لحظة تأمل
بقلم ماهر اللطيف
غالبا ما ننتقد الطرف المقابل،ونهاجمه أيما هجوم ،ونشن عليه حربا شعواء لا بداية ولا نهاية لها، ونحاول كسب دعم بقية الناس المتعاملين مع الطرفين وخاصة منهم من يكيدون كيدا دفينا وعظيما للآخر، وينتظرون هزيمته ووقوعه في شر أعماله وأقواله – وفق ما يرون، ويؤمنون إيمانا بالغا لا شك فيه ولا اختلاف مهما حاولت دحض هذه الرؤى وإبطالها لمجانبتها للحقيقة-، وغيرها من التصرفات الكثيرة والمتنوعة فعليا لمجرد أن يرد الفعل عن عمل عملناه أو قول قلناه نحن من قبل، فلم يعجبنا الرد، ولم نتقبله ونستسغه لأي سبب من الأسباب التي تصل بنا أحيانا إلى التفاهة والبلادة والركاكة، وحتى غياب الموضوعية والمعقولية، وما إليه…
فنحشد المناصرين ونحفزهم -باطلا وبهتانا في بعض الأحيان – ضد “العدو” ونشجعهم على دعمنا وإعانتنا عليه لنقتص منه، وننال من كبريائه، ونهزمه شر هزيمة، ونعيد بالتالي “اعتبارنا وقيمتنا وشرفنا المهدور” من طرف هذا الماكر الشرير الذي حاول”كسر شوكتنا” والنيل من “غرورنا” و “نرجسيتنا” في بعض الأحيان …
ونقوم بمجهودات جبارة من أجل ذلك، ولا نبخل بقطرة عرق أو خطوة نخطوها من أجل بلوغ هذا “الهدف المنشود” ونحن نبكي ونشكو، ونزمجر ونهدد، ونتوعد، ونسب، ونشتم، ونؤدي دور الضحية بكل حرفية واقتدار وغيرها، ونستعرض عضلاتنا لنحقق النصر الموعود – وإن كان باطلا وغير مستحق – والإطاحة ب”العدو” الذي حشدنا له هذا الحشد، وجهزنا له هذا المدد والعتاد والعباد كما نقول…
لكن ، هل فكرنا مرة واحدة بموضوعية، واستنجدنا بضمائرنا “الحية”، – إن كانت كذلك حينها – وعقلائنا، و “كبارنا” و”شيوخنا” وغيرهم من “السادة ” و “المراجع”؟ هل نقدنا “الحادثة”بكل تجرد وموضوعية، وبحثنا فيها من كل الجوانب؟ هل فككناها ونظرنا في زمانها ومكانها والظروف المحيطة بها وأسباب قيامها وردة فعلنا وتأثيرها على المتقبل نفسيا واجتماعيا وجسديا وخلقيا وأخلاقيا وغيرها؟ هل حددنا المسؤوليات، وقسمناها في هذا المشهد، ونظرنا في مواطن القوة والضعف فيه ومصدرها وغيره؟ هل درسنا مواقف ورؤى الأطراف المتداخلة ومدى تأثيرها على الحدث ومآله…؟
هل أعدنا تركيب المشهد بعد بلورة مكوناته ووضوحها وضوحا شافيا وكافيا يمكننا من حسن التفكير والتدبير وتخطيط الخطى المقبلة بناء على ذلك، ووضع كل طرف في مكانه وزمانه وفق دوره وعمله وتقاطعه مع البقية؟
هل استفدنا من هذا العمل، واستخلصنا الدروس والعبر، وعلمنا ما لنا وما علينا فيه؟ هل أدركنا من كان معنا ومن كان علينا -في الحق خاصة -، ومن نقدنا ومن شجعنا على الباطل، وتضامن مع الشيطان ضدنا حتى نخرج عن الصواب والحق وغيرهما؟…
هل، وهل،وهل وأسئلة كثيرة في هذا المجال التي تؤكد وهن البشر ونقصانه وغروره وأنانيته التي تبلغ النرجسية وسنوها وتقربه من “الحيوانية” وتبعده عن الإنسانية في لحظة غضب وشعور “بالمهانة والظلم والضيم والقهر والاحتقار وشماتة الأعداء” ونحوها كثير…، فيتسرع، ويهيج هيجانا كبيرا يصعب رده والتعامل معه في أغلب الأحيان، خاصة حين يحضر”حمالة الحطب” ومهرة الفتنة والغيبة والنميمة ورفاق الشيطان وأنصاره…
فلو استغفرنا الله، وذكرناه كثيرا إثر ردة فعل الطرف المقابل،والتزمنا الصمت -ظرفيا بطبيعة الحال -، وتوضأنا وصلينا ودعونا الواحد الأحد حتى يرشدنا إلى سواء السبيل،ثم نقدنا ما تقدم بروية وحكمة وفطنة بعد أن استرجعنا وعينا وتوازننا وادراكنا وعقلنا، وكل ما من شأنه أن يلهمنا الصواب والرشاد -وفق ما بيناه في الإشكاليات المطروحة سلفا -، ونظرنا إلى الحدث بقلوبنا وعقولنا، وكان شعارنا العدل ومخافة الله، وتسلحنا بالصبر والسلوان والخلق والأخلاق والرصانة والحكمة وغيرها، لكان قرارنا صائبا وصحيحا لا يمكن لأي كان التشكيك فيه أو إبطاله لأي سبب من الأسباب – إن كان عاقلاً أيضا ومتسلحا بنفس الأسلحة والأدوات المذكورة آنفاً – …
لكن هذه الخطوات، في الحقيقة،ليست متاحة للجميع، ولا يقدر عليها كل الناس مهما بلغوا من العلم والمعرفة والإدراك والحنكة والتجربة وغيرها ،لأنها مرتبطة في الأصل بالتربية والأخلاق والوازع الديني والتشبع بقواعد التدين وأسسه ومضامينه، والوعي والادراك وثقب الرؤى والمقدرة على الاستشراف والتخطيط المحكم للغد والعقلانية والتجرد من الأنانية وفروعها وعدم الجنوح إلى الحيوانية بدل الإنسانية -خاصة في إشباع الغرائز – مثل الأغلبية، وما إليه…
فلماذا طرحت هذا الموضوع إذن، وقد حسمت فيه، وحصرته في فئة قليلة -إن لم أقل نادرة- واستبعدته عن عامة الناس وكدت أجعله غير بشري بما سلف ذكره وبيانه؟ لماذا سردت هذه المعطيات والمعلومات التي لا تفيد القارئ، ولا ترجع عليه بالنفع بهذه الطريقة “الانتقائية”؟
ففي الحقيقة،وانطلاقا من أن “كل شيء نسبي” بما أن “الكمال لله”، فإني طرحت الموضوع كما أراه شخصيا -وهي رؤية تلزمني دون غيري بطبيعة الحال مهما كان المخالفون والمنتقدون الذين احترامهم جميعا -، وعرضته كما أتصوره، وأرجوه ،ودونته وفق رؤاي ومراجعي وتفكيري وإيماني وغيرها، وحرصت على بلورته وتقريبه من القارئ ليحاول – مثلي – أن يخطو بعض الخطوات الممكنة في البداية، قبل أن يدعمها، ويطورها لاحقا -في حادثة لاحقة -، ويحقق ما يمكن تحقيقه، ولو عبر مراحل ودرجات متفاوتة ما دام على الأرض، وكانت فرص التدارك والإصلاح قائمة الذات…
نعم، هي دعوة إلى التغيير والتطوير، التعامل مع الذات ومداعبة ضمائرنا وجعلها حية على الدوام، التقرب من الله ومخافته ومحاولة التحكم في أعصابنا وألسنتنا وأجسادنا قبل استعمالها ناهيك، وأن الندم لن ينفعنا لاحقا، ولن يجبر خواطرنا وخواطر من غلطنا في حقهم في لحظة غضب وطاعة الملعون الرجيم.
وهي محاولة لإعادة ترتيب بيوتنا من الداخل -أجسادنا بكامل مكوناتها – وتحفيزها على التقدم والتطور والقضاء تدريجيا على “الأعشاب الطفيلية” و”الأوساخ” و “الأدران” المتناثرة فيه يمنة ويسرة واقتلاع الزوائد وسد الشغورات وردم بؤر الشر والغيظ والحقد والكراهية وغيرها،عسانا ندرك المنشود، وننال رضا الله وقبوله القبول الحسن لاحقا…
وهي في النهاية رسالة لمن ينتهج هذه الأساليب ،ويهرع إليها دون تفكير أو تمحيص أو ترو، ويسعى إلى مرضاة الشيطان وأتباعه بدل الله الذي سيقف أمامه يوم الحشر العظيم،حتى يكف عن هذه التصرفات، ويحكم عقله قبل قلبه، وخلقه وأخلاقه قبل شهواته ورغباته…،ويرجع إلى الجادة قبل فوات الأوان،ويصلح ما يمكن إصلاحه، ويعدل ما يمكن تعديله في نفسه،ويقر بأن الشر والخير باقيان بقاء الإنسان، وهما المسيطران عليه ما دام حيا، لذلك عليه اليقظة والفطنة والخوف، والسعي إلى الجري وراء الخير مهما سقط، وتعثر وشرب من مستنقعات الشر، واحترق بكتله النارية، وأكل من سمومه الكثيرة، وآمن أن لا شيء فوق هذه الأرض يستحق هذا العناء والعداء وغيرهما ما دامت الحياة هنا ظرفية،فلماذا لا نعمل من أجل تحقيق أفضل الظروف وتأمين حياة أبدية هنية ملؤها الخير الدائم ورضا الله وملائكته وكل مخلوقاته؟