قراءة نقدية في نص التلويح الأخير لكرار السعد / العراق
بقلم سعيدة بركاتي/تونس
#القراءة :
في نص فلسفي وجودي يغير فيه كرار السعد وجه الولادة و نشأتها نطفة قبل شهور الحمل و موعدها عندما أصبحت عيون الزمان رمادية .
فحين توجد منطقة وسطى بين لونين أساسيين في حياة الانسان واللذان يرمزان إلى الموقف الواحد والرأي الواحد وهما اللون الأبيض و الأسود و هي اللون الرمادي فهذا يحيلنا إلى الحديث عن رمزية هذا اللون : لون الاكتئاب و الحزن و عدم الوضوح رغم قربه من اللون الأبيض .
تبدأ الولادة من رحم مظلم إلى الظلماء منذ اللحظات الأولى ” أصبح الشاعر مقاتلا ” بعد أن رُمي بمشيمته : المقطع الاول من النص لم يراعي الصرخة الأولى و لا الخروج إلى النور و لا احتفالا يليق بمولود جديد : مباشرة إلى منتصف الحرب : إلى هذه الحياة مقاتلا بلا عودة : الموت وحده ينتظره :قيد قماط في لون الكفن ، الرمي بالمشيمة التي كانت تحميه في الرحم و عزل الروح عن ثدي الرب .
فهذه الأفعال : قيد / رمى / عزل : تفيد الأسر و اللامبلاة ، بين القيد و العزلة هناك حركة الرمي وهذا كان بحركة سريعة عند الولادة .
أن يقرر أحدهم مصيرك منذ الولادة و ان لا يطعم من “ثدي الرب ” يحيلنا إلى التساءل كيف سيكون الزمن الذي سيرافق الحياة؟ في “منتصف الحرب”. لعلي بالشاعر عاش نصف زمنه لحظة الولادة وهو يحارب في ” حرب متنوعة ” أولها الظلمة التي رُمي بها “قسرا” … رحلة البحث عن النور أولا ثم يتعرف على حجم الهزيمة و “يخدش خد الحكاية “.
فما هي هذه الهزيمة التي عاشها الشاعر منذ الولادة ؟و هل سيستطيع خدش خد الحكاية ؟
بين فعل أصبح الذي ابتدأ به الشاعر نصه و الذي وصف لنا فيه لحظة الولادة و فعل كان “كنت ” الذي عاد بنا إلى فترة الحمل حين كان ببطن أمه ، كان كل عالمه “رحم عتمته نور ” ، آمنا مطمئنا “حالما على وسادة الكون ” “أركل بقدمي جدار العالم .
الكون: بمفهومه الشاسع و مجراته و نجومه الضخمة ، و العالم بمفهومه لكوكب الأرض و هو المكان الذي يعيش فيه الانسان . فالشاعر داخل مشيمته يمتلك الكون و ما فيه و الأرض و ما عليها رغم صغره : جمع بين الإنتساب : أم و أب و وطن . دون أن ينسى العناصر الأساسية للحياة :” أمنيات بحجم البحر و اللون الأزرق و الأخضر و حرير أشعة الشمس .
أمنيات تقربنا من الشاعر و كأني به يقول “ليتني بقيت هناك ” .
يقول كرار : “حتى تسرب الضوء إلى عيني” ، تسرب بمعنى خفية ، فهو لم ينشد رؤية النور ، استفاقة من الحلم على الضوء و عادة نفرح عندما نرى النور خاصة إن كنا في العتمة ،الاستفاقة كانت بغتة فحرف الجر ” حتى ” بمعنى إلى أن، يفسر الإنتهاء إلى الغاية ، لكن هذه الغاية أو النتيجة لم تكن رجاء الشاعر ، فرغم عتمة الرحم كان يحلم و يرى و يركل كان محمي في مملكة أمه و أب يتلصص على الحلم مبتسما ، الشاعر باغته النور و لم يحبه فقد “تسرب إلى عينيه”، فهل هو تشاؤم من القادم أم نبوة بالمستقبل ؟
من العادات الحميدة في ديننا الاسلامي ،يؤذن في أذن الرضيع حتى ينشأ على فطرة الاسلام و أحكامه ، كرار السعد باغته نور الواقع فبدأ هذا الصوت ينفذ في أذنه ” تلوثت مياه أفكاره” ، مع كل خطوة في حياته و تقدمه في ” السن ” يكتشف عالما جديدا ، مقطع “تسرب الضوء إلى عينيه ” هي الخطوات الأولى معها بعض الأمنيات ” قضم فيها فاكهة الدنيا ” بعفنها كالأسماء التي طفت على مياه أفكاره ، و الشيء إذا طفى على سطح الماء فقد فارقته الحياة و “تعفن”.
في رؤيته إلى هذه الارض بعين المتأمل ، أدرك حين لامسها بقدميه ، لم يجد لا طين و لا تراب ، وجدها أرضا متحركة غير ثابتة ، قاحلة لاتنبت إلا شوكا “أرض من رمل “،و بالرجوع أعلاه و قبل أن يباغته النور كانت عيناه تمتلىء بصبغة الأمنيات : بحر أزرق،أشجار خضراء ،شمس صفراء :فالدفء يغمر الأمل و المشهد ، فانكسر في قلبه غصن النقاء ، وهذه الأرض أصبحت قبرا وهذه الصورة فعلا هي آخر محطات الحياة ، لكن أن تكون قبرا في أول خطوة يجعلنا و الاستدراك أن نسأل : كيف سيكون الزمن و هذه الحياة ؟
أول النص طفى الشاعر بمنتصف الحرب ثم وصلت الرمال إلى منتصف جسده : هذه هي عيون الزمان الرمادية خليط بين لونين أبيض و أسود ، ضبابية الرؤية ، فلا شيء كامل عند الشاعر كلها أنصاف أشياء : ” نصف أصدقاء غارقون و يلوح للنصف الثاني” .
سؤال عن الغارقين : هل من أكلتهم الأمواج حين غادروا على مراكب الموت و أكلهم حوت كبير عند هجرتهم الغير نظامية ؟ ففعل يطفو أعلاه يقترن و الجثث العفنة … و لوح للباقي عند الرحيل .
الشاعر يعيش فعلا غربة وجودية ، في رحلة بحث عن أنصاف أشياء ضاعت منه منذ الولادة : ” ربما ” يبحث عن هوية ضائعة ، فالأرض من رمل ، ثم “يتسرسب ” كل شيء منه مثل الرمل من بين الأصابع ، الشاعر غير ثابت يبحث فيه و في ذاته منذ الولادة ،لعله يكتمل عند وصوله للنصف الضائع منه ؟ فكل أمنياته توقفت حين كان يركل العالم …
أسئلة عديدة تفتحها قفلة النص ” و لا أحد يراني ” .
كرار السعد جعلنا نقرأ النص دون عنوان لنجده أسفله على شكل هاشتاغ #تلويح_أخير ، و الغاية منه ربط ما ورد بالنص بهذا ” العنوان” ، و التلويح الأخير هو الوداع الأخير للأشياء التي لن تعود أبدا ، و أصبحت بعيدة جدا .
يتضح جليا مما تقدم أن النص فعلا فلسفي وجودي اتخذ من الإنسان من خلال التفكير و الفعل و الوجود كفرد حي موضوعا ، فالفلسفة الوجودية تؤكد أولوية الوجود المعاش حيث تُمكن الإنسان من امتلاك معنى خاصا به : الإنسان الشاعر ، الأم ، الأب ، الأصدقاء…
النص مر بمراحل الولادة من حمل و ولادة و خطوة أولى و بروز الأسنان اللبنية التي قضم بها فاكهة الدنيا و لكن كان دخوله قسري في معترك الحياة ” ضوء تسرب … ” “أغنية السعادة بعيدة ” عنه ، و نغمة الحياة تميل إلى البكاء و احترقت فيه جغرافية الانسان ، لينزل في أول خطوته إلى رمال القبر .