قراءة نقدية مزدوجة:
“الرباعية بين تعظيم الحبيبة وخيانتها”
فقرة جمع بصيغة المفرد (مبدع / مشاكس/ ناقدة )
المبدع حمد حاجي (تونس)
الرباعية: “أتت من بعيد البعائد”
المشاكس عمر دغرير (تونس)
الرباعية:” أراك ترصف قوارير النبيذ نشوانا”
الناقدة جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية المزدوجة :”الرباعية بين تعظيم الحبيبة وخيانتها”
أ- المشترك بين الإبداع والمشاكسة:
-التناص المعجمي
– الاطار المكاني(مقهى الحبائب)
ب- المختلف بين الابداع والمشاكسة:
1- المبدع حمد حاجي وتعظيم الحبيبة:
استهل المبدع حمد حاجي رباعيته بجملة فعلية في صيغة الماضي دالة على حركة القادمة اليه.
وباستخدام المبدع أسلوبا انزياحيا دلاليا قائما على الكناية والتشبيه كنّى عن القادمة اليه بالزوبعة والضوء والنور والبرق بل شبهها بالكوكب فيقول:
أتت من بعيد البعائد زوبعة في
الفضاء وضوءا ونورا وبرْقا كما
كوكب بين بدر وشمس.
لقد حدّد المكان بعيد البعائد /الفضاء
هل ان هذه القادمة التي تكبدت عناء البعد (من بعيد البعائد) في الفضاء والتي كنّى عنها بالزوبعة هي في الفضاء الواقعي أم في الفضاء الافتراضي؟ أم هي زوبعة في الفضاءين؟
لقد كنّى عن هذه القادمة اليه بصفات فيها:
– انها زوبعة (وهي محمولة على المجاز) بما أحدثته فيه من اضطراب أثّر فيه.
– انها ضوء يضيء فضاءه بجمالها.
– انها نور ينير فضاءه بجمالها .
– انها برق والبرق يخطف الأبصار بسرعة فخطفت بصره وقلبه لفرط جمالها وبسرعة البرق.
وبالتالي فهذه المرأة المكناة بالزوبعة وبالضوء والنور والبرق قد أحدثت في المبدع زوبعة وجدانية عاطفية مشاعرية وقد تكون الزوبعة الفكرية سابقة للزوبعة الوجدانية أو لاحقة لها.
ويدعم كل صفاتها بتشبيهها “بكوكب بين بدر وشمس”
والكواكب “هي عبارة عن أجسام معتمة مظلمة تدور حول الشمس في النظام الشمسي في مدارات محددة في مسار بيضاوي يسمّى المدار.”(1).
ان المبدع قد حدّد موقع هذه المرأة الكوكب “بين بدر وشمس”.
ان هذه المرأة تتموقع في موقعين:
– موقع معنوي في جمالها بين نور القمر وضياء الشمس.
– موقع طبيعي فيزيائي في ديمومتها الزمنية بين الليل والنهار .
انها متواجدة تواجد الليل (البدر) والنهار(الشمس) وبالتالي حبها أزلي وأبديّ
ويواصل المبدع وصف هذه المرأة التي يَلمحُها قامتين :
– قامة معنوية في سلوكياتها وهي بين النظر اليه وغض الطرف وهو في ذلك يمتدح حياءها ككل رجل عربي يحبّ المرأة ذات الحياء.
– قامة مادية جسدية في أناقتها ورفاهية عيشها (بثوب الدمقس) فيقول:
وألمحها قامتين تقوّس حينا
تحدّر طرفا..تشمّر طرفا..
وتلهو الرياح بثوب الدمقس
ان المبدع عشقها خَلْقا وخُلُقا سلوكا وجسدا
هذا العشق سيدفعه الى مواعدتها بمكان له دلالته المعنوية إنه مكان للأحبة .
انه “مقهى الحبائب ” فيقول:
وواعدتها والعلامة مقهى
الحبائب..عند العلي جلسنا
كأنا بعرش وكرسي..
ان المبدع الحبيب قد اختار مكانا قصيّا بعيدا عن العيون(العلي) ليستمتعا وليَنْتشيَا ببعض. انها نشوة الحب والانتشاء به.
وقد شبه مجلسهما بالعرش والكرسي :
والمبدع هنا يتنا ص مع النص القرآني:
– فالله وحده الذي على العرش استوى” الرحمان على العرش استوى” سورة طه(5) .
– والله وحده من وسع كرسيه السماوات والأرض :”وسع كرسيّه السماوات والأرض” سورة البقرة الآية(255).
– هل أن الشاعر شبّه مجلسهما بالعرش والكرسي تعظيما وتقديسا لها؟
– هل ان الشاعر الحبيب رأى فيها روعة المعبود ؟
لعله في ذلك يتناص مع الشابي حين قال:
يا ابنة النور اني أنا وحدي// من رأى فيك روعة المعبود
والشاعر حمد حاجي قد كنّى عنها بالنور والضوء و لعله فاق الشابي حين شبه مجلسهما بالعرش والكرسي.
والشاعر قد دعم قدسية هذه الحبيبة باستخدام معجمية ترتقي بها الى هذه القدسية(ضوءا/نورا/كوكب/ بدر/ شمس/ الدمقس/العلي/بعرش وكرسي) وهو في ذلك لا يخفي عنا مرجعيته الدينية.
ان هذه القدسية التي حَبَا بها الحبيبة جعلها تختزل علاقتها به في عبارة وجيزة والبلاغة الايجاز” وقالت أحبك جداّ”. انها بوْح له بالحب.
ولعل هذه العبارة المحكومة بثنائية الايجاز والايحاء قد أحدثت في الحبيب زوبعة فكرية اضافة الى الزوبعة الوجدانية العاطفية.
– ان هذه العبارة التي هي بوح بالحب قد حولت شكّ المبدع الى يقين وحوّلت الزوبعة الى هدوء .
– ان هذه العبارة دعمت ما كنّاها به ( الزوبعة النور والضوء والبرق)
– ان هذه العبارة قد حوّلت لدى المبدع نار الشك في حبها الى برد اليقين .
– ان هذه العبارة قد نزلت على قلبه بردا وسلاما فيقول:
وقالت أحبك جدّا فعاد لعهده
قلبي يدق…وأهوي على مضغة
الشك فأسي..
وبالتالي هل أن الشاعر الحبيب قبل أن يسمع عبارة “أحبك جدّا” كان قلبه ميّتا
وبسماع هذه العبارة عاد له نبض قلبه وكيف لا تحْييه وهي بهذه القدسية التي
أضفاها عليها؟.
ولعل الشاعر حمد حاجي هنا قد ارتقى بالحبيبة حين باحت له بحبّها أكثر من كافكا الذي خرج الى الشارع عند بوح حبيبته ملينيا بحبها له ليُعْلمَ كل العالم بحبها .
بيد أن الشاعر حمد حاجي كان قلبه ميّتا وعند بوْح الحبيبة بحبها له أحْيته
نشوة وانتشاء.
في هذا الاطار ما رأي المشاكس من هذه الحبيبة التي هي من روعة المعبود؟
=== يتبع ===
=== يتبع ===
2- المشاكس عمر دغرير وخيانة المبدع لسعدى:
استهل المشاكس رباعيته باللعب على شخصية المبدع فحوّلها من حبيب مُنْتش
بروعة المعبود في حبيبته الى شخصية مُنْتشيَة بالخمر وهل يرتقي الانتشاء بالحب الى الانتشاء بالخمرة؟ فيقول:
أراك ترصّف قوارير النبيذ نشوانا
وتفرغ في بطنك ما بقي من ثمالة في الكأس
والمشاكس الذي كان شاهد عيان على مجلس خمر المبدع يراه يستزيد من
شرب الخمر لعله يزيل الصداع ووجع الرأس .
كأني بالمشاكس عليم بما يحيط بالمبدع وما يعيشه من وجع جعله يُدْمنُ على
الخمرة لتعوّضه نشوة الحب فيقول:
وتطلب من النادل المزيد فقد تزيل الصداع
وتعلم أن الخمرة لن تشفيك من وجع الرأس…
من خلال هذه الفجوة النصية قد يتدخل القارئ وقد يدْعمُ رأي المشاكس وقد يعتبر ان الإدمان عن الخمر لن يحلّ أية مشكلة واقعية.
ان الإدمان على الخمر هو هروب من واقع مرّ الى واقع وهمي وزائف.
وبالتالي فلئن كان المبدع الحبيب مُنتشيًا بروعة المعبود حبيبته انتشاء واعيا وواقعيا فان المشاكس جعل المبدع مُنتشيا بالخمرة انتشاء عابرا وغير واع وهو
هروب من الواقع الى اللاوقع الوهمي والزائف.
والمشاكس يُدرك تماما أن انتشاء المبدع بالخمرة لن يحلّ ما يعانيه من واقع مرّ حين يقول مخاطبا المبدع ليضعه أمام الأمر الواقع ويحمّله مسؤولية تصرّفه:
وتعلم أن الخمرة لن تشفيك من وجع الرأس..
وكأني بالمشاكس بعبارة أخرى مقتنع بأن الانتشاء بالخمرة هو انتشاء عابر ووهمي وزائف بل هو هرووب من الواقع .والإنتشاء الحقيقي هو الإنتشاء مع الحبيبة .
ولعل القارئ هنا قد يسعف المشاكس ويستحضر ما قاله ابن الفارض المتصوّف في الانتشاء بالحبيبة لاقناعه…يقول ابن الفارض:
شربْنا على ذكر الحبيب مُدامة // سَكرْنا بها من قبل أن يُخلق الكرمُ
وقد قالها الشاعر الاندلسي ابن الفارض في حبيبته التي عشقها في حفل في إحدى
المدن الأندلسية(2).
ان المشاكس يُدرك تماما أن الإنتشاء الحقيقي هو الانتشاء بالحب وهو الدواء لكل وجع فيقول: ووحدها سعدى لك الشفاء من كل علاتك.
وبالتالي فان المشاكس يجعل من سعدى هي الانتشاء اليقين وهي الحقيقة التي
تهْدم كل وهْم وزيْف.
انه في ذلك يلتقي مع المبدع دون أن يشعر بأن نشوة الحب لا تعدلها أيّة نشوة.
ونشوة الحبّ هي نشوة معتقة لا يمكن أن تخالطها خيانة كما يخالط الخمرة الماء
فيقول وهو يسرّ الوجع غيرة على أيقونة الحبّ المعتّق :
ولكنها لم تنس بعد ما فعلت بها بالأمس..
وكنت واعدتها في مقهى الحبائب وحين
أتت رأت تصرّفك مع النادلة بالهمس واللمس..
ان المشاكس استعار من المبدع نفس المكان(مقهى الحبائب) الذي التقى فيه بحبيبته.
ولئن كان مقهى الحبائب لدى المبدع المكان الذي باحت فيه الحبيبة المقدّسة بحبها للمبدع الحبيب فأعادت لقلبه نبضه فان نفس المكان يجعله المشاكس مكان خيانة المبدع لسعدى مع النادلة.
انها مفارقة عجيبة في دلالة المكان :
– هل هو مقهى الوفاء في الحب للحبائب؟
– هل هو مقهى الخيانة في الحب للحبائب؟
وخلاصة القول لئن قدّس المبدع حمد حاجي الحبيبة وارتقى بها الى درجة التعظيم في الحب فان المشاكس قد جعل المبدع يخون حبيبته سعدى حبه المعتق
وفي نفس المكان(مقهى الحبائب) .
سلم القلمان المتميّزان ابداعا ومشاكسة .
بتاريخ 05/11/2024
المراجع:
https://www.twinkl.com> alkwakb..(1)
معلومات عن الكواكب والنجوم في المجموعة الشمسية وترتيب الكواكب فيها
https://www.noor-book.com>tag(2)
كتب القصيدة الخمرية لابن الفارض- مكتبة نور
القصيدتان:
أتت من بعيد البعائد زوبعة في الفضاء
وضوءا ونورا وبرقا كما كَوْكَب بَيْنَ بَدْرِ وشَمْسِ
وألمحها قامتيْن، تُقَوّسُ حينا، تُحدّر طرفًا…
تُشمّرُ طرفا… وتلهو الرياح بثوب الدَّمَقْسِ
وواعدتُها والعلامةُ مقهى الحبائب…
عند العليّ جلسنا، كأنا بعرش وكرسي …
وقالت أحبك جدا فعاد لعهده قلبي يدق…
وأهوى على مضغة الشكّ فأسي
(أ.حمد حاجي)
“””””””””””””””””””””””””””””””””
أراكَ ترصّفُ قوارير النبيذ نشوانا (المشاكس عمر دغرير)
وتفرغُ في بطنكَ مابقي منْ ثمالةٍ في الكأسِ,
وتطلبُ منَ النادلِ المزيدَ فقدْ تزيلُ الصداعَ,
وتعلمُ أنّ الخمرة لنْ تشفيكَ منْ وجع الرأسِ …
ووحْدها سُعدى لك الشفاءُ منْ كلّ علاتكَ
ولكنها لمْ تنسَ بعدُ ما فعلتَ بها بالأمسِ …
وكنتَ واعدتها في مقهى الحبائب ,وحين
أتتْ رأتْ تصرّفكَ معَ النادلةِ بالهمْسِ واللمْسِ …