القَبّالة ..
د.علي أحمد جديد
القبّالة وباللغة العبرية (قابالاه) هي مجموعة التفسيرات والتأويلات التصوّفية في الديانة اليهودية . وكلمة (قابالاه) العبرانية تعني (قبِلَ واستلم) ، ويُقصَد بها حاخامات(حكماء) الديانة اليهودية في استلامهم العقائد التصوّفية في تفسيرات (التلمود) اليهودي المقدّس . وتتم الإشارة إلى مَن يمارسون طقوس (القبّالة) بكلمة (موقوباليم) أي العارفين بالفيض الإلهي للربّ (يَهْوَه) . ومصطلح الكلمة (قابالاه) يعني القبول والتصوّف المتعلّق بالقضايا التشريعية للديانة اليهودية (هالاكاه) ويتناول قضيتين اثنتين في فهم (التلمود) اليهودي المقدّس وهما :
1 – قضية ثيوصوفية من (ثيوس) اللاتينية والتي تعني (إله و ربّ) ، ويرتبط مفهومها في الديانة اليهودية بالمفهوم النظري (ثيورجي) الذي يدل على تدخّل الربّ في الأمور الدنيوية والبشرية ويضفي عليها صِبغةً خارِجةً عن الطبيعة المعروفة لدى عموم البشر كما هو الحال في المعجِزات الإلهية .
وفي المفهوم القبّالي في الديانة اليهودية تعني القوة غير الطبيعية الكامنة في قدرة (الحاخام) المتصوِّف العارف لأبعاد الفعل الإلهي وذلك عن طريق القوة غير الطبيعية التي يسعى الحاخامات (الحكماء) للاستحواذ عليها بالتمرّن الطويل .
2 – قضية الوصول إلى الاختبار التصوفي واكتساب المعرفة من ممارسات التصوّف ( la sifia ) والتي توصل إل الحكمة (حوخماه) من خلال ترتيب اسم الربّ (يَهْوَه) بأساليب خاصة بالحاخام القبّالي وسريّة Mystic لاكتشاف عالم الأسرار الخفية وإجادة الفنون التصوّفية التي تناقلتها الحاخامات العارفون منذ أيام السبي الآشوري في (بابل) من أعمال (هاروت وماروت) اللذين كانا يعلّمان أسرار السحر البابلي المرتبط بقوى الجِنّ Demonology وبأسرار الملأ الإلهي الأعلى Angelology وبثنائية الظواهر الطبيعية (الليل والنهار) والظواهر البشرية(الروح والجسد) والظواهر الأخلاقية (الخير والشرّ) .
وتتحدث (القبّالة) عن التصوّف في الديانة اليهودية الذي يوصل ممارسيه المؤمنين (انشي ايموناه) إلى أسرار العرش الإلهي (يوردي ميركافاه) بعد إتمامهم العلوم بأسرار التوراة (رازي هاتوراة) ، لأن (التوراة) الإلهية كتبها الربّ بنارٍ سوداء خفية وعليها نَصٌّ مكتوبٌ بنارٍ بيضاء ، وأن النصّ الذي حمله كبير انبياء بني إسرائيل (موسى) في لَوْحَيّ جوهر العهد كان مكتوباً بالنار البيضاء فوق توراة الربّ المكتوبة بالنار السوداء والتي تخصُّ اليهود (شعب الربّ) من بني إسرائيل .
ويستطيع الخبير بأسرار (التصوّف القبّالي) أن يَفصِل بين حروف الأبجدية العبرانية المقدّسَة ليسخِّر بالحكمة معادلها الرقمي (غيماتريا) في الوصول إلى أسرار الدروب النورانية العشرة ( Sefirotic ) . لأن الربّ بدأ الخلق بإيجاد العقل ( هابرياهBeriah ) للإنسان اليهودي قبل أن يخلق أعمدة الكون الأربعة (الجِنّ والملائكة والإنس والشياطين) إذ أن الخلق الكوني كله يقوم على هذه الأعمدة الأربعة ، لأن ظهور الربّ يحدث بتناسق مع حروف اسمه الأربعة وكان أوّله في عالم الانبثاق ( أتزيلوثAtsiluth ) كما دلّت عليه (التوراة) في سِفر العدد :
“فأنزل أنا وأتكلم معك هناك وآخذ من الروح التي عليك وأضع عليهم فيحملون معك” .
وكان ظهوره الثاني في عالم العقل(هابرياهBeriah ) واتحاده مع السكينة(شيخيناهShekhinah ) كما جاء في سِفر الملوك ”
“بكل مَن دُعي باسمي ولمَجدي خلقته وجبلته وصنعته” .
وظهر في العالم التكوين(يتزيراهYetsirah ) الذي فيه مسكن الملائكة المُقرّبين العشرة كما جاء في سِفر الخروج :
“هاأنا مرسل ملاكاً أمام وجهك ليحفظك فب الطريق وليجيء بك إلى المكان الذي أعددتُه” .
بينما كان الظهور في العالم الرابع (آسياه Asiyah) الذي هو موطن الفوضى لسيطرة الشرّ حتى تختفي السكينة من النفوس ويتلاشى الإيمان في القلوب ، ويحين الوقت لمجيء ( المسيّا المُخَلِّص ) .
وتقول (الحكماء) الحاخامات القبّاليون أن الملوك الذين حكموا أرض (ادوم) قد مَلَّكوا أطفال (إسرائيل) وكلّفوهم مهمة استلام مشاعل النور وتسليمها فيما بينهم ليُنيروا العالم بالعلوم والمعرفة ، ولهذا فإن كل واحدٍ من أطفال (إسرائيل) اليوم تَحفُّهُ سبعون من ملائكة الربّ تحرسه وتحميه حيثما اتجهَ أو استقر . ولما علا تابوت الملك (طالوت) وارتفع إلى السماء وسط النار التي تحيطه ، نادى صوتٌ عظيم هَزَّ أركان الدنيا كلها وهو يقول :
” قومي يابنت صهيون واستنيري لأنه قد جاء نورك ، ومجد الربّ قد أشرق عليكِ وحدكِ لتنيري ، لأنه هاهي الظُلمة تغطي الأمم من غيرك ، والظلام يلبسهم جميعاً . أما أنتِ فيشرقُ عليكِ الربّ من نور (يهوذا) ونوره عليكِ يُرى فتسير الأمم وراءكِ والملوك تسجدُ لضياءِ إشراقك ” .
وإن الربّ يحكمُ أعمدة الكون الأربعة بحروف اسمه المقدّس :
– (ي) يحكم الماءَ بالجِنّ .
– (ه) يحكم النارَ بالشياطين .
– (و) يحكم الهواءَ بالملائكة .
– (ه) يحكم الترابَ بالإنس .
ومن تلازم الماء والتراب أخرج الربّ الطين الذي جعل منه آدم القديم(آدم قدمون) ، ويعتبر (الحكماء) الحاخامات القبّاليون أن الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد وظواهر الطبيعة والأحداث التاريخية ، ماهي إلا رموز ودلائل التبدلات الديناميكية التي تحدث في داخل الربّ أثناء حلوله في (شعبه المختار) فيتيح لليهود مشاركته في حياته الإلهية وفي سلطته على الكون .
لقد جاء كبير انبياء بني إسرائيل موسوى بديانته التوحيدية في وسطٍ شركي (ربوبية فرعون) وفي بيئةٍ وثنية خالصة (عبادة آمون) ، ووضعت هوّةً واسعة بين رسالتها التوحيدية وبين الواقع الوثني الذي كان سائداً ، ورفضت الفكر الأسطوري الرائج عن تعدد الآلهة كما رفضت قصص الخلق والأساطير التي كانت مستفيضة ومهيمنة على الفكر الإنساني عبر الديانات (الفرعونية والكنعانية والبابلية) . وبعد مرور قرون من محاربة الوثنية بفكر (الموسوية) كأول ديانة توحيدية جاءت نبوءات (التلمود) لتميّز التفوق اليهودي والشعب اليهودي بانتسابه للربّ(يهوه) ، وكانت الفرصة لانتشار القناعة الإيمانية بالفكر القبّالي في مؤسسة الحاخامية لتطوير الديانة اليهودية الكلاسيكية والتلمودية المعيارية وتوجيهها نحو فكرة (القومية اليهودية) .
ويقول (جيرشوم شولم) في كتاب (سِفر التاريخ اليهودي) الصادر عن دار الأوائل لعبد الحميد عرابي :
” إن الفترة الواقعة بين عامي (1630 و 1740) هي الفترة التي احكمت فيها القبّالة سيطرتها على الفكر الديني اليهودي وصارت القبّالة من أساس الكهنوت اليهودي ولم يعد بمقدور أي يهودي التملص منها لأن الرؤية في الحلولية القبّالية شكّلت لدى اليهود وحدة وجودٍ روحي حمل استعداداً للتحوّل اليهودي إلى وحدةِ وجودٍ مادي وملموس عبر انتشار نزعات القومية والعلمنة التي أشاعت فكرة شحوب الربّ التلمودي (يَهْوَه) وحلول (الصهيونية) في بنيته الإلهية والتي تحوّلت لدى اليهود إلى خلاصٍ أخير يأخذ شكل الرجوع إلى (جبل صهيون) دون انتظار ظُهورِ (المسيّا) بل بترابط الثالوث المقدّس
( الربّ والشعب والأرض )
فأخذ بُعدَه القومي للديانة اليهودية والفكر القبّالي في الإطار الصهيوني الحديث ” .
وتقول القبّالة أنها تسعى إلى حلِّ مشكلة الشرّ انطلاقاً من التقابل المجازي (العالم السفلي والعالم العلوي) المرتبطين وبتأثّر أحدهما في الآخر ، وأن (الخير والسلام) هما من إشعاع الرحمة (حسيدسفيروت) المنبثق من ظهور الربّ (يَهْوَه) ، كما أن (الحرب والجوع) هما من إشعاع القوّة والجبروت(جبوراه سفيروت) . وعندما أكل (آدم قدمون) من الشجرة المُحرَّمة انفصل عن الربّ الذي كان حُلولُه الدائم فيه ، فكانت خطيئته الأُولى التي أدّت إلى ذلك الإنفصال وإلى نفي السكينة (شاخيناه) عن شعبه والتسبب بعذابات اليهود . وإن القبّالة التي حلَّت الصهيونية فيها اليوم تسعى إلى إصلاح ما قد أفسده (آدم قدمون) بخطيئته التي كان لها تأثيرها حتى في مصير الربّ نفسه ، وأن عودة السكينة (شاخيناه) إلى نفسِ الرَبّ ورأبِ الصدع الذي وقع بينه وبين (آدم قدمون) لاتكون إلا من خلال (القبّالة) ، وإن مهمة حاخاماتها الأتقياء هي استعادة التناسق المفقود في حياة الربّ الداخلية وإرجاع السكينة(شاخيناه) إليها .
________________________
من كتابي ..
(القَبّالة و طوائف اليهود)