saida Baraketi البهية …
ويبقى الحرف على أهبة الجرح.
تأملات في إيماءة الصفر للشاعر الجزائري محمد مشلوف
بقلمي سعيدة بركاتي/ تونس
———————————————
. #الإيماءة
حَرَكَةٌ، إشَارَةٌ، لَفْتَةٌ بِوَاسِطَةِ عُضْوٍ مِنْ أعْضَاءِ الجِسْمِ أَوْ مَلاَمِحِ الوَجْهِ.
الرقم صفر : عدد و رقم في نفس الوقت ، سأقف معه كلما تقدمت في القراءة لأن هذه الإيماءة باحت بالكثير ، لنرى الهنود ماذا قال عنه ؟ أطلق الهنود على هذا الرمز اسم “شونيا”، وهي كلمة مازالت تستخدم اليوم لتعني اللاشيء كمفهوم، والصفر كعدد.
ووفقًا لمذاهبها الدينية فإن الصفر مستدير لأنه يدل على دائرة الحياة، أو كما كان يعرف باسم “ثعبان الخلود (أوروبوروس)”.
شاعرنا اختار لنصه ” ايماءة صفر مع كتابته للتأكيد على الرقم 0.”
——————————————–
#القراءة
——-
النص ورد على شكل مقاطع ، المقطع الأول : ينتبه فيه القارىء إلى فعل تجادلني و إلى إسم سِنِمار : لحظة الصفر يعني لا زمان و لا مكان أيضا ، لكن المجادلة بين قطف ، و إنبات تقطف العمر من وردة / و إن قُطف الورد ينتهي عمره بعد وقت ، ف ” ثم ” : حرف عطف يدلّ على الترتيب مع التراخي في الزمن فالجدال ، هو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، نلاحظ ان لحظة الصفر فقط هي الماسكة بزمام الأمور ، فقط هي التي تجادل /تقطف/تنبت. رغم فعل تجادل ليس له صلة بالقطف و الإنبات اللذان يدلان على التجديد . لنعود إلى اسم ” سِنِمَّــارَ ” ، و معناه: القمر، اللص، من لا ينام الليل… وسنمار: اسم مهندس رومي بنى للنعمان قصر الخَورنق، فكان جزاءَه أنْ رماه النعمان من أعلى القصر. وضُرب به المثل ” جزاء سنمار “. التناص بين حالة الشاعر و ما لقيه سنمار النعمان في الجرح و الركن القصي ، إشارة إلى الوحدة التي يعانيها الشاعر ، فبالرجوع إلى السطر الذي سبقه ” صب يحاكي سنمار ” أي عشق هذا ؟! تأخذك الأسئلة و تحاول حزم ما أوحت لك به هذه الأسطر من أول القصيدة : حالة جدال مع لحظة الصفر ، ينتهي عمر الورد ، انبات عشق و قصة سنمار لمجرد ذكر اسمه ، فهناك سنمار واحد نعرف قصته ، فهل الشاعر اغتاله الحب و رُمي كسنمار من أعلى درجات العشق ” الصب ” بركن بعيد مخفي ؟!” حب من ؟ حب حاضر أم كان في ما مضى …؟ سنمار لم يحب في قصته ، بل أتقن عمله ،لكن كان جزاءه الموت !!! أُفَكِّـرُ … مَ معنى أفكر؟ [ف ك ر]. (فاعل من فَكَّرَ). 1. :-مُفَكِّرٌ فِي شُؤُونِهِ ومَشَاكِلِهِ :- : أَيْ يُعْمِلُ فِيهَا فِكْرَهُ وعَقْلَهُ لِيَصِلَ إِلَى حَلِّهَا. تكرر هذا الفعل الحاضر أربع مرات في النص ، و التكرار يجلب انتباه المتابع ، و مع كل فعل وِقفة تأمل للكاتب لنراها معا تِباعا : الأولى وقفة تأمل لصور من الماضي رُسمت على صدر الجدار ، ( كانت و لا تزال الجدران مدونة تحفظ التاريخ ) ، طغت عليها العتمة : انطفاء الشموع ، أعيدت المصابيح للصفر ، هنالك بوابة للرجوع .هذا الفعل ” أفكر ” مع نقاط التواصل للمساحة الحرة التي يتركها الشاعر للقارئ، كان معه فعل أمضي / أمارس /أرقب ليعود الشاعر للمضي ، بين ممارسته للغياب و الرجوع من نفس البوابة ، هو إذن يفكر في حلقة مفرغة ؟ نقطة الانطلاق نفسها الوصول أو العودة . المقطع الأول ممارسة فن الغياب في الركن القصي و العد يصل للألف . و بالعودة إلى الرقم صفر فقد بدأ يتضاعف و نحن نتقدم مع النص ، و رمزيته الإمكانات اللانهائية يجسد مفهوم الفرص اللامحدودة والطبيعة الدورية للوجود.( إشارة لرمزيته لا غير ) كل مقطع كأنه نتيجة للذي سبقه ، تتوسع دائرة التفكير من صور على الجدار كستها العتمة إلى احتجاب الأرض عن جاذبيتها ، الشاعر غاب عنه المكان لم يعد ثابتا بأرضه ، فقد غابت عنها الجاذبية فهو معلق بين سماء و أرض ، تناص بينه و بين تفاحة نيوتن ، كلاهما غابت عنهما الجاذبية، بقي ما بين سماء و طين ، و الأرض و ما فيها يساوي الحياة ، فان تبقى معلقا فانت لا تحيا و لا تموت . النتيجة: الشاعر يبحث عن أرض حتى يكون ثابتا و ربما يعرف ذاته و ما تريد ، تأمل كان قصيرا غاب فيه الشاعر بالحضور ” ليس لي شَبَهٌ بالغَـيَاباتِ في نِصْفِها الشَّاعِـــرِيّْ قريب هو من حالة الهذيان ! ربما … وقفة تأمل ثالثة ،تقريبا جمعت كل عناصر الطبيعة حركها الشاعر في حضور الغياب : النار/الغصن/الغيم/التراب/زرقة البحر/غبار/ضباب/رياح/سحاب. النار هي الأخرى ارتبطت بالإيماءة حين احترق الغصن ، و الغصن فرع من الشجرة ، و حين احتراقه فقد تخلت عنه الشجرة و بقية الأغصان ، لنعود إلى أعلاه قبل التفكر حين قُطف العمر من وردة . فنتساءل هل هذا الغصن هو الشاعر ، و كيف تتخلى الشجرة عن غصنها ؟! إما قطعا أو احتراقا … بين الدمع و الغيم اكتساح للتراب ! هل من فقدهم الشاعر ؟ هل هو تراب الأجداث ؟ سبق و أن وجدنا الشاعر في اللامكان ، في هذا المقطع غاب الزمان : “تفِــرُّ العقــاربُ مِنْ ساعـــةِ الحائطِ اللاَّسَمـــائِـــيّْ.” كان الوجع عنيفا ،بلغ أشده في هذا المقطع ، و لعله سطر منه لخص لنا النص : ” امْتِثَالاً لِـقُـبَّـرَةٍ تحتمي مِنْ رِياحِ الصَّبَا، ” كانت الطيور رموزًا قوية عبر الثقافات والأزمنة، بعضها يمكن أن تساعدنا على الشعور بالارتباط بأحبائنا الذين رحلوا … ما رمزية طائر القبرة ؟ تشتهر القبرات بأغانيها الصباحية الجميلة، والتي ترمز إلى التجديد ، أغنيتها بمثابة تذكير بأن كل يوم هو بداية جديدة وأن روح أحبابنا هي جزء من دورة الحياة المستمرة، و عسى ذكراهم روح و ريحان . نستنتج إذن أن شاعرنا فعلا يعاني الفقد ، فقد عزيزا عليه ، ربما غائبا أو هو تحت التراب . فقبرة شاعرنا ركبت ظهر الضباب ، محملة برسالة من عيني صبي تراودها الدموع . مقطع جمع فيه الشاعر كل حزنه وصف حالته و الدمع كأنه دمع صبي ، و دمع الصبيان يكون غزيرا خاصة عندما يحتاج شيئا و لا يجده أو يُوفر له . آخر مقطع كان وِقفة استدراك لما سبق . الجرح من الصعب أن يلتئم حين يكون غائرا و عميقا ، جرح الفقد أبدا لن يندمل و إن تناسينا فلن نستطيع النسيان ، إيماءة الصفر ، تجادلني عن كفّها : صفر اليدين نحن دون الذين فقدناهم . شاعرنا على أهبة الكتابة و إن خطّ قلمه ما لا يشاء و ينسى ” حروف الهوى ” الأزلي “”.
نصّ أعتبره كقارئة شبه رسالة إلى أحدهم فقده الشاعر ، صوره الشعرية بديعة المعنى و المجاز ، نصّ قريب جدا من النصوص الفلسفية الوجودية ، مفاتيح الدخول إليه عديدة ، طوبى لمن اهتدى إلى أحدهم ، نصّ مؤثّر لما حمله من كمية الوجع، فالذكريات المؤلمة يولد منها مثل هذه النصوص البديعة .
نصّ استفز قلمي فكانت هذه القراءة المتواضعة ، و اعترافا مني : النص لم يأخذ كل حظه ، عسى لمتابعي الشاعر رؤيتهم من زوايا أخرى للنص .
بقلمي سعيدة بركاتي /تونس