قراءة نقدية: “القصيدة ومتعة الأسلوب الانزياحي”
الشاعر حمد حاجي(تونس)
القصيدة :” لا تذهبي لليل وحيدة”
الناقدة :جليلة المازني (تونس)
سأبني قراءتي النقدية انطلاقا من ثنائية العنوان والقفلة لتحليل متن القصيدة المشحونة بالرمزية والأسلوب الانزياحي.
القراءة النقدية:” القصيدة ومُتعة الأسلوب الإنزياحي”
– العنوان ” لا تذهبي لليل وحيدة”
– القفلة :” فتبّا وتبت يدا الليل واللهب..
بين العنوان والقفلة علاقة سببية .
استخدم الشاعر حمد حاجي أسلوب الإنزياح التركيبي القائم على أسلوب انشائي يجمع بين النهي والدعاء بالشر.ففي العنوان نهي وفي القفلة دعاء بالشرّ
يتوجه الشاعر ليُخاطب امرأة وينْهاها عن الذهاب لليل وحدها.
ونفهم من القفلة سبب نهيه لها للذهاب وحدها لليْل.
ان دعاء الشاعر على الليل واللهب بالشر بالقفلة يشي لنا بأنه يخاف عليها منهما حين تذهب وحدها بالليل .فيقول:
فتبا…وتبت يدا وحشة الليل واللهب.
والليل واللهب كلاهما كناية عن الشخص المتحدث عنه وهو غريم الحبيب.
– الى ما يرمز الليل؟
– الى ما يرمز اللهب؟
*الليل هو رمز الظلام و الخوف والمجهول والخطر.
* اللهب يحيلنا بالقرينة “وتبت يدا وحشة اللهب” الى أبي لهب وهذا الدعاء بالشر يتناص مع النص القرآني لسورة المسد الآية (1).
وأبو لهب هو أحد أعمام الرسول الذي ألحق الأذى بالرسول من شدة كفره بالله.
ووجه الشبه بين قول الشاعر والآية القرآنية هو الحاق الأذى.
وبالتالي فالشاعر استخدم الانزياح الدلالي القائم على الكناية سواء في العنوان او في القفلة :
– لقد كنى عن الشخصية المتحدث عنها بالعنوان بالليل باستخدام حرف الجر اللام الذي له نفس معنى الى: “لا تذهبي الى الليل وحيدة”.
فالشخصية المكناة بالليل ترمز الى الظلام والمجهول والخطر.
– اللهب كناية عن الشخص الذي سيلحق الأذى بهذه المرأة التي ينهاها
الشاعر عن الخروج وحيدة بالليل لليل . والليل واللهب هما نفس الشخصية المنافسة للحبيب…انه الغريم والخصم للحبيب في حب حبيبته.
من خلال هذه المزاوجة التحليلية بين العنوان والقفلة قد استخدم الشاعر ظاهرة الإنزياح الأسلوبي التي اهتمت بها الدراسات الحديثة:
” الانزياح باعتباره قضية أساسية في تشكيل جماليات النصوص الأدبية
وبوصفه- أيضا- حدثا لغويا في تشكيل الكلام وصياغته.
والانزياح هو خروج الكلام عن نسقه المثالي المألوف أو هو خروج عن المعيار
لغرض قصد إليه المتكلم يخدم النص بصورة أو بأخرى”(1).
والانزياح ثلاثة أنواع:
– الانزياح التركيبي.
– الإنزياح الدلالي.
– الانزياح الإيقاعي.
استهل الشاعر” الحبيب” قصيدته بمواجهته لتيارين :
– التيار الأول الحبيبة وعدم قدرته على مقاومة حبّها وعلى التخلي عنها لصالح غريمه.
– التيار الثاني يتمثل في المنافس له على حبّه وهو في ذلك لا يخفي عنّا خوفه على حبيبته وغيرته عليها من غريمه وخصمه.
يقول:
كثير علي اذا أنت والليل مجتمعان…
اذ الليل عيناه ظلاعقاب..
وانت كما انت خيفانة مثل أرنوبة في شباك وفي ضغب.
كثير علي اذا انت والليل…اياك
بالليل ان تذهبي …
ولإضفاء جمالية على نصّه الشعري استخدم الشاعر أسلوب الانزياح الدلالي والايقاعي:
* الانزياح الدلالي القائم على الكناية والتشبيه :
لقد كنّى عن منافسه بالليل في ظلامه ومجهوله وخطره .
– كنّى عن صفة في غريمه” عيناه ظلا عقاب” وهي كناية عن صفة حدّة النظر التي يتّصف بها طائر العقاب فيقال “أبصر من عقاب”.
– شبّه الحبيبة بأرنوبة بما تتصف به من ضعف وجبن وهي مخنوقة في شباكه
وغير قادرة على مواجهته.
* الانزياح الايقاعي الداخلي بتكرار تلك الترديدة التي استهل بها القصيدة (كثير علي: اذا أنت والليل..) وما تتضمنه من جناس ايقاعي تامّ.
فيقول :كثير علي اذا انت والليل
من خلال هذا الانزياح الدلالي يقابل بين ضعف الحبيبة وقوة الغريم وبين خوفها وجرأته والحبيب في ذلك لا يخفي عنّا خوفه عن حبيبته التي يخيفها هذا الغريم والحبيب غير قادر على مواجهة الطرفين (كثير عليّ اذا أنت والليل مجتمعان)
لذلك يحذّرها من الذهاب اليه(اياك بالليل ان تذهبي).
يواصل الشاعر مستخدما الإنزياح التركيبي بتقديم الخبر على المبتدإ (بكفه بدر كتفاحة) ثم قدم الضمير المتصل(بكفه) على اسم متأخر وهو الليل الذي هو في وظيفة بدل لاسم اشارة (ذلك الليل) .
وقد ورد في غير معناه المألوف كظرف زمان بل كان انزياحا دلاليا وهو كناية عن الخصم الذي يخاف الحبيب عن حبيبته منه.
يواصل الشاعر باستخدام الأسلوب الإنزياحي الدلالي بواسطة مفارقة عجيبة جعل فيها البدر صغيرا حين شبهه بتفاحة في صغرها لا يفي بالنور لذاك الليل المظلم وأكثر من ذلك يستخدم مفارقة ثانية حين يجمع بين وحشة الأمل والخيبة فلا يمكن أن يكون الأمل موحشا وخائبا.
(يا وحشة الأمل الأخيب) فعادة ما يكون الأمل رمز التفاؤل والوحشة والخيبة رمز التشاؤم .بل ويجمع بين القُصّة التي هي مباركة والعقرب المؤذية القاتلة
ويضيف أنه”يلسع دائما”
ثم يعود لينْهاها مرة ثناية تحذيرا لها من الخروج وحدها قائلا:
“لوحدك في الليل لا تذهبي..”
وهذه الترديدة نوع من الانزياح الايقاعي الداخلي بواسطة التكرار والجناس وهي
تفيد التأكيد وهو إصرار على شيء بشدة.
والشاعر بتلك الترديدة المكررة يؤكد عليها بعدم الخروج لوحدها في الليل بما فيه من خطر.
==== يتبع===
=== يتبع ===
ويتدرج الشاعربهذا الغريم الذي يراقبها فيشبهه بالوحش في شراسته و حيوانيته القبيحة.
فيقول :
يراقبك كالوحش من تحت نظارتيه
وعيناه بين النجوم كقرطين من ذهب
ويعطيك عهد الامان وينشب بالغاب
كل الحرائق واللهب
لوحدك يا حبّ للغاب والليل لا
تذهبي…
ان هذا الوحش يُظهر خلاف ما يُبطن
انها مفارقة بين الظاهر والباطن ومفارقة بين المكان والزمان فالمكان مجهول(الغاب) والزمان مجهول(الليل).فلا الزمان يشفع ولا المكان يتيح لخروجها وحدها.
ويواصل الشاعر باستخدام الانزياح الدلالي من استعارة وتشبيه ومقابلة لتهويل نفاق خصمه وغريمه حتى لا تتيه حبيبته في ظلامه ومجهوله وتغترّ بظاهره المزيّف وبحلاوة لفظه.
فيقول: تخاله كالطير يشدو ويهدل بالبشر
والطرب
يريك الحلاوة في لفظه الريّق
الأطيب
ولكنه بالبرية كالذئب يعوي بلا سبب
لوحدك كالشاة يا حبّ في الليل لا
تذهبي…
ان الشاعر باسم الحبيب يستخدم مقابلة معنوية لتحذير الحبيبة من أن تكون فريسة
(الشاة) لذئب مخادع (يعوي بلا سبب)
ان استخدام الشاعر لأسلوب الانزياح الدلالي حين شبه غريمه بالذئب في شراسته ومكره وخداعه وشبه حبيبته بالشاة في ضعفها ووداعتها ونقاوتها وبراءتها يسلط الضوء على امكانية انسياق الحبيبة الوديعة الى خداع غريمه بما يظهره من حلاوة اللفظ وبريق مغرياته خوفا من أن تنجذب اليه وتخوض مغامرة مجهولة العاقبة معه.
وهكذا فان الشاعر تدرّج في وصف غريمه وخصمه من ملامح الليل والظلام والمجهول الى الوحش بشراسته وقبحه والمنافق بالجمع بين المتناقضات الى الذئب بمكره وخداعه لعله يقنع حبيبته بعدم خوض المغامرة وحيدة معه.
والشاعر “الحبيب” قد ركّز على “وحيدة “و “لوحدك” ليركّز على مدى خوفه عليها من خصمه الذي يدّعي حبّها باستضعافها وحتى باستنقاصه كحبيب بديل.
وهل أكثر من أن الحبيب يدعوها الى الرحيل عن مكان خصمه المجهول والارتحال مع طيف هواه الكلف المتعب والثقة في حبّه الذي لن يخيب مؤكدا عليها بذاك التكرار وبتلك الترديدة التي زاوجت بين الانزياح الدلالي (التشبيه بالغصن في الريح) والانزياح الايقاعي في تكرار تلك اللازمة.
فيقول: ويبحث فيك وفيّ عن السبر
والمسرب
فخلّي المكان مكانه وارتحلي مع
طيف الهوى الكلف المتعب
ثقي بالصبابة.. ظني بحبك خيرا ولا تختبي
لوحدك كالغصن في الريح بالليل لاتذهبي..
انه يثير مشاعرها حتى لا تستكين وتنساق الى مغرياته .
ويختم الشاعر بالجمع بينه وبين لياليها التي سيفتقدها بسبب هذا المنافس الشرس الذي يسعى الى افتكاكها منه مستغلّا ضعفها.
ويصل بالحبيب الكره الى الدعاء بالشرّ على غريمه وخصمه في الحبّ ويكني عنه بالليل و بأبي لهب الذي سيلحق الأذى بحبيبته التي سيجعلها فريسة وضحية له .فيقول:
أنا ولياليك يا حبّ وحّدنا البؤس في مذهب
جنون اذا ما أتى الليل..يا كم أحلّ مثل ما حلّ بي
كثير عليّ اذا أنت والليل مجتمعان..فلا تذهبي..
تبّا وتبّت يدا وحشة الليل واللهب..
ان الشاعر جمع في القفلة بين الكنايتين (الليل واللهب)تحقيرا لهذا الغريم والخصم المتوحش.
وخلاصة القول فان الشاعر حمد حاجي باستخدام أسلوب انزياحي بأنواعه التركيبي والدلالي والايقاعي استطاع أن يقارن بين غريمه وخصمه في الحب بخداعه ونفاقه وظلامه ومجهوله وبين نفسه في هواه وصبابته وكلفه بالحبيبة.
ولعل الشاعر يسلّط في ذلك الضوء على واقع تعيش فيه المرأة صراعا بين الحبيب الصب والكلف بها وبين الذي يسعى بقوّته ومغرياته لاختطافها منه وافتكاكها له.
والسؤال الذي قد يُطرح :
مع من ستنساق هذه الحبيبة ؟
– هل تنساق مع شخص مخادع ومنافق أم مع حبيب صبّ و كلف بهواها؟
سأترك الجواب من خلال تلك الفجوات النصية والذخيرة النصية لفضول القارئ الذي قد ينطلق من الواقع الذي قد يجسّد هكذا وضعية صراع بين حبيب برّاق بخداعه وزيفه وحبيب صبّ كلف صادق الحبّ.
سلم قلم الشاعر حمد حاجي الذي سلط الضوء على نوعين من الحب: حبّا مزيّفا يجعل الحبيبة فريسة وحبا يرتقي بها الى الحب الصادق الحقيقي.
بتاريخ 02/ 11/2024
المراجع:
https://journal.oiu.edu.sd>fal>vieww(1)
الانزياح في التراث البلاغي |ّ مجلة كلية اللغة العربية.