هل كتب المسرح التاريخ ؟
Your Content Goes Here
نظَرٌ في ” وين رايحين” لحيدر منعثر
بقلم الناقد البشير الجلجلي- تونس
( ناقد جامعي تونسي (كلية الآداب ولفنون والإنسانيات بمنوبة)/ عضو الهيئة المديرة لنادي القصة)
bechirjeljli62@gmail.com
رغم الاختلاف في التاريخ الدقيق لبداية المسرح العراقي ولكن المتّفق عليه هو مرور ما نيّف القرن من الزمن أو يزيد (140سنة تقريبا) على صعود أوّل ممثل عراقي على خشبة المسرح كأغلب الدول العربية التي تأخر ظهور المسرح وبقية الفنون على ربوعها…ولكن ميزة المسرح العراقي منذ بداياته ارتبط بالطائفة المسيحية في عشرينات القرن العشرين .فقد ألف الأب “حنّا حبشي” ثلاث مسرحيات كوميديّة : كوميديا آدم وكوميديا طوبيا و كوميديا يوسف الحسن، ليتطور المسرح العراقي خاصّة مع فتح الله سحّار الذي قرن المسرح بالرسالة الاجتماعية…وقد ساهمت المدارس بعد انفصال العراق عن الدولة العثمانيّة في ترسيخ المسرح لدى الناشئة خاصة خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين ، حيث كانت تُقدّم من قبل المدارس ويتولى المعلمون إخراجها والتلاميذ بتمثيلها باللغات العربية والفرنسية والأنجليزية.
وبعد الاستقلال ارتبط النشاط المسرحي بتكوين الفرق المسرحية داخل أسوار الجامعة وخارجها فتُعرض المسرحيات بقاعات المدارس والكليات مثل الإعدادية المركزية و النفيض و الغربيّة ودار المعلمين العليا والكلية الطبية وأيضا قاعات السينما وكذلك الملاهي مثل ملهى الجواهري وملهى الفرابي. وأهمها قاعة الشعب التي تعرف قديما بقاعة الملك غازي . وفي الستينات والسبعينات تواصلت العروض بقاعة الحرية بالكاظمية وقاعة معهد الفنون الجميلة ببغداد .وفي الثمانينات أصبح للعراق قاعات حديثة حيث ربّت العراق أجيالا من المسرحيين بنوا المسرح العراقي في العقول قبل القاعات.
وبعد سقوط بغداد سنة 2003 تغيّرت وجهة المسرح العراقي بعدما تحطّمت أغلب قاعات العرض وعاد المسرح يبحث عن نفسه في الأسوار وبين الأفكار . فقد نشأ جيل جديد من المسرحيين كتابا ومخرجين وممثلين رأوا أنّ الالتزام هي لغة العراق الجديدة …فقد مرّ المسرح العراقي بعديد المراحل منها : المسرح الطقسي في الكنائس ثم المسرح التجريبي في ثمانينات القرن العشرين ثم مسرح الصورة أو الضوء وقد أسس المسرحي مقداد مسلم “منتدى المسرح ” سنة 1983 ليقدم الآن مسرحا مختلفا بعد تجربة عقدين من الزمن في تونس ومنها مسرحية “الخيط والعصفور” …ولكن مسرح ما بعد 2003 تغيّرت فيه الكتابة المسرحية خاصة مع الشبان مثل أعمال علي عبد النبي الزيدي …فتمايزت طرائق العرض بإدخال تقنيات جديدة تأثرا بالمسرح الأنجليزي اهتماما بالحركة الجسدية والسينوغرافيا و والإضاءة …فقد كانت مسرحيات مثل “ساعات الصفر”لحازم كمال الدين التي عرضت سنة 2003، تهتمّ بالجسد عنصرا رئيسا في العمل وأعمال مصطفى الركابي ” مسرحية تحوير”.فقد صاحبت الصورة العرض على طريقة روبرت ويلسن …مما جعل خشبة المسرح خشبات مختلفة كسرا لها على الطريقة البراشتية وغيرهما مثل المسرحي “حيدر منعثر”، الذي شارك في أيام قرطاج المسرحية في دورتها 25 ” بمسرحية “وين رايحين ” ولنا وقفة معها عرضا ونقدا.
إنّ عرض مسرحية “وين رايحين” بأيام قرطاج المسرحية الممتدة بتونس من 23 إلى 30 نوفمبر 2024 في دورتها الخامسة و العشرين، و هي مسرحية عن نص “الحافلة” لخالد جمعة ، سينوغرافيا وإخراج “حيدر منعثر” و إنتاج شركة الثقافة العراقية بالتعاون مع دائرة السينما و المسرح يمثل حدثا هامّا تعرفنا من خلالها على المسرح العراقي الجديد.
شارك في التمثيل ممثلون ساهموا في البناء الدرامي للمسرحية و هم : زهرة بدن و إياد الطائي و لؤي أحمد و لمياء بدن و طلال هادي و أمير إحسان و وسام بربن و أحمد نادم و سجاد شاكر. وتمحورت المسرحية حول البحث عن الوطن داخل النفوس قبل البحث عنه في الطرقات. ذلك أنّنا نجد في مفتتح المسرحية ثلاثة ركّاب في سيارة بلا وجهة يقودهم سائق مجنون يميل مع الزمان كما يميل ورابعهم راكب أبكم ،ليجمع بينهم قارع طبول تتلون نغماته حسب إيقاع الحياة .
في المشهد الأول نجد تماثيل أدمية تتابع البحث دون حراك .و هي ترمز إلى سواد الشعب الذي لا يهمه البحث عن الوطن بقدر ما يهمه السكون في المكان. ليبقى قلة من الناس يطرحون سؤال “وين رايحين؟” و هو سؤال الحقيقة و الحيرة.
يصطدم الرّكاب بسائق يغلبه النعاس و بسيارة خزان وقودها مثقوب ،فلم يبق لهم غير حكايات الماضي التي اشترط السائق أن تكون مشوّقة لنظفر بثلاث حكايات من تاريخ الوطن هي حكايات الوجع و الوهم و الضحك الغروتسكي و الألم التاريخي:
أمّا الحكاية الأولى فلأم تبحث عن ابنها الذي سقط دون أن تدري ، هاربة من جحيم الحرب فقضت حياتها تبحث عنه أملا في العثور عليه، فاتخذت من السيارة رحلة للبحث عنه علّها تجده في إحدى المحطات. و قد استعان المخرج بالصورة المصاحبة وبالأضواء الكاشفة و بالصوت القارع على طريقة روبرت ويلسون في تعويله على الصورة لبناء المشهد المسرحي.
أمّا الحكاية الثانية فهي لرجل في العشرينات من العمر حيث حصل على شهادة جامعية و شهادة طبية في الأن نفسه تؤكد إصابته بمرض السرطان بسبب إشعاعات الحرب فاعتزل الناس واصطحب تماثيل والديه و حبيبته ليتكلم معهم خوفا على عقله على طريقة بيجماليون و جالاتيا، و لكنّ الحيرة عند المشاهد في مصير هذه التماثيل التي اختفت و لم نر أثرا لتحطمها عند دخول داعش في المشاهد الأخيرة و كان بالإمكان أن يجعلوا هذا الشاب يحطم تماثيله تحطيم بيجماليون لجالاتيا.
أمّا الحكاية الثالثة فلفتاة هربت من مجزرة إبادة الجماعية التي لحقت بأهلها، فوجدت هذه السيارة ملاذا لها ، وفيها تستعرض حكاية طفولتها و معلّمها المرح الذي يكتب في السبورة “يحيا القائد” ، و بين محو الصبورة و الكتابة عليها يكون الشكل غائما على المعلم و التلميذ.
يتلاعب السائق /القائد بفصول الحكاية و مصير الأبطال فنجد في خطابه نوعا من السخرية السوداء و الكوميديا الناقدة خاصة في مشهد تأويل التحرش بالحاجة. فيلعب مع المسافرين و يلعب بهم .فقد أنكر معرفته بهم عند دخول داعش التي أرادت أن تعبث بمصير الرحلة لصالحها فباع أصدقاءه كما باعنا قادتنا إلى الأخر.
لم تكن المسرحية في شكلها و ديكورها البسيط على مسرح مدينة الثقافة بتونس غير محاولة جديّة وزع فيها المخرج الممثلون بطريقة جيّدة تناغما مع الصورة والعرض رغم الفوارق بين تأثير الصورة السينمائية وبين وصول الكلام عنها إلى المشاهد…فقد وجدنا أحيانا تحليلا من الممثلين لما ورد في الصورة …وهو ما يجعل العرض تُعاد بعض مشاهده .فيشعر المشاهد بالملل رغم اجتهاد الممثلين في تحويل المأساة إلى كوميديا جلبا للمتفرج،أو أن يجتهد بعض الممثلين في تبيئة المسرحية ذكرا لشارع بورقيبة بتونس ولأشهر أكلة ” اللّبلابي”…ورغم جعلنا ننتظر المفاجأة بتسليم المشاهدين ظرفا مغلقا أعلن مقدّم المسرحية أنّه لا يفتح إلاّ عند السّماح بذلك …فكان في النهاية …والحقّ أنّه مشهد محذوف من المسرحية ، فهمه أغلب المشاهدين قبل فتح الظرف حيث تربّى الداعشي في حجر الحاجة”” مين أين تعرف اسمي؟ أنا لا يعرف اسمي الصريح ولا يناديني بخالة فطم إلاّ من نام في حجري ولدا وكبر يافعا”. فلم يحدث المخرج مفاجأة…وربما المفاجأة في عدم المفاجأة. !!!علما أن هذا الانتظار للمفاجأة قد جعل المتلقي في حيرة وهي من الغايات الكبرى للمسرح …فأحسن فعلا المخرج بإدماج المتفرج في القراءة والعرض…فكسر الخسبة عبر الصورة الخلفية وعبر النصّ في الظرف بين أيادي المشاهدين.
رغم متعتنا والمخرج يقوم بتقنية ” التلخيص ” السّردي لـ 21 سنة بعد سقوط بغداد سؤالا حائرا ” وين رايحين”؟ .وكأنّ السؤال حول العراق وحول المسرح كذلك…فحلقات المشاهد منفصلة متصلة وعند لحظة الفراغ في بعض المشاهد يقوم المخرج بتقنية الكولاج لبناء كليّة المسرحية التي ظهرت بعض مشاهدها مسقطة أحيانا وخاصة مشهد داعش الذي لم يكن محكم البناء دخولا وخروجا من المسرحية …فبان أن المخرج يلخص مأساة العراق منذ 2003. رغم علمنا أن وظيفة المسرح ليست كتابة التاريخ بقدرما هي التفكير فيه وفلسفته ومعرفة أنساقه..ولنا وقفات أخرى مع المسرح العراقي…في زمن آخر…ربما ! ربما !!.