في مثل هذا اليوم 24 ديسمبر 1638م..
سقوط بغداد مرة أخرى بأيدي العثمانيين بقيادة السلطان مراد الرابع بعد حصارها لمدة 39 يومًا.
بغداد المدينة التي أُطلق عليها “مدينة السلام”، كانت عرضة على مدى تاريخها الطويل للغزوات والحروب والهجمات الدامية، وتوالى سقوطها بأيدي الطامعين مرة تلو الأخرى، وكابدت وأهلها ويلات التدمير والتقتيل والتنكيل والتجويع. وهناك ما يزيد على 20 واقعة سقطت فيها بغداد بيد حكم أجنبي منذ إعادة تشييدها عام 762 للميلاد، في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور.
وكانت الوقائع التالية هي الأبرز والأعمق تأثيرا في تاريخ المدينة العريق:
هيمنة البويهيين عام 945
بدأ الضعف يدب في جسد الدولة العباسية منذ النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي، وظهرت هيمنة الأتراك والقادة العسكريين على الخلفاء، وسيطروا على إدارة شؤون الدولة، وأصبح الخليفة رمزا روحيا مجردا من السلطة، ومعرضا للاغتيال والسجن والتعذيب.
وبحلول القرن العاشر تردت الأحوال، فاستنجد الخليفة المستكفي في بغداد بالبويهيين، وكانت الدولة البويهية الشيعية تحكم بلاد فارس، وسرعان ما استجاب “أحمد بن بويه”، فدخل بغداد عام 945، فاحتفى به الخليفة وأكرمه ولقبه “معز الدولة” وأمر أن يُخطب له على المنابر.
ولكن معز الدولة ما لبث أن حجر على الخليفة، ولم يطل المقام به حتى خلعه وسجنه، وعين بدلا منه “المطيع لله”، وهكذا سقطت بغداد في براثن البويهيين.
وعلى إثر ذلك، دخل ناصر الدولة بن حمدان، حاكم الموصل، بجيشه إلى بغداد، وانقسمت المدينة بينهما شطرين، ودارت معارك عنيفة استمرت أياما، نهب البويهيون خلالها المدينة، وفي آخر المطاف استطاعوا دحر ناصر الدولة، ولم تكد تمر سنة حتى اشتد الغلاء ببغداد، ولحقت بالناس المجاعة والأمراض.
وفي ظل الدولة البويهية التي سيطرت على بغداد نحو قرن ونيف، انتشر المذهب الشيعي، وجرى فيها مأتم لطم رسمي في يوم عاشوراء بأمر من المعز، وتحت حكم البويهيين زاد وضع الخلفاء سوءا، وعانت البلاد من ظروف سياسية واقتصادية متردية.
الخضوع للسلاجقة عام 1055
ضاق العباسيون ذرعا بالبويهين، فاستغاثوا بالسلاجقة الأتراك، القوة الإسلامية الصاعدة في المنطقة، وما كان من “طغرل بك” إلا أن دخل بجيشه بغداد، وقضى على الدولة البويهية عام 1055م، وحدثت يومذاك فتنة عظيمة احترقت فيها الأسواق وكثر النهب والقتل.
ومع ظهور سلاطين السلاجقة الأقوياء مثل ألب أرسلان وملك شاه وبركياروق وغيرهم، وجدت بغداد نفسها خاضعة بشكل كامل للحكم السلجوقي، الذي لم يستطع الخلفاء الانفكاك منه وعانى سكان المدينة بسبب الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من انتشار الأوبئة والمجاعات.
الاجتياح المغولي ونهاية الخلافة العباسية
وصلت جحافل المغول التي اجتاحت إيران إلى الحدود العراقية، وحينها أرسل هولاكو قائد جيش المغول رسالة إلى الخليفة العباسي “المستعصم بالله” يطلب منه الخضوع لحكم المغول وتسليم بغداد، وفي بداية الأمر لم يرغب المستعصم أن يذعن للتهديد المغولي، فرد بالرفض، فكان جواب هولاكو أن ضرب حصارا شديدا على بغداد لنحو أسبوعين، سقطت المدينة في أعقابهما عام 1258م.
بدأت جيوش هولاكو التي قُدرت بـ200 ألف رجل باجتياح المدينة، وكان جيش المسعتصم بقيادة مجاهد الدين أيبك أضعف من أن يقاوم تلك الجحافل، فتقهقر بعد بضعة اشتباكات مع المغول، وعندها رضخ الخليفة للأمر الواقع، وأعلن استسلامه لهولاكو، فأمره الأخير أن ينادي في الناس ليضعوا سلاحهم، وما أن استسلم أهل بغداد، حتى اكتسحت جيوش المغول المدينة 40 يوما، عاثت فيها فسادا وتخريبا وتقتيلا.
وقد استباح الغزاة القتل، الذي شمل الرجال والنساء والأطفال على حد سواء، وسالت الدماء حتى غطت الشوارع، وذهب ضحيتها معظم أهل بغداد، وبلغ عدد القتلى بحسب أقل التقديرات نحو 800 ألف، وبالغ بعضهم فأوصلها إلى ما يقارب مليوني شخص.
وخرب المغول المساجد والقصور، ودمروا السدود وأنظمة الري، وأتلفوا المكتبات العريقة وألقوا كثيرا من الكتب القيمة في مياه نهر دجلة حتى تغير لون مائه حسب ما تحكي بعض الروايات التاريخية، ولم يتركوا حجرا ولا شجرا إلا دمروه، ونهبوا وسلبوا كل ما وجدوه، حتى إذا ما انتهوا، أشعلوا النيران في المدينة كلها.
وقتل في تلك الواقعة المسعتصم بالله آخر خلفاء بني العباس، وسجّل سقوط بغداد ذاك نهاية الخلافة العباسية، التي حكمت العالم الإسلامي على مدى 5 قرون.
الاجتياح المغولي الثاني (تيمورلنك) عام 1393
اجتاح المغول للمرة الثانية العراق، فجهز حاكم بغداد السلطان أحمد بن أويس جيشا عظيما، لكنه لم يتمكن من الثبات أمام جحافل المغول بقيادة تيمورلنك، وحينها التجأ أحمد بن أويس إلى مصر، في الوقت الذي حاصر فيه تيمورلنك بغداد، التي سقطت للمرة الثانية بيد المغول وذلك عام 1393م.
قتل تيمورلنك وجنوده الناس ودمروا بيوت المدينة ومدارسها وجوامعها وقصورها وحماماتها، وسلبوا أموالها وذخائرها. وفي عام 1397م استعاد أحمد بن أويس المدينة، وأعاد بناءها على سالف عهدها، وفتك بجنود تيمورلنك وطائفة كبيرة من أعوانه، ولم تمض بضع سنوات حتى فر السلطان من جديد، لما سمع بعزم تيمورلنك على غزوهم.
وسقطت المدينة للمرة الثانية بأيدي تيمورلنك عام 1401، بعد أن أحكم عليها الحصار 40 يوما وقصفها بالمنجنيق، فلما دخلها أعمل سيفه في أهلها، وأمر جنوده بإبادتهم، حتى سالت الدماء أنهارا.
وبلغ عدد الضحايا ما بين 90 ألفا و100 ألف قتيل، وبنى المغول بجماجمهم عدة أبراج، ولم يسلم من أهل المدينة إلا القليل، كان مصيرهم البيع في أسواق النخاسة، وهدم تيمورلنك وجنوده المباني وأحرقوا الزرع والشجر، وجمعوا الأموال والمتاع وسلبوها، وتحللت الجثث المنثورة في المدينة وانتشرت على إثر ذلك الأمراض والأوبئة.
سيطرة القرة قوينلو عام 1411
في عام 1411م سقطت بغداد بيد شاه محمد بن قرة يوسف حاكم دولة “القرة قوينلو” التركمانية، وظل حاكما عليها إلى عام 1421م، إذ شن أخوه إسبان بن قرة يوسف هجوما واسعا على بغداد، ذبح فيه جميع القوات الموالية للحاكم وأعدمه، ثم استولى على المدينة واستقل بحكمها حتى توفي عام 1444م، وحينئذ هاجم جهان شاه حاكم إمارة القرة قوينلو المدينة لبسط نفوذه المباشر عليها، فحاصرها 6 أشهر ثم دخلها وخربها وألحقها بالإمارة وولى ابنه أميرا عليها.
وفي عام 1464م حاول بير بوداق الاستقلال بالمدينة، فسار والده جهان شاه بجيشه إلى بغداد فحاصرها ما يزيد على سنة، فافتقر الناس وجاعوا حتى اضطروا لأكل الجيف والقطط والكلاب، وتعرضت المدينة للخراب والتدمير.
وفي عام 1466 تمكن جهان شاه من دخول المدينة فأعدم ابنه، وقتل كثيرا من ذكور المدينة، ثم عاد إلى العاصمة، ووصف بعض المؤرخين حكم سلالة القرة قوينلو في بغداد بأنه عصر امتدت فيه الفتن وابتليت فيه البلاد بالحروب، وجلب الخراب لبغداد وسائر العراق.
استيلاء الآق قوينلو عام 1469
سقطت بغداد بيد دولة الآق قوينلو التركمانية عام 1469م، واستقرت أمورها في ظل حكم مقصود بن حسن الطويل، ولما توفي عام 1477م، تتابعت حركات التمرد ومرت البلاد بسلسلة من الاضطرابات والحروب بسبب الصراع المستمر بين أمراء الأسرة على السلطة، إضافة إلى الخلافات مع الدول المجاورة، ونجم عن تلك النزاعات سفك الكثير من الدماء، واستنزاف خيرات البلاد، وعانت المدينة من الإهمال الحضاري، وكثر الفساد والمجاعات.
الغزو الصفوي عام 1508
هاجم الشاه إسماعيل ملك إيران بغداد عام 1508، إبّان ولاية الأمير مبارك (باريك)، آخر ولاة الآق قوينلو على المدينة، فحاصر قائد الصفويين حسين بك لاله المدينة، وانتصر على حاميتها، التي عجزت عن رد الاعتداء، وعندها سقطت بغداد بيد الصفويين، ولما دخلها الشاه إسماعيل عقب الانتصار، أمر قائده بتدمير المدينة وفتك بأهلها، ونكّل بأهل السنة وهدم مدارسهم ومساجدهم ونبش قبورهم، وعيّن نائبا له ثم عاد إلى إيران.
وقد استطاعت دولة الآق قوينلو تجهيز جيش في غضون سنتين والانقضاض على بغداد وانتزاعها من الصفويين، ولم يدم لهم الأمر طويلا، ففي عام 1514م سقطت بغداد للمرة الثانية بيد الشاه إسماعيل الصفوي، وأعمل سيفه آنذاك في السنة والنصارى، وأعلن المذهب الشيعي مذهبا رسميا في البلاد، وغالى في الانتصار له، واضطهاد السنة، مما حمل كثيرين على التشيع، وآخرين على الفرار من البلاد.
وبعد وفاة الشاه إسماعيل عام 1524 سقطت المدينة بيد الأمير ذي الفقار بن نخود سلطان، رئيس قبيلة موصلو الكردية، والتي لم تستطع الاحتفاظ بالحكم سوى 6 سنوات، بعدها سقطت المدينة للمرة الثالثة بيد الصفويين.
الحكم العثماني عام 1534
شكلت الدولة الصفوية تهديدا لاستقرار وأمن الإمبراطورية العثمانية، وكان أهل السنة قد راسلوا العثمانيين يستنجدون بهم لتخليصهم من الاضطهاد الذي كانوا يلقونه من قبل الصفويين، فقرر السلطان العثماني سليمان القانوني مهاجمة الصفويين في عقر دارهم، فخرج على رأس جيشه متجها نحو العراق.
وكان الحاكم الصفوي وجنوده قد فروا من المدينة، فدخل السلطان بغداد محفوفا بالترحيب والتكريم من أهلها، وكان ذلك في عام 1534م، وبقيت المدينة تحت حكم العثمانيين نحو 90 عاما.
وفي سنة 1623م سقطت بغداد للمرة الرابعة بيد الصفويين، على يد الشاه عباس الأول، الذي باشر بقتل الأتراك من عساكر وإداريين ورجال دين، وأعاد الكرة من جديد باضطهاد أهل السنة، وسفك جنوده الدماء. وفي عام 1638م استعاد السلطان العثماني مراد خان الرابع المدينة، التي بقيت تحت الحكم العثماني حتى عام 1917م.
الاستعمار البريطاني عام 1917
بعد معارك دامية بين العثمانيين والبريطانيين أثناء الحرب العالمية الأولى، سقطت بغداد بيد البريطانيين سنة 1917، وأجبر سكانها على البقاء في البيوت، والتخلي عن أسلحتهم، وأُغلقت الأسواق وتعرضت للنهب والحرق، وفتش المستعمرون البيوت، وفرضوا حظر تجوال في ساعات المساء، وعلقوا مشنقتين في ساحة عامة تحذيرا وتهديدا لكل من تسول له نفسه مقاومة الاحتلال.
وفي سنة 1920 وضعت بغداد مع ولايتي الموصل والبصرة تحت الانتداب البريطاني، وفي العام نفسه قامت ثورة شعبية ضد ممارسات المندوب السامي البريطاني “أرنولد ويلسون” والقادة والجنود البريطانيين، واستمرت الثورة أكثر من 6 أشهر، قامت على إثرها حكومة وطنية، وفي عام 1932 تخلص العراق من الانتداب البريطاني وانضم إلى عصبة الأمم.
الغزو الأميركي عام 2003
أجاز الكونغرس الأميركي عام 2002، استخدام القوة العسكرية ضد العراق، وادّعت أميركا أن بغداد تمتلك أسلحة دمار شامل، تهدد السلام العالمي، وفي مارس/آذار 2003 شنت الولايات المتحدة حربا على العراق، وقصفت الطائرات والسفن الحربية الأميركية بغداد بالقنابل والصواريخ، وخلفت الموت والهلاك والدمار لسكان المدينة ومعالمها.
وفي 9 أبريل/نيسان، دخل الأميركيون بغداد، وأسقطوا تمثال الرئيس العراقي حينها صدام حسين، الأمر الذي رمز إلى سقوط العاصمة العراقية بغداد والنظام الحاكم. وقد شاركت في الغزو بريطانيا وأستراليا وبولندا، ودعمتها إسبانيا وإيطاليا وعدد من دول أوروبا الشرقية.
وعانت البلاد جرّاء تلك الحرب من حالة من الفوضى العارمة وانعدام الأمان وتدمير البنى التحتية وتفكيك مؤسسات الدولة، وشيوع ظاهرة المليشيات المسلحة خارج نظام الدولة.
واندلعت أعمال العنف الطائفي وفي عام 2011، انسحبت القوات الأميركية من العراق، ولم تتمكن من العثور على أسلحة الدمار الشامل، ولكنها خلفت وراءها ركاما من الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية المتردية.!!!!!!!!!!!!!!!!!!