قراءة نقدية مزدوجة:
“القصيدة والحب بين زمن الحرب وزمن السلم”
فقرة جمع بصيغة المفرد(مبدع/ مشاكس/ ناقدة)
المبدع حمد حاجي(تونس)
القصيدة:” قدر يسيل عند اثقابه المرق”
المشاكس عمر دغرير(تونس)
القصيدة:” من يحرق قلب امرأة بنارها يُحرق”
الناقدة جليلة المازني (تونس)
أ- المشترك بين الابداع والمشاكسة:
– التناص المعجمي
– محور الحب.
ب- المختلف بين الابداع والمشاكسة:
1- المبدع حمد حاجي والحب زمن الحرب:
رسم المبدع من خلال العنوان(قدر يسيل من أثقابه المرق) صورة شعرية يمكن نحتها على لوحة تشكيلية مشحونة برمزية طريفة.
فهذا القدر الذي يسيل من أثقابه المرق هو قدر في حالة غليان:
– الى ما يرمز هذا الغليان؟
– هل هو غليان المشاعر؟ وأي مشاعر؟
– أيّ أثقاب يسيل منها المرق الذي يغلي ؟
– أي رمزية للمرق الذي يغلي؟
كلها تساؤلات قد نجد لها جوابا بمتن القصيدة.
استهل المبدع حمد حاجي قصيدته بحدث مهاتفة حبيبته له ساعة الحرب تسأل ان كان لهما موعد ولقاء. يقول المبدع:
تهاتفني ساعة الحرب..هل لنا موعد؟
موعد..نتسكع فيه طويلا..
وتأخذنا للهوى طرق؟
ان المبدع بهذه المهاتفة قد وشى لنا بأمرين:
– إنه جمع بين الحب والحرب لعل الحب يخفّف من وطأة الحرب وقد يتغلب عليها باعتبار الحب حياة والحرب دمار وموت.
– إنه جعل الحبيبة مبادرة بالمهاتفة من أجل لقاء معه إيمانا منه بحق الحبيبة في الحب وهو في ذلك لا يخفي عنّا نرْجسيته المعهودة في تلهّف الحبيبة ولهفتها عليه.
في هذا الاطار الزماني من الحرب والقصف سارع اليها وكأنّ تأجّج الحرب قد أجج مشاعره وحرّك فيه الشهوة للقاء.
فيقول: فحرب وقصف شديد ورمضاء..
ما أضعف السيف في غمده
وجريْت وكان لي السبق..
والمبدع يُسرّ الحسرة على ضعفه ازاء حبّ زمن الحرب(ما أضعف السيف في غمده) حيث كان سباقا للموعد وكأني به يُعيد للحبيبة كبرياءها حين بادرته بالمكالمة .
وها هو يحدّد مكان الموعد مقهى المدينة هذا المكان الذي طالما يلجأ اليه في لقاءاته وهو يصف هيامه بها وعطشه وشوقه اليها والعرق المتصبب عليه .
وباستخدام أسلوب انزياحي دلالي قائم على التشبيه ليرسم لنا صورة شعرية تجسّد
حالته وهو عطشان اليها ويتصبب عرقا ولم يستطع تجفيفه من الشوق الذي أجّج مشاعره التي تغلي غليان القدر فيفيض من كل أثقابه المرق.
لقد شبّه جسمه بالقدر الذي يغلي فيفيض منه المرق ووجه الشبه في العرق (المرق)المتصبب عليه وهو يسرع للقائها دون أن يستطيع تجفيفه وهو في ذلك يصوّر لنا تأجج مشاعره ولهفته للقائها.
انها صورة شعرية تجسّد ما هو عليه بامتياز وهو بذلك يشرّع لعنوان قصيدته .
فيقول: الى ان وصلت لمقهى المدينة
هيمان عطشان..
بللني الشوق والعرق..
أنشف شوقي بكفي وكمّ قميصي..
أنزّ.. أنزّ ..أنزّ..
كقدر يسيل بأثقابه المرقُ..
وجاءت الحبيبة وبدأ خطاب المجاز ليتغزل بها وكأني به يهيّج بهذا الغزل مشاعره ويؤججها مستمتعا بقدومها الذي انتشله من الحرب الى الحب فيقول:
وجاءت..وألمحها في هبوب النسيم
تبين وتظهر
برقوقة لف ثمرتها النوء والورق..
فنور يظلل قامتها
وآخر أسفلها..
كيف تقطف ثمرة من كان في خده شفق؟؟؟
إن قدومها بعث في نفسه الهدوء والانتعاش فحوّل غليان القدر الى هبوب نسيم ينعش جسمه المتصبب عرقا.
بيد أنه أرادها ان تبادله اضطرابه ولهفته للقائه ليستمتع بقدومها وهي المتلهفة اليه فيقول: تجيء..
وفي حيث تمسك جلبابها عند أقفاله
يغلق الشال من طرف ثم ينزلق…
مبعثرة
لكأن على باب أعطافها حاجب وجنود..
اذا اجتمعوا حولها افترقوا..
ثم يأتي دورها لتدلّل حبيبها وتجثو بحجره ( الصورة المصاحبة للقصيدة)وتداعب ذقنه ولكن خجلها يمنعها من البوح والشوق .وكأني به يجمع بين حبها جسدا وروحا فيقول:
وتجثو بحجري تخلل شيبة ذقني
وتصمت
حين يساورها البوح والشوق والقلق..
اذا انا أغمضت عيني ..
تزيّن بؤبؤ روحي بصورتها
وارتوى عند الوانها الحدق..
ان هذا الانتشاء المتبادل جعل الحبيبة تبحث عن أي انتشاء آخر معه حتى بسيجارته التي لم تكن مستهلكة لها من قبل. يقول:
وتفتكّ سيجارتي من فمي..
لتمك على قدر نفسين..
ويأخذها الكح والعطس والشرق
وهنا يداويها بشربة حبّ ليزيل عنها ما انتابها من كحّ وعطس وشرق وكل منهما بنار الحب يحترق.
انه الحب الذي يبيح كل شيء تماما كما الحرب كما يقول جورج برنارد شو.
والحب والحرب هما قدر الانسان ولئن كان” الحب ذلك الوئام والسلام بين مخلوقين وأول الحب كان بين آدم وحواء التي انطلقت من ضلعه ثم تلته بذرة الكراهية والحرب بين هابيل وقابيل لتتأسس في ملكوت الله تيمة الحب والحرب في صراع دائم يتغلب فيهما صاحب الفضيلة”(1).
ان المبدع في قصيدته يتناص مع الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد الذي يعتبره النقاد شاعر الحب والحرب بامتياز حين يقول متغزلا بعبلة التي حُرمَ منها:
ولقد ذكرتك والسيوف نواهل منّي// وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لانها// لمعت كبارق ثغرك المتبسّم
في هذا الاطار الذي يلحّ على المبدع الحب وقت الحرب ماذا يقول المشاكس؟؟؟
=== يتبع ===
=== يتبع ===
2- المشاكس عمر دغرير والحب زمن السلم:
اختار المشاكس عنوان مشاكسته جملة شرطية(من يحرق قلب امرأة بنارها يحرق). وأسلوب الشرط يدل على تلازم جملتين وارتباطهما بواسطة اسم الشرط(من) الدال على العاقل.
انها معادلة بين جملة الشرط وجملة جواب الشرط يمكن اختزالها في:
“من يَحْرق يُحْرَق”
– من هذه المرأة التي أحرق قلبها المبدع ؟
– كيف بنارها سيُحرق؟
في نبرة ساخرة جعل المشاكس المقطع الاول في شكل حقيقة صادمة للمبدع والمشاكس يدعم في ذلك العنوان فيقول:
أخيرا عرفت أن كل من
يُشعل النار في قلب امرأة
بنفس النار قسما يُحرق…
وباستخدام أسلوب انزياحي دلالي قائم على التشبيه شبّه المشاكس المبدع بشمعة
في الظلام تنير من حولها وهي تحترق.
ووجه الشبه في ان المبدع لن يجني شيئا ممن أنار لها الظلام مقابل احتراقه
فيقول: أتنكرانك بعدما تركتك سعدى
صرت كشمعة في الظلام
تنير من حولها وهي تحترق..
ان المشاكس يلعب على الشخصية ليستبدل حبيبة المبدع زمن الحرب بحبيبته الاولى زمن السلم سعدى.
وكأني بالمشاكس في نفس الوقت يلعب على الزمان فيستبدل زمن الحرب بزمن السلم باستخدام أسلوب انزياحي تركيبي قائم على الاستفهام لعله يريد اغراء المبدع بالأمن و الطمأنينة فيقول:
وكم رجوتها أن تعود اليك
وأن تطوي صفحة الماضي
فقد يختفي من وجهك الحزن والأرق..
ويواصل في اللعب على الشخصية سعدى باستخدام مقابلة بينهما بين صدقها وغدره فيقول:
كأنك لا تعرف صدق سعدى
وتنسى بسرعة انها كم حذرتك من الغدر
وفي الغدر كان لك السبق..
ولئن كان للمبدع السبق في الوصول الى موعد حبيبته زمن الحرب فان المشاكس قد سلبه هذه المتعة متعة الوفاء لموعد الحبيبة ليجعل له السبق في الغدر فحوّله في لهجة ساخرة من النقيض الى النقيض ومن الوفاء الى الغدر.
والمشاكس يذكره بأسلوب مُتهكّم بخيْبته مع أهلها حين رفضوه بضرب مثل “خفّي حنين” ليؤلمه من ناحية وليضيف الى جرح الرفض جرحا آخر اسمه الندم على ما اقترف في حق سعدى .فيقول:
أتذكر يوم تقدمت لخطبتها
كانت سعيدة بقدومك
ولكن جميع أهلها ما وافقوا..
وعدت بخفي حنين
حزينا تجرّ خطاك الى حيث لا تدري
وقد ضاقت بك الطرق
كانك لا تعلم لماذا رفضك الأهل
وقد لمحوك على شاطئ البحر
تراود سائحات وعليهن مالك تغدق..
وهل أكثر من أن يُشعره بالذنْب في حق سعدى حين أعلمه أن سعدى لا تعلم بغدره ولا بتعاطيه للممنوعات فيقول:
ومن حانة الى أخرى كنت
تقضي أكثر الليل مثمولا
وفي الممنوعات كنت دائما تغرق
سعاد أحبّتك بالفعل
قبل ان يخبرها الأهل
عن نزواتك لم يكشفها لها الحدق..
فلم تقرأ في عينيك
ما كنت تشربه في الحانات
ولا تعرف أن ما تشربه لك موبق..
بيد أن المشاكس يجعل المبدع فاعلا بابداعه ليحولّ غياب سعدى بحضورها في أشعاره والمشاكس في ذلك عن قصد أو دون قصد أثبت وفاءه لسعدى عند صحوه
ووعيه فيقول: وفي البيت حين تصحو قليلا
يجيئك الوحي فتكتب الشعر
مهموما يؤانسك الحبر والورق..
عديد القصائد كنت تكتبها لسعدى
ولا ترسلها
وتقرؤها مرات حين يصيبك الفقد والقلق…
وبالتالي فلأنه أحرق قلبها بغدره فانه احترق بنار غيابها وفقدها واكتفى بكتابة الشعر دون ارساله اليها.
وخلاصة القول فلئن جمع حمد حاجي بين الحب والحرب ايمانا منه باغتنام اللحظة الحاضرة وقناعة منه أن الحب والحرب لا يتعارضان فان المشاكس عمر دغرير قد حصر الحب زمن السلم ليسلّط الضوء على أيقونة الحب المعتق سعدى وفي هذا الاطار فان القصيدتين تجمع بين تجربتين:
– تجربة الشاعر محمد الماغوط الشعرية(2)
– تجربة أدونيس الشعرية(3)
ولئن جمع المبدع حمد حاجي بين “الماغوطية” بالتقاط اللحظة الحاضرة والتعبير عنها والأدونسية في تقديم رؤيته للحب بان جعل الحب والحرب يتشابهان.
فان المشاكس عمر دغير ظل أدُونيسي التجربة الشعرية فكل مشاكساته تطرح رؤيته المتعلقة بثنائية الوفاء والخيانة في الحب لسعدى.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة حبّا زمن الحرب أو حبّا زمن السلم تجربة شعرية ماغوطية أو تجربة شعرية أدونيسية.
بتاريخ 18 / 11/2024
المراجع:
https://www.alarabiya.net>..(1)
بين الحب والحرب
https://diwanalarab.com>..(2)
محمد الماغوط رائد قصيدة النثر ومبدعها الكبير
https://almachriq.com>01/07/2015(3)
أدونيس والتجديد في النظرية الشعرية-مجلة المشرق
قِدْرٌ يَسِيلُ عند أثقابِه المَرَقُ”(المبدع حمد حاجي)”
تهاتفُني ساعَةَ الحرب…. هل لنا موعدٌ..؟!!!
موعدٌ… نتسكع فيه طويلا …
وتأخذنا للهوى طُرُقُ؟
**********************************
فحربٌ وقصفٌ شديد ورمضاءُ…
ما أضعف السيف في غمده
وجريتُ وكان ليَ السَّبَقُ ..
********************************
إلى أن وصلت لمقهى المدينة
هيمانَ، عطشانَ..
بلّلَنِي الشوقُ والعَرَقُ…
******************************
أنشف شوقي بكفّي وَكُمَّ قميصي…
أَنِزُّ … أنز … أنز …
كَقِدرٍ يسيل بأثْقَابِهِ المَرَقُ…
****************************
وجاءت٫٫٫٫ وألمحُها في هبوب النسيم
تبينُ وتظهرُ ،
بَرْقُوقَةً لَفَّ ثمرَتَها النّوءُ والوَرَقُ…
************************************
فنور يُظللُ قامتها،
وآخَرُ أسفلها…
كيف تُقْطَفُ ثمرَةُ مَنْ كانَ في خَدِّهِ شَفَقُ؟؟؟؟
*************************************
تجيءُ …
وفي حَيثُ تُمْسِكُ جلبابَها عند أقفالِه،
يَعْلِقُ الشالُ من طَرَف ثم ينزلقُ…
************************************
مبعثرة،
لكأن على باب أعطافها حاجبٌ وجنودٌ…
إذا اجتمعوا حولها افترقوا…
*************************************
وتجثو بحجري تُخَلِّلُ شيبةَ ذقني
وتصمتُ
حين يُساورُها البوحُ والشوقُ والقلقُ.
***********************************
إذا أنا أغمضتُ عيني…
تزيّن بؤبؤ روحي بصُورتِها
وارتوى عند ألوانها الحدَقُ…
*********************************
وتَفتَكُّ سيجارتي من فمي….
لِتَمُكَ على قَدَرِ نَفَسَيْن…
ويأخذُها الكَحُ والعَطْسُ والشَرَقُ…
**********************************
وتعثر في خُيَلاء الصبابة خَجلَتُها…
فأمدُّ لهَا شربَةَ الحُبّ…
كلُّ إناء بما فيه يَحتَرِقُ…
( أ. حمد حاجي )
“””””””””””””””””””””””””””””””””
( المشاكس عمر دغرير)”منْ يحرقُ قلبَ امرأة بنارها يُحْرَقُ”
أخيرًا عرفتَ أنّ كلّ منْ
يُشعلُ النارَ في قلبِ امْرأةٍ,
بنفْسِ النارِ قسمًا يُحرقُ …
“”””””””””””””””””””””””””
أتنكرُ أنكَ بعْدما تركتكَ سُعدى ,
صِرْتَ كشمْعةٍ في الظلامِ,
تنيرُ مَنْ حَوْلها وهيَ تحْترقُ …
“”””””””””””””””””””””””
وكمْ رجَوتها أنْ تعودَ إليكَ ,
وأنْ تطْوي صَفْحة المَاضي ,
فقدْ يخْتفي منْ وجْهكَ الحُزنُ والأرقُ..
“””””””””””””””””””””””””””
كأنكَ لا تعْرفُ صدقَ سعْدى,
وتنْسى بسُرْعة أنّها, كمْ مرّة حذرتكَ منَ الغدْر,
وفي الغدْر كانَ لكَ السَبقُ …
“””””””””””””””””””””
أتذكرُ يوم تقدّمتَ لخُطبتِها ,
كانتْ سعيدة بقدومكَ,
ولكنْ جميعُ أهْلِها مَا وافقوا …
“”””””””””””””””””””””
وعُدتَ بخفّيْ حنينٍ,
حزينا تجرّ خطاكَ إلى حيث لا تدري,
وقدْ ضاقتْ بكَ الطرقُ …
“”””””””””””””””””””””””””””
كأنكَ لا تعلمُ لماذا رفضكَ الأهلُ,
وقدْ لمَحوكَ على شاطئ البحر,
تراودُ سائحاتٍ, وعليهنّ مالكَ تغْدقُ …
“””””””””””””””””””””””””””
ومنْ حانةٍ إلى أخْرى ,كنتَ
تقضي أكْثرَ الليلِ مَثْمولا,
وفي المَمْنوعاتٍ كنتَ دائمًا تغرقُ …
“””””””””””””””””””””””””
سعادُ أحبتكَ بالفعل ,
قبلَ أنْ يُخبرها الأهلُ
عنْ نزواتٍ لمْ يكشفها لها الحَدقُ …
“””””””””””””””””””””””””
فلمْ تقرأ في عينيكَ
ما كنتَ تشربه في الحاناتِ,
ولا تعرفُ أنّ ما تشربهُ لكَ مُوبقُ …
“”””””””””””””””””””””””””
وفي البيتِ حينَ تصْحُو قليلا ,
يَجيئكَ الوحْيُ, فتكتبُ الشعرَ
مهْمومًا , يؤانسكَ الحِبْرُ والورقُ …
“”””””””””””””””””””””””””
عديدُ القصائدِ كنتَ تكتبُها لسُعدى
ولا ترْسِلها ,
وتقرأها مرّاتٍ حينَ يصيبكَ الفقدُ والقلقُ …