قراءة تحليلية انطباعية لنص جنون الليل للشاعرة منيرة الحاج يوسف /تونس
بقلم الأستاذة سعيدة البركاتي /تونس
تعددت دلالات الليل في قصائد الشعراء فلم يبق مجرد حيز زمني مضاد للنهار،بل أمسى مصدر إلهام و سفير ذواتهم ينيرون ظلمته بمصابيح القصائد كما تضاء ظلمته بالنجوم و القمر . فأصبح ثيمة مهمة في الشعر العربي تعاملوا معه كتجل لأحاسيسهم و أفكارهم و قلقهم … فأبدعوا لوحات شعرية رسموها بكل عناية حد الإعجاب و الدهشة .
يقول المتنبي عن الليل :
أعزمي طال هذا الليل فانظر/أ منك الصبح يفرق أن يئوبا
أما امرؤ القيس فصاح بالليل :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي /بصبح و ما الإصباح منك بأمثل
قصيدة ” جنون الليل ” للشاعرة منيرة الحاج يوسف تناولت الليل من زاوية “غريبة” ،فحركت سكونه و ظلامه و ما اكتساه من هدوء إلى” ليل مجنون “و هذا انطلاقا من العنوان .
حسب موقع “موضوع” يقال في اللغة العربية: جن عقله بمعنى زال عقله ، و الجنون اصطلاحا هو عدم القدرة على التحكم في العقل ،فيأتي السؤال : كيف لليل عُرف بالسكينة و الهدوء أن يصبح مجنونا ؟
تقول الشاعرة :
ننام على صدر الليل
يهدهدنا الحزن
تتمدد أطرافه
يلتف حولنا كأخطبوط متوحش
أفعال المقطع جاءت في صغة الجمع :ننام /يهدهدنا
أصبح الليل ملجأ للسكينة و الاطمئنان ” مكان للنوم” لكن ما يحيط بالشاعرة و من معها من حزن يلتف حولهما كأخطبوط متوحش ، اجتمعا ظلمة الليل و الحزن الذي شبهته بالاخطبوط و بين الهدهدة و الامتداد و الالتفاف كان النوم على صدر الليل : أفعال أولها يبعث على الطمانينة :سننام /يهدهد ثم تبدأ الحركة كمن يصطاد فريسة : امتداد الاطراف ثم الالتفاف على الضحية ،و هذا ما يفعله الاخطبوط حين ينقض على فريسته ، صورة لصراع ضحية تحاول الافلات من يد جلادها :فرائس الأخطبوط تصبح عديمة القدرة على الحركة عندما يمسك بها : صورة تشبه الجاثوم تلك الحالة التي يفقد فيها الشخص القدرة على الحركة و الكلام و هي تسمى كذلك الشلل النومي : هذه الحالة الاولى التي تلف الشاعرة و من معها ، يحيطهما الحزن من كل الجوانب :
يقول المتنبي في بيته المشهور عن شدة الحزن : أرق على أرق و مثلي يأرق/و جوى يزيد و دمعة تترقرق .
وتقول شاعرتنا:
أغرق في حضن نجمة
و تغوص أنت في بحر مشاعري
يرقبني القمر بعينه اللامعة …يحملق بي
تغار الأحلام …
في الانتقال من مشهد إلى آخر تغير الشاعرة المكان من حضن الليل إلى سماءه و نجومه و القمر تجمعهم في “بحر مشاعرها” و هذا فيض من الاحساس تجاه المحبوب حد الغوص “عمق المشاعر التي ليس لها قرار” .
حين كان غرقها في حضن “نجمة” أخذت محبوبها معها ليعيشا زمن الغرق و الغوص معا ،فلماذا غارت الأحلام ؟
الصورة الشعرية فاقت الجمال و الاحساس :بين حضن نجمة و بحر مشاعر ،بين غرق و غوص : و المراقب /القمر : يحملق بعين لامعة : أولا مسحة الضوء التي أضفاها القمر على المشهد ،ثم ما يقوم به :المراقبة و الحملقة /المراقبة تكون من بعيد أو قريب أما الحملقة فهي من فعل حملق /نظر اليه نظرا شديدا و تفحصه و دقق فيه و في معنى آخر :نظرة غاضبة بعينين واسعتين فيهما الدهشة و الاستغراب ( معجم المعاني) ،و سبب دهشة القمر الذي تنقل بسرعة من المراقبة الى الحملقة ، فما رآه فاق الاحلام فغارت هذه الاخيرة حين غنى العاشق لمعشوقته أحلى أغاني العشاق ، و أمتع سمعها شعرا تأجج لوعة و حرقة المشتاق . و للشاعرة رأيها .
لكن، ينعرج النص الى الجانب المخفي من صدق الاحاسيس و المعاناة التي تعيشها الشاعرة و هي في امس الحاجة الى من يضمد جراحها ، تقول : يرقص جرحي /الف قصة خوف /قسوة الفقد/اوجاع الفراق / : هذه حالة الشاعرة و التي تفاعلت معها خاصرة الليل التي تعبت من حكاياتها عن الفقد و اوجاع الفراق ،الشاعرة لا يهفو قلبها الا ” لذكرى “عناق طويل ،هذه الحاجة الملحة و ما فعل يهفو الا : لو يسرع الحبيب و يلتقيا بعناق طويل ربما تعتصر الأوجاع و يخفف العناق المعاناة و يطفئ من لوعة الاشتياق و لو قليلها .
من أجمل ما قيل في العناق :ما أدري ما طيب العناق على الهوى /حتى ترفق ساعدي فطواك (لقائلها)
رغم كل هذه الحركة في النص و أفعال توحي بوجود أصوات كالغناء و قول الشعر إلا أن الصمت كان يتذمر من صداه المكتوم : فكل هذه الحركة كانت تدور في الصمت المطبق على صدرها ، الشاعرة أبدعت في نقل صورة رغم بشاعتها المعنوية : صدى الصمت /وصلت الى حد الاختناق و كأن الكلام توقف عند خاصرة الليل / لعل يولد البوح من جديد مع العناق الطويل و تبقى الكلمة للمشاعر دونها . (عسر مخاض ولادة الصوت ).
يأخذ النص منعرجا نحو الأمل :على رأس أصابعها تمشي بارقة أمل /هذا الشعاع الضئيل كانه يسرق من الزمان قليله ليضفي على النص مسحة ايجابية و اشراقة نور :تمشي على رأس اصابعها : ومن يمشي بهذه الطريقة اما يكون خائفا او يعد لمفاجاة أو يكون متوترا لكن هذه البارقة “حيرى” و تهمس بوعد :حياة غير التي تعيشها الشاعرة : لعل في الأفق أمل يتحقق . صورة بين شعور داخلي غير الذي وصفته لنا الشاعرة : بارقة الأمل حيرى /تمشي على أطراف أصابعها .
تضغط على كف الانتظار /غدا يحتضننا النهار : و يزداد بريق الأمل مع غد في حضن النهار و كل ما يوحي بالحزن و الكآبة صار بعيدا أشارت إليه الشاعرة بــ “هناك”: لوحة رسمناها بدمع السماء : و هذا الانزياح الى المطر الذي أخذت منه مادة للرسم و حين تمطر السماء يقترب الفضاء الى اللون الرمادي بسحبه و غياب شمسه، مشهد شاحب رغم أن المطر خير ، مع الــ “هناك” أخرى هي للأمل تطفئ عطش السكون : حين كان الصمت يتذمر من صداه المكتوم (أعلاه ) فرذاذ المطر بعث الحياة من جديد في المشهد العام للنص : فنزداد هياما … قد يتعجب المتلقي من هذا السطر في النص … أين مظاهر الهيام حتى يزدادا هياما ؟فهل تحقق وعد بارقة الحياة ؟ فأفعال النص أغلبها في المضارع ، لباس الحزن فضفاض /الانتظار / سنخترق و نعانق …
بين الحزن و الجرح المفتوح و ألمه الدائم ، بين الخوف و قسوة الفراق
كانت أوجاع النص غزيرة مما أثر على نفسية الشاعرة فالتجأت إلى حضن الليل لعلها تجد الطمأنينة ، لكن هذا الليل لم يكن عاديا ،كان مجنونا أيقظ فيها الحنين و التوق للقاء مع عناق
طويل لعله يطفئ نار الشوق المتأججة بصدرها ،… بعد طول غياب .
فسؤال الليل ” من المجنون”؟ جعل من النص مفتوحا و في نفس الوقت أخذ شكلا دائريا انطلاقا من عنوانه و ما احتوى لينتهي بحيرة : من المجنون هل الليل أم الشاعرة و حبيبها ؟
بالرجوع إلى النص نلاحظ أن الشاعرة وضعت إطار الزمان للنص الليل ثم انطلقت في وصف ما يدور فيه من مشاهد في نسق تصاعدي حد كتمان “الصمت” فشلت حركته لولا بارقة الأمل التي حركته بالمشي على أطراف أصابعها .
لم يخلو النص من الصور الذهنية صاحبتها نبرة وجدانية صادقة،اختراق القصيدة و عناق ألوان الحقول البعيدة /لوحة رسمت برذاذ المطر …
نص رغم صمته المتذمر من صداه المكتوب و جراحه التي رقصت على قصص الخوف كان غنيا بالصور الشعرية بلغة سهلة و أسلوب شاعري أبدعت في نقلها الشاعرة منيرة الحاج يوسف فجعلت من المتلقي يتابع تسلسل أحداثه ليجد نفسه في دائرة السؤال : من المجنون ؟
بقلمي سعيدة بركاتي / تونس
#النص
جنون الليل
ننام على صدر الليل
يهدهدنا الحزن
تتمددأطرافه…
يلتف حولنا كأخطبوط متوحش
أغرق في حضن نجمة
وتغوص أنت في بحر مشاعري
يرقبي القمر بعينه اللامعة…يحملق بي
تغار الأحلام …
لي تغني أحلى أغاني العشاق
تقول لي شعرا به لوعة مشتاق
فيرقص جرحي المفتوح على ألف قصة خوف
من قسوة الفقد واوجاع الفراق
خاصرة الليل تتعب من الحكي الطويل
الصمت يتذمر من صداه المكتوم
وقلبي يهفو الى ذكرى عناق
على رأس أصابعها تمشي بارقة أمل حيرى
تعدنا بحياة أخرى
ومن حولنا تكثر الوشوشات
تضغط على كف الانتظار
غدا يحتضننا النهار
لا وقت للوقوف على عتبات الحروف
سنخترق القصيدة ونعانق ألوان الحقول البعيدة
هناك على حافة الإحساس لوحة رسمناها بدمع السماء
هناك رذاذ يطفئ عطش السكون
فنزداد هياما
والليل يسأل
من المجنون
منيرة الحاج يوسف / جربة التونسية






