قراءة نقدية:
” الرباعية والتناص الأجناسي”
التفريغ النصّي:”بين الأزمة والانفراج”
الشاعرة:الهام عيسى(سوريا)
الرباعيات: “تحت كثبان الغيم”
الناقدة جليلة المازني (تونس)
يقول بودلار:”الشكل هو سرّ العمل الفني”
لماذا شكل الرباعية ذات الأربعة قصائد قصيرة؟
نطرح السؤال لعلنا ندرك المغزى من تنضّد الدكتورة الهام عيسى…
مسألة الرباع المذكورة في القرآن :يقول تعالى “لولا جاؤوا عليه باربعة شهداء”(النور:13) وقوله سبحانه ” وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام”(فصلت:10)
لماذا أربعة؟
والقرآن أربعة أرباع .فهل من معنى للعدد أربعة؟
لقد ذكر الرقم أربعة في القرآن(بالالفاظ اربع- اربعة- رباع ) أربع عشر مرة فهل لذلك معنى؟
والعناصر الأربعة في الطبيعة(الأرض والهواء والنار والماء).
والرباعية في الصلاة وهي المؤلفة من أربع ركعات(الظهر والعصر والعشاء)
والخلفاء الراشدون أربعة (أبوبكر الصديق وعمربن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب) فهل من معنى للعدد اربعة؟
والأيمّة الاربعة (مالك بن أنس وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل) .
ولعل المرات الأربع تُمتعُنا أكثر حينما ننفذ للسؤال من خلال بروز ظاهرة الرباعيات في الأدب:
– الرباعيات الروائية :
وأهمها “تغريبة بني حتحوت” لمجيد طوبيا وتقع في أربعة أجزاء(تغريبة بني حتحوت الى بلاد الشمال/ الى بلاد الجنوب/ الى بلاد البحيرات/ الى بلاد سعد ).
– الرباعيات الشعرية:
“والرباعيات نوع من الشعر مشهور في الشعر الفارسي وقد عُرف به عمر الخيام(1048/1131م)” (ويكيبيديا).
*أصل الرباعيات:
“يمكن ارجاع الرباعيات الشعرية الى بلاد فارس القديمة حيث تمّ استخدامها
على شكل رباعيات. أصبحت الرباعيات شائعة في أروبا خلال فترة عصر النهضة وكانت غالبا تستخدم في السوناتات”(1).
*لماذا يستخدم الشعراء الرباعيات؟
“يمكن أن تشكل الرباعية جزءا من سوناتة مكونة من أربعة عشر سطرا.
المقطع المكون من أربعة أسطر قصيرة جدا ولكنه يمنح الشاعر مساحة كافية
لنقل فكرة كاملة أو جزء من السرد.من الأسهل بكثير التعبير عن فكرة أو وصف
أوحدث في أربعة أسطر بدلا من مقطع ثنائي (وهو سطرين فقط) (2).
لو تأملنا بأهم سمات هذه الظاهرة الرباعية نلاحظ أنها تهدف بالأساس الى:
1 – تصوير الواقع ..أي ملمح يميل الى الجانب التصويري.
2- التميز بالدائرية(عودة الابطال بالظهور في معظم المراحل الأربع).
3- حصول نفع القراءة من أي مرحلة تبدأ..مع خيط رفيع رابط بينها.
لعل هذا ما جعل الشاعرة الهام عيسى تلتجئ الى رباعية القصائد لتحقق الملامح
الثلاثة السالفة الذكر وتحقق الخيط الرابط بين قصائد الرباعية.
القراءة النقدية: “الرباعية والتناص الأجناسي”ْ
التفريغ النصي: “بين الأزمة والانفراج”.
أسندت الشاعرة عنوانا شاملا للرباعية ذات الأربع قصائد قصيرة “تحت كثبان الغيم” وهو مركب اضافي دالّ على المكان وقد يكون في محل خبر والمبتدأ محذوف .فماذا يمكن أن يكون تحت كثبان الغيم؟
والكثبان في الجغرافيا الطبيعية هي كتل من الرمال تحرّكها الرياح ثم تلقيها هنا وهناك وتكثر الكثبان الرملية عادة بالمناطق الصحراوية.
بيْد أن الشاعرة جعلت الغيم مضافا الى هذه الكثبان.
انها مفارقة عجيبة بين الكثبان التي هي من جغرافية الصحراء والغيم المتواجد بالسماء فاية علاقة بينهما ؟
والغيم الابيض دليل على روعة وصفاء الطقس.
والغيم الداكن دليل على ان السماء تنذر بالامطار.
وفي الحالتين فان الشاعرة قد تستبشر بكثبان الغيم.
1- تصوير الواقع في قصائد الرباعية:
أ- قصيدة نوافذ:
أسندت الشاعرة عنوانا للقصيدة الأولى من الرباعية “نوافذ” والنوافذ هي أبواب مصغرة تطل على الخارج وتفتح الآفاق .
بيْد أن الشاعرة قد استهلت القصيدة باضافة عيْنيْها الى نوافذ وضمير الغائبة (ها) من المفروض انه متقدم على اسم متأخر لعلنا نكتشفه في صلب التحليل.
لقد جعلت الشاعرة نوافذ عينيها لا أحلام فيها وبالتالى لا آفاق ولا طموحات لانها
تاهت بين نور الشمس وظلام الغيم ولعل الشاعرة ترمز بذلك الى الضياع بين الحق والباطل مما سبب لها الألم
هذا ما جعلها تدخل في حديث النفس السلبي مما عانته من اختطاف لأمنياتها وحتى النوتات تحمل صرخات حبيسة وعقارب الساعة تحْسِبُ عليها زمن ايقاعها وحين غفت استقظت بين أذرع سماء شائكة تعرقل حركاتها نهاية وبداية وبالتالي فحياة هذه الغائبة بعينين مغمضتين طريقها مسدود لا أمل ولا آفاق ولا أحلام.
هذه النوافذ المسدودة هل ستتقبّلها هذه الغائبة؟
ب- هروب.
الى اين الهروب وكل وسائل النقل تعرقل مسيرها حتى أنها جمعت كل تفاصيل حياتها على سكة قطار هارب لم يمهلها ليمكنها من الهروب من واقع أليم.
ترى ما يكون مصيرها؟
ج – تيه:
تُوهِمُنا الشاعرة بصباح جديد مشرق لكن مصيرها كان الضياع والتيه.
كيف ستعيش هذا التيه؟
د- مخاض :
لقد شبهت الشاعرة التيه بمخاض ووجه الشبه بينهما المعاناة وكل منهما يمثل لحظة حياة أو موت :
– المخاض :حياة بولادة جديدة وصبح جديد .
– التيه موت باستمرار التيه والظلام القاتل.
ان معاناة المخاض جعلتها تأوي الى جذع شجرة والمعنى يتناص مع معاناة مريم العذراء التي جاءها المخاض الى جذع نخلة .(فأجاءها المخاض الى جذع النخلة سورة مريم الآية 23).
وبالتالي فالشاعرة تشبّه الغائبة بالقديسة مريم التي كرّمها الله وجعلها تلد النبي المسيح.
ان الشاعرة تحدثت بضمير الغائبة في كل قصائد الرباعية فماذا يعني ذلك؟
“ببساطة هو ممارسة التحدث عن الذات بضمير الغائب وليس بضمير المتكلم وكثيرا ما يستخدم الساسة هذه التقنية البلاغية لمحاولة إضفاء هالة من الموضوعية على كلماتهم”(3). illeism
والشاعرة تتناص مع طه حسين حين اختار في سيرته الذاتية ضمير الغائب وسيلة للافضاء بما في نفسه رغم أن الحديث بضمير المتكلم مناسب ولائق جدا بالسيرة الذاتية ولكن استخدام ضميرالغائب في الحديث عن الأنا له دلالة المباعدة والمواربة فقد وضع طه حسين بينه وبين العالم الخارجي الذي تحدث عنه مسافة فصلهما عن بعض ضمير الغائب(4).
وبالتالي فان الشاعرة تحدثت عن نفسها بضمير الغائبة لاضفاء شيء من الموضوعية في حديثها.
2- التميز بالدائرية:
ان نفس الشخصية المتحدث عنها تعود للحديث عنها في كل قصيدة:
– في القصيدة الاولى تعاني الشخصية من انسداد الطرق أمامها.
– في القصيدة الثانية أرادت أن تهرب من هذه الطريق المسدودة.
– في القصيدة الثالثة وهي ترغب في الهروب تاهت وضلت طريقها.
– في القصيدة الرابعة ان هذا التيه جعلها تعيش معاناة شبهتها الشاعرة بالمخاض الذي قد يقتضي حلين: موت أوحياة :
* موت لان المخاض هو لحظة حاسمة في حياة المرأة الحامل.
* حياة لان المخاض تتبعه ولادة والولادة حياة جديدة.
وتختم بقفلة كسرت فيها أفق القارئ وانتهكت فيه حرمة منطق الأحداث .
انه الجانب المتفائل الذي يجعل الشخصية ترى الأمل في صبح جديد وفجر مضيء لتحقق ما تصبو اليه من أحلام خنقها الواقع المرير.
انها تتوق الى فضاء بلا قيود ولا حراسة.فتقول:
نهضت من مخاضها..
تاقت لفضاء لا حراسة فيه.
3- حصول نفع القراءة من أي قصيدة نبدأ منها بفضل ذاك الخيط الرابط بينها:
– بدأنا ب”نوافذ” التي صدّرت بها الشاعرة رباعيتها وكان تسلسل الأحداث أعلاه.
– يمكن أن نبدأ بالقصيدة الرابعة “مخاض” الذي يعيدنا بمعاناته الى التيه والتيه يعيدنا الى سببه وهو الهروب والهروب يعيدنا بدوره الى نوافذ” للعينين المغلقة
– يمكن أن نبدأ من التيه الذي تسبب فيه الهروب الذي كان سببه النوافذ المغلقة ثم نختم بالمخاض الذي قد نعتبره انفراجا وولادة جديدة.
– يمكن ان نبدأ بالهروب بسبب انغلاق النوافذ وانسدادها مما يؤدي الى تيه ينفرج بالمخاض الذي هو بادرة خير وولادة جديدة.
لعل الشاعرة الهام عيسى من خلال هذه الرباعية للقصائد الأربع تلمّح الى ما حدث ببلدها سوريا ولعل ضمير الغائبة الذي تحدثت به يعود على سوريا التي سُدت الابواب أمامها بفرض الحصار عليها بل فلا بداية ولا نهاية ولم ينفعها الهروب الذي كان سببا في ضياعها لكن ولادة جديدة تنتظرها لعلها سوريا الجديدة .ومن ثمّ فتحْت كثبان الغيم انفراج.
ان الشاعرة ركزت على المكان كثيرا(تحت كثبان الغيم/ أذرع سماء شائكة/ قطارات /طائرات/ الفضاء/ المحطة/ السماء/ جذع شجرة / لفضاء.)
ان تركيز الشاعرة على المكان بتنوعه يشي بتمسّكها به وبأرضها وبلدها.
وفي هذا الاطار فان الشاعرة قد زاوجت بين الشعري والسردي وبين الشعري والتشكيلي انه التناص الأجناسي:
1- التناص بين الشعر والسرد:
ان هذه الرباعية في تماسكها بخيط رابط بين قصائدها يجعلها تتسم بالسردية القصصية:
أ- مقومات السرد:
– المكان: لقد تعدد ت الأمكنة في الرباعية (ارضي / جوي.. ).
– الزمان: الليل والنهار/البداية والنهاية/ الغفوة واليقظة /اشراق الصباح/انبثاق نور الفجر
– الاحداث: انسداد الابواب/ الهروب/ التيه/ المخاض..)
– الشخصيات:
*شخصية فردية المتمثلة في الغائبة وقد تكون الشاعرة.
* شخصية جماعية و قدتمثل سوريا.
ب – أركان السرد:
– الحوار الباطني لقد استبدلت الشاعرة الحوار المباشر بالحوار الباطني او حديث النفس والحديث الباطني أبلغ من الحوار المباشر فتقول الشاعرة:
تقرأ حكايتها تحت وطأة الصمت
البرق يخطف منها آخر الأمنيات
النوتات تحمل صرخات حبيسة.
عقارب الساعة ضبطت على ايقاعها.
– الوصف : لقد تواتر الوصف بأرجاء الرباعية باستخدام المجاز.
لقد لعبت الشاعرة على الزمان والمكان :
– لقد تعددت الأماكن بالرباعية وهي دليل على أن الأحداث قد شمِلتْ كل الأماكن بالبلد
– ان الازمنة قد توزعت بين التشاؤم والتفاؤل :
*التشاؤم بالوضع الذي عاشته الشاعرة في فرديتها او سوريا في مطلقها من انسداد النوافذ ومحاولة الهروب والتيه.
والتشاؤم كان مضمون ثلاث قصائد داخل الرباعية الأم وبالتالي فالشاعرة قد ركزت كثيرا وبامتياز على جانب المعاناة الذي عانته سواء هي كفرد او سوريا كبلد.
* التفاؤل بالانفراج لقد عبرت الشاعرة عن تفاؤلها بالانفراج بقصيدة واحدة من الرباعية الأم وهي القصيدة الرابعة والأخيرة فتقول:
نهضت من مخاضها..
تاقت لفضاء لا حراسة فيه.
ومن وجهة نظر ميتاشعرية فالرباعية “تحت كثبان الغيم”محكومة بثنائية الأزمة والانفراج والشاعرة هناك:
تهدم لتبني.
تقوّض لتؤسس
تلغي لتثبت
تدحض لتدعم
ان الشاعرة تهدم وتقوّض وتلغي وتدحض فترة الازمة التي عاشتها سوريا لتبني وتثبت وتدعم وتؤسس لفترة انفراج لسوريا الجديدة.
2- التناص بين الشعري والتشكيلي:
تزاوج الشاعرة بالرباعية بين الشعري والتشكيلي فثنائية الهدم والبناء وثنائية الازمة والانفراج يمكن ان تُجسّد تشكيليا بلوحتيْن تشكيليتين:
– اللوحة الاولى : فترة الازمة من عيون مغمضة وهروب وتيه تحت كثبان الغيم (القصائد الثلاث الاولى) .
– اللوحة الثانية :فترة الانفراج يمكن ان تجسّد صورة امرأة حامل تلبس خريطة سوريا تحت جذع الشجرة وهي تنتظر مولودها الجديد في الفضاء الرحب حيث لا حراسة فيه (القصيدة الرابعة) لتكون سوريا الجديدة في قدسية المسيح عيسى.
وخلاصة القول فان الشاعرة الهام عيسى باستخدام شكل الرباعية ذات الاربع قصائد قد استطاعت ان ترسم لنا ملامح سوريا الازمة لتتطلع الى سوريا الانفراج بالمزاوجة بين الشعر والسرد وبين الشعري والتشكيلي.. انه التناص الاجناسي الذي كسر القطيعة بين جنس وجنس وبين جنس وفن وانتهك حرمة أفضلية جنس أدبي على جنس أدبي آخر أوجنس أدبي على جنس فني آخر.
سلم قلمها المسكون بعشق الوطن سوريا.
بتاريخ 06/ 01/ 20225
المراجع:
https://www..noor.book.com>tag(1)
كتب الرباعيات الشعرية.
https://www.bbcmaestro.com> blog(2)
ما هي الرباعية في الشعر؟-بيبي سي مايسترو
https://lsa.unich.edu> faculty-news Illeism(3)
الحيلة القديمة لمساعدتك على التفكير بحكمة اكثر- كلية
https://langue- arabe.fr>(4)
ضمير الغائب في كتاب الايام للدكتور طه حسين- موقع اللغة والثقافة العربية