قراءة نقدية: “القصيدة بين الذات الشاعرة وذات الشاعر”
القصيدة “كذب الشعراء ولو صدقوا”
الشاعرة : سلوى الراشدي(تونس)
الناقدة: جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية: “القصيدة بين الذات الشاعرة وذات الشاعر”
ا- عتبة العنوان:
أسندت الشاعرة سلوى الراشدي عنوانا لقصيدتها يتناص تركيبيا مع المقولة أو المثل الشائع “كذب المنجمون ولو صدقوا “.
ولئن جعلت هذه المقولة الشائعة صدْق المنجمين استثناء أو عن طريق الصدفة
– فهل أن شاعرتنا تعتبر أن صدق الشعراء هو استثناء أو عن طريق الصدفة وأن الكذب هو القاعدة .
– هل أن شاعرتنا وهي تضع عنوانا لقصيدتها تستحضر مقولة ثانية وهي “أعذب الشعر أكذبه”
و القاعدة تغلب الاستثناء فالقاعدة هي الكذب والصدق هو استثناء.
فيم تتجلى هذه المقولة “كذب الشعراء ولو صدقوا بالقصيدة”؟
ب- التحليل: تجليات مقولة “كذب الشعراء ولو صدقوا” بالقصيدة:
لقد تقمصت الشاعرة سلوى الراشدي دور الراوي لتروي لنا قصة هرّة عاشقة لما يبوح به الشاعر الغاوي في أشعاره:
استهلت الشاعرة قصيدتها بفعل قول لعاشقة في واحة القوافي وقد كنّتْ عنها بهرّة عاشقة. فتقول:
تقول هرّة عاشقة في واحة القوافي ومنهل الاشعار والدرّ والنمق
عن ساحر سبا وأمطر الشجى وعلق الجفون في مرافئ القلق
والهرة كما ورد لدى بعض الباحثين أنها ترمز في:
– الأمثال الشعبية العربية الى الدهاء أو عدم الاستقرار مثل “إن غاب القط العب يا فأر”
– في الفن والأدب الى الجمال والكمال فيرى فنانون مثل ليوناردو دافنتشي أن أصغر قطة هي تحفة فنية” مما يعكس تقديرهم لجمال لقطط.
– الحالة النفسية: انها مرآة للحالة النفسية.
وفي هذا الاطار:
– هل أن هذه الهرة العاشقة(المرأة) لأشعار الشاعر الساحر ستكون ذات دهاء حتى لا يتلاعب الشاعر الساحر بمشاعرها فلا تصدّق أقواله؟
– هل أن هذه الهرة العاشقة ستكون تحفة فنية في شعر هذا الساحر فتصدق أقواله؟
– هل أن الهرة هي مرآة للحالة النفسية وعلى ضوئها تفسر السلوكيات؟
ان هذه الهرة العاشقة لأشعار الشاعر تكشف عن نواياه وتفضح مواقفه اذ تجعل
كل ما يبوح به في شعره لا أساس له من الواقع لأنه حبر على ورق فتقول:
تقول: “كل الذي ينوبني من سره وجهره, من جده وهزله حبر على ورق”
ان هذه الهرة كانت داهية حيث تفطنت الى ألاعيب هذا الشاعر الساحر بكلامه
تصريحا وتلميحا سرا وجهرا جدا وهزلا.
ان كلمات الشاعر الشعرية المنمقة والمعسولة لم تُغْوِ هذ الهرة العاشقة بل جعلتها تقف على حقيقةٍ هي أن الذات الشاعرة هي التي تتلاعب بمشاعر المرأة التي يغرّها ثناؤه لها.
وقد يستحضر القارئ ما صرّح به الشاعر أحمد شوقي في خداع الحسناء:
خدعوها بقولهم حسناء // والغواني يغرّهن الثناء
وبنبرة ساخرة تردّد هذه الهرة الداهية قوله وهو يسعى الى إغوائها بصدق ما يقول .وكأني بالهرة بشكّها في مشاعره استفزته ليزعم صدق شعره فتقول الشاعرة:
قال خُذيها واقرئي كلمات وجْد وجوى حبوْتك بها فاهنئي هذا الفؤاد وما نطق
إن شك هذه الهرة في صدق قوله يتحوّل الى يقين حين يختفي هذا الشاعر الغاوي لهذه الهرة لتكتوي بنار الشوق فتقول الشاعرة:
ثم توارى واختفى ومحا دروبك// من زمان فصليت نار الشوق في كف الشفق
والشاعرة باعتبارها راوية لقصة هذه الهرة العاشقة لأشعار الشاعر الساحر فهي تسعى الى تأجيج نار شوقها وتصعيد لوعة الفراق ووجع التخلي عنها.
والشاعرة راوية عليمة بحيثيات القصة فهي تتدخل لتجعل هذه الهرة العاشقة تُسِرّ الندامة فتقول:
ناديتِ في جوف الظلام يا ليتني// في نبضه في كفه في حبره قد كنت من ورق
لكنت قد سلمت من حرقة الدناء// من علقم الفطام والسهد والأرق
وكأني بالشاعرة تغوص في نفسية هذه الهرة العاشقة التي تمنت لو كانت من ورق حتى لا يتلاعب بمشاعرها وحتى تسلم من “حرقة الدناء وعلقم الفطام والسهد والارق”.
وهذه الهرة العاشقة لأشعار الشاعر الساحر ما هي الا نموذج لكل امرأة عاشقة لسحر حرف الشاعر.
وفي هذا الاطار والهرة العاشقة بين شك ويقين وبين نار الشوق وعلقم الفطام والسهد والارق قد يثير القارئ قضية صدق الشاعر وكذبه وقضية الشعر الذي هو حبر على ورق وقد يستحضر الآية الكريمة(224) من سورة الشعراء” والشعراء يتبعهم الغاوون ألم ترى أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ “.
وبالتالي هل أن هذه الهرة العاشقة قد كشفت فعلا حقيقة هذا الشاعر الغاوي الذي يقول ما لا يفعل؟
والشاعرة سلوى الراشدي التي تتابع حركات هذه الهرة العاشقة وتتعاطف مع مشاعرها المنهارة تتقمص دور الناصحة باسم هذه الهرة فتحذّر من تصديقه قائلة:
إياك ان تصدّقي بأنك في ليله مصباح زيت
راقص, نافورة ضياء, نسمات صيف رائق بالفل والحبق.
إياك ان تصدّقي بأنك ليلاه ,منتهاه. دنياه .وأنك هواه والشمس والأفق
وفي هذا الاطار لعل الشاعرة وهي العليمة بالشعر والشعراء تريد أن توقظ شعور هذه الهرة العاشقة وأمثالها لتوجهها الى التمييز بين الشاعر والذات الشاعرة:
يرى بعض الدارسين أن “الفرق بين الشاعر والذات الشاعرة هو أن الشاعر هو الشخص الذي يكتب الشعر بينما الذات الشاعرة هي الكيان الشعري أو الوعي الذي يظهر داخل النص الشعري وهي تمثل تجربة الشاعر وعواطفه وخياله وصياغته للعالم بشكل فني وابداعي متجاوزة في كثير من الأحيان الشاعر”.
ان كل قصيدة لها ذات شاعرة تمثل صوتها لكن ليس كل صوت شاعري يعبّر عن الشاعر الحقيقي بالضرورة.
ولعل الشاعرة سلوى الراشدي تدعو القارئ وبالخصوص المتلقية الأنثى الى
التفريق بين الذات الشاعرة وذات الشاعر.
وبالتالي هل ان الشاعرة باعتبارها الراوية العليمة بتجربة هذه الهرة العاشقة وشاهدة على ما عانته بين شك ويقين ووجع وشوق فهي تحذرها من تصديقه لان الذات الشاعرة هي التي تصنع ابداعها وليست ذات الشاعر لان الشاعر المبدع يكتب لذاته أولا لان العملية الابداعية لصيقة بالذات لكنه لا ينفي تأثيرها في الآخر(1)
وفي هذا الاطار فان نرجسية الذات الشاعرة تجعل الشاعر صعب الرضى وكل الجميلات عاجزات عن إرضائه لأن الجميلة التي تستبد بخياله أسطورة بما في الأسطورة من خيال بعيدة عن الواقع فتقول الشاعرة:
كل الجميلات له هيهات أن يُرضينه غاوٍ يُراوغ في الهوى ولعبة الغرام لأجلها خلق
حبيبة قلبه في الخيال عصية المنال فريدة الخصال أسطورة العبق
وباعتبارها أسطورة هو صانعها فهو يرسم لها صورة في خياله لتجسد الشاعرة رمزية الهرة في الفن والادب واذا بالمرأة الجميلة التي ترسمها الذات الشاعرة للشاعر هي شبيهة بتحفة ليوناردو ديفنتشي للهرّة.ومن ثم أسطوريتها.
وبالتالي فالشاعر يبحث عن موطن الجمال الذي يوقظ مشاعره في كل جميلة لتكون حبيبة قلبه لوحة شعرية حسية فسيفسائية الجمال.
انها لوحة تثير حواسه من بصر وسمع ولمس…فتعدّد الشاعرة بامتياز ما يبتغيه في حبيبة قلبه الأسطورة التي يصنعها قائلة:
من هذه بهاءها وتلك عذب صوتها وتلك وقع خطوها على نحيب الدف ورنة البزق.
يلهث ألف عام ليجمع لها صورة من كل غيد الأرض يأخذ ما اتفق
من هذه يقتحم تخوم ليل ليلك وتلك يجلو في الهوى خصلات تبر مخملي
وذي يراود خلسة نظرات لحظ شاعري يغزو بها الافق
من ذي يروق القدّ ويستبيح الخد وذي يناغي الوِرد والجيد والعنق
ان الذات الشاعرة تنشد الجمال الجسدي والحسي .
انه لعمري جمال يثير الشهوة الجنسية والاشتهاء بعيدا عن الحب الذي توهمته هذه الهرة العاشقة من خلال أشعاره.
ولعل الشاعرة سلوى الراشدي من خلال هذه اللوحة الأسطورة لجمال الحبيبة التي تركز على الجمال الجسدي والتي ترسمها الذات الشاعرة بالقصيدة ليغوي بها الشاعر مثل هذه الهرة تثير ثنائية الحب والشهوة الجنسية:
والفرق بين الحب والشهوة جذري كما أورده دكتور مصطفى محمود في كتابه “لغز الموت” قائلا:
“ان الشهوة شيء غير الحب.. فهي رغبة النوع وليست رغبة الفرد ..انها علاقة بين الذكورة والانوثة.. والحب يحتوي على الشهوة لكن الشهوة لا تحتوي عليه
والحياة الخالية من الحب حياة باردة موحشة سخيفة خالية من الحماس والطعم والبهجة والشهوة لا تسعفنا ولا تطفئ ضمأنا ولا تعوضنا عن الحب” (2).
وفي هذا الاطار إن الشهوة التي أثارتها الذات الشاعرة في الشعر هي التي أغوت هذه الهرة العاشقة لحرف الشاعر والمصدقة له لإيقاع أمثالها في الشرك فتقول الشاعرة سلوى الراشدي:
من هذه يستلطف لمسات خفر وحياء وتلك ينشد صاغرا نبرات مكر ودهاء وحاجة تدفعه للغيّ والشبق.
ولعل الشاعرة هنا ومن وجهة نظر ميتاشعرية تهدم مفهوما لجمال المرأة وتؤسس لمفهوم آخر:
– تهدم مفهوم الجمال الذي يتغنى به الشاعرعند المرأة والمحصور في الجسد.
– تؤسس لمفهوم الجمال عند المرأة الذي يجمع بين الجمال الجسدي والفكري والروحي باعتبارها انسانا مركّبا .
وكأني بالشاعرة سلوى الراشدي تدعو الذات الشاعرة أن تتحدث عن هاجسها المتمثل في التغني بالمرأة كأنسان.
ولعل القارئ هنا يتفطن أن الشعر الغزلي من عصر الشاعر الروماني بابليوس أوفيد ناسو (شاعر الحب والرغبة والاغواء)وعمر بن أبي ربيعة وبشار بن برد الى عصر نزار قباني هو شعر يتحدث عن المرأة المتعة الجسدية لا عن الحب ولاعن المرأة الانسان.
وبالتالي هل مثل هذا الشعر والذي استهوى الهرة العاشقة وقد يستهوي الكثيرات أمثالها يحرّر المرأة أم يقيدها؟
وفي هذا السياق تختم الشاعرة سلوى الراشدي قصيدتها بقفلة من جنس العنوان فتقول:
لو كنت أنت بالدنى لو كنت ألف امرأة بألف وجه واعد وألف فجْر صاعد لاتخذ لأجلك خزينة ورق
قل لي اذن يا صاحبي يا ناطقا بالحق أليس يكذب شاعر دوما ولو صدق
وخلاصة القول فلئن كانت القصيدة تشي للقارئ بالتفريق بين الذات الشاعرة وذات الشاعر فهي من وجهة نظر ميتاشعرية تهدم مفهوما وتبني مفهوما آخر في علاقة المرأة بالشعر لتكون المرأة بالشعر المعادل الموضوعي للمرأة الانسان
ولعل هذا يرتقي بذات الشاعر ليكون المعادل الموضوعي للذات الشاعرة انصافا للشاعر ولعل المقولة “كذب الشعراء ولو صدقوا” تنقلب وتتحول الى مقولة :
“صدق الشعراء ولو كذبوا”.
لقد أنهيت قراءتي النقدية لقصيدة سلوى الراشدي هذه ونبع الامتاع والمؤانسة لم ينضب بعْدُ.
سلم قلم الشاعرة سلوى الراشدي الذي اختزل مفهوم الشعر الغزلي عبر العصور في قصيدة واحدة يتيمة.
بتاريخ 21/09/ 2025
المراجع:
(1) عبد الغني بلوط- مراكش.الذات والآخر..لمن يكتب الشعراء المغاربة؟(19/6/ 2019)
(2) د. مصطفى محمود من كتاب :لغز الموت-العلم والايمان- 3/5/2024
القصيدة:” كذب الشعراء ولوصدقوا”
تقول هرة عاشقة في واحة القوافي ومنهل الاشعار والدر والنمق
عن ساحر سبا وامطر الشجى وعلق الجفون في مرافئ القلق
تقول: كل الذي ينوبني من سره وجهره من جده وهزله حبر على ورق
قال خذيها واقرئي كلمات وجد وجوى حبوتك بها فاهنئي هذا الفؤاد وما نطق
ثم توارى واختفى ومحا دروبك من زمان فصليت نار الشوق في كف الشفق
ناديت في جوف الظلام يا ليتني في نبضه في كفه في حبره قد كنت من ورق
لكنت قد سلمت من حرقة الدناء من علقم الفطام والسهد والارق
اياك ان تصدّقي بانك في ليله مصباح زيت راقص, نافورة ضياء, نسمات صيف رائق بالفل والحبق.
اياك ان تصدّقي بانك ليلاه منتهاه دنياه وانك هواه والشمس والأفق
كل الجميلات له هيهات أن يُرضينه غاوٍ يُراوغ في الهوى ولعبة الغرام لأجلها خلق
حبيبة قلبه في الخيال عصية المنال فريدة الخصال أسطورة العبق
من هذه بهاءها وتلك عذب صوتها وتلك وقع خطوها على نحيب الدف ورنة البزق.
يلهث ألف عام ليجمع لها صورة من كل غيد الأرض يأخذ ما اتفق
من هذه يقتحم تخوم ليل ليلك وتلك يجلو في الهوى خصلات تبر مخملي
وذي يراود خلسة نظرات لحظ شاعري يغزو بها الافق
من ذي يروق القدّ ويستبيح الخد وذي يناغي الوِرد والجيد والعنق
من هذه يستلطف لمسات خفر وحياء وتلك ينشد صاغرا نبرات مكر ودهاء وحاجة تدفعه للغيّ والشبق.
لو كنت انت بالدنى لو كنت ألف امرأة بألف وجه واعد وألف فجْر صاعد لاتخذ لأجلك خزينة ورق
قل لي اذن يا صاحبي يا ناطقا بالحق أليس يكذب شاعر دوما ولو صدق
قراءة نقدية: “القصيدة بين الذات الشاعرة وذات الشاعر”
القصيدة “كذب الشعراء ولو صدقوا”
الشاعرة : سلوى الراشدي(تونس)
الناقدة: جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية: “القصيدة بين الذات الشاعرة وذات الشاعر”
ا- عتبة العنوان:
أسندت الشاعرة سلوى الراشدي عنوانا لقصيدتها يتناص تركيبيا مع المقولة أو المثل الشائع “كذب المنجمون ولو صدقوا “.
ولئن جعلت هذه المقولة الشائعة صدْق المنجمين استثناء أو عن طريق الصدفة
– فهل أن شاعرتنا تعتبر أن صدق الشعراء هو استثناء أو عن طريق الصدفة وأن الكذب هو القاعدة .
– هل أن شاعرتنا وهي تضع عنوانا لقصيدتها تستحضر مقولة ثانية وهي “أعذب الشعر أكذبه”
و القاعدة تغلب الاستثناء فالقاعدة هي الكذب والصدق هو استثناء.
فيم تتجلى هذه المقولة “كذب الشعراء ولو صدقوا بالقصيدة”؟
ب- التحليل: تجليات مقولة “كذب الشعراء ولو صدقوا” بالقصيدة:
لقد تقمصت الشاعرة سلوى الراشدي دور الراوي لتروي لنا قصة هرّة عاشقة لما يبوح به الشاعر الغاوي في أشعاره:
استهلت الشاعرة قصيدتها بفعل قول لعاشقة في واحة القوافي وقد كنّتْ عنها بهرّة عاشقة. فتقول:
تقول هرّة عاشقة في واحة القوافي ومنهل الاشعار والدرّ والنمق
عن ساحر سبا وأمطر الشجى وعلق الجفون في مرافئ القلق
والهرة كما ورد لدى بعض الباحثين أنها ترمز في:
– الأمثال الشعبية العربية الى الدهاء أو عدم الاستقرار مثل “إن غاب القط العب يا فأر”
– في الفن والأدب الى الجمال والكمال فيرى فنانون مثل ليوناردو دافنتشي أن أصغر قطة هي تحفة فنية” مما يعكس تقديرهم لجمال لقطط.
– الحالة النفسية: انها مرآة للحالة النفسية.
وفي هذا الاطار:
– هل أن هذه الهرة العاشقة(المرأة) لأشعار الشاعر الساحر ستكون ذات دهاء حتى لا يتلاعب الشاعر الساحر بمشاعرها فلا تصدّق أقواله؟
– هل أن هذه الهرة العاشقة ستكون تحفة فنية في شعر هذا الساحر فتصدق أقواله؟
– هل أن الهرة هي مرآة للحالة النفسية وعلى ضوئها تفسر السلوكيات؟
ان هذه الهرة العاشقة لأشعار الشاعر تكشف عن نواياه وتفضح مواقفه اذ تجعل
كل ما يبوح به في شعره لا أساس له من الواقع لأنه حبر على ورق فتقول:
تقول: “كل الذي ينوبني من سره وجهره, من جده وهزله حبر على ورق”
ان هذه الهرة كانت داهية حيث تفطنت الى ألاعيب هذا الشاعر الساحر بكلامه
تصريحا وتلميحا سرا وجهرا جدا وهزلا.
ان كلمات الشاعر الشعرية المنمقة والمعسولة لم تُغْوِ هذ الهرة العاشقة بل جعلتها تقف على حقيقةٍ هي أن الذات الشاعرة هي التي تتلاعب بمشاعر المرأة التي يغرّها ثناؤه لها.
وقد يستحضر القارئ ما صرّح به الشاعر أحمد شوقي في خداع الحسناء:
خدعوها بقولهم حسناء // والغواني يغرّهن الثناء
وبنبرة ساخرة تردّد هذه الهرة الداهية قوله وهو يسعى الى إغوائها بصدق ما يقول .وكأني بالهرة بشكّها في مشاعره استفزته ليزعم صدق شعره فتقول الشاعرة:
قال خُذيها واقرئي كلمات وجْد وجوى حبوْتك بها فاهنئي هذا الفؤاد وما نطق
إن شك هذه الهرة في صدق قوله يتحوّل الى يقين حين يختفي هذا الشاعر الغاوي لهذه الهرة لتكتوي بنار الشوق فتقول الشاعرة:
ثم توارى واختفى ومحا دروبك// من زمان فصليت نار الشوق في كف الشفق
والشاعرة باعتبارها راوية لقصة هذه الهرة العاشقة لأشعار الشاعر الساحر فهي تسعى الى تأجيج نار شوقها وتصعيد لوعة الفراق ووجع التخلي عنها.
والشاعرة راوية عليمة بحيثيات القصة فهي تتدخل لتجعل هذه الهرة العاشقة تُسِرّ الندامة فتقول:
ناديتِ في جوف الظلام يا ليتني// في نبضه في كفه في حبره قد كنت من ورق
لكنت قد سلمت من حرقة الدناء// من علقم الفطام والسهد والأرق
وكأني بالشاعرة تغوص في نفسية هذه الهرة العاشقة التي تمنت لو كانت من ورق حتى لا يتلاعب بمشاعرها وحتى تسلم من “حرقة الدناء وعلقم الفطام والسهد والارق”.
وهذه الهرة العاشقة لأشعار الشاعر الساحر ما هي الا نموذج لكل امرأة عاشقة لسحر حرف الشاعر.
وفي هذا الاطار والهرة العاشقة بين شك ويقين وبين نار الشوق وعلقم الفطام والسهد والارق قد يثير القارئ قضية صدق الشاعر وكذبه وقضية الشعر الذي هو حبر على ورق وقد يستحضر الآية الكريمة(224) من سورة الشعراء” والشعراء يتبعهم الغاوون ألم ترى أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ “.
وبالتالي هل أن هذه الهرة العاشقة قد كشفت فعلا حقيقة هذا الشاعر الغاوي الذي يقول ما لا يفعل؟
والشاعرة سلوى الراشدي التي تتابع حركات هذه الهرة العاشقة وتتعاطف مع مشاعرها المنهارة تتقمص دور الناصحة باسم هذه الهرة فتحذّر من تصديقه قائلة:
إياك ان تصدّقي بأنك في ليله مصباح زيت
راقص, نافورة ضياء, نسمات صيف رائق بالفل والحبق.
إياك ان تصدّقي بأنك ليلاه ,منتهاه. دنياه .وأنك هواه والشمس والأفق
وفي هذا الاطار لعل الشاعرة وهي العليمة بالشعر والشعراء تريد أن توقظ شعور هذه الهرة العاشقة وأمثالها لتوجهها الى التمييز بين الشاعر والذات الشاعرة:
يرى بعض الدارسين أن “الفرق بين الشاعر والذات الشاعرة هو أن الشاعر هو الشخص الذي يكتب الشعر بينما الذات الشاعرة هي الكيان الشعري أو الوعي الذي يظهر داخل النص الشعري وهي تمثل تجربة الشاعر وعواطفه وخياله وصياغته للعالم بشكل فني وابداعي متجاوزة في كثير من الأحيان الشاعر”.
ان كل قصيدة لها ذات شاعرة تمثل صوتها لكن ليس كل صوت شاعري يعبّر عن الشاعر الحقيقي بالضرورة.
ولعل الشاعرة سلوى الراشدي تدعو القارئ وبالخصوص المتلقية الأنثى الى
التفريق بين الذات الشاعرة وذات الشاعر.
وبالتالي هل ان الشاعرة باعتبارها الراوية العليمة بتجربة هذه الهرة العاشقة وشاهدة على ما عانته بين شك ويقين ووجع وشوق فهي تحذرها من تصديقه لان الذات الشاعرة هي التي تصنع ابداعها وليست ذات الشاعر لان الشاعر المبدع يكتب لذاته أولا لان العملية الابداعية لصيقة بالذات لكنه لا ينفي تأثيرها في الآخر(1)
وفي هذا الاطار فان نرجسية الذات الشاعرة تجعل الشاعر صعب الرضى وكل الجميلات عاجزات عن إرضائه لأن الجميلة التي تستبد بخياله أسطورة بما في الأسطورة من خيال بعيدة عن الواقع فتقول الشاعرة:
كل الجميلات له هيهات أن يُرضينه غاوٍ يُراوغ في الهوى ولعبة الغرام لأجلها خلق
حبيبة قلبه في الخيال عصية المنال فريدة الخصال أسطورة العبق
وباعتبارها أسطورة هو صانعها فهو يرسم لها صورة في خياله لتجسد الشاعرة رمزية الهرة في الفن والادب واذا بالمرأة الجميلة التي ترسمها الذات الشاعرة للشاعر هي شبيهة بتحفة ليوناردو ديفنتشي للهرّة.ومن ثم أسطوريتها.
وبالتالي فالشاعر يبحث عن موطن الجمال الذي يوقظ مشاعره في كل جميلة لتكون حبيبة قلبه لوحة شعرية حسية فسيفسائية الجمال.
انها لوحة تثير حواسه من بصر وسمع ولمس…فتعدّد الشاعرة بامتياز ما يبتغيه في حبيبة قلبه الأسطورة التي يصنعها قائلة:
من هذه بهاءها وتلك عذب صوتها وتلك وقع خطوها على نحيب الدف ورنة البزق.
يلهث ألف عام ليجمع لها صورة من كل غيد الأرض يأخذ ما اتفق
من هذه يقتحم تخوم ليل ليلك وتلك يجلو في الهوى خصلات تبر مخملي
وذي يراود خلسة نظرات لحظ شاعري يغزو بها الافق
من ذي يروق القدّ ويستبيح الخد وذي يناغي الوِرد والجيد والعنق
ان الذات الشاعرة تنشد الجمال الجسدي والحسي .
انه لعمري جمال يثير الشهوة الجنسية والاشتهاء بعيدا عن الحب الذي توهمته هذه الهرة العاشقة من خلال أشعاره.
ولعل الشاعرة سلوى الراشدي من خلال هذه اللوحة الأسطورة لجمال الحبيبة التي تركز على الجمال الجسدي والتي ترسمها الذات الشاعرة بالقصيدة ليغوي بها الشاعر مثل هذه الهرة تثير ثنائية الحب والشهوة الجنسية:
والفرق بين الحب والشهوة جذري كما أورده دكتور مصطفى محمود في كتابه “لغز الموت” قائلا:
“ان الشهوة شيء غير الحب.. فهي رغبة النوع وليست رغبة الفرد ..انها علاقة بين الذكورة والانوثة.. والحب يحتوي على الشهوة لكن الشهوة لا تحتوي عليه
والحياة الخالية من الحب حياة باردة موحشة سخيفة خالية من الحماس والطعم والبهجة والشهوة لا تسعفنا ولا تطفئ ضمأنا ولا تعوضنا عن الحب” (2).
وفي هذا الاطار إن الشهوة التي أثارتها الذات الشاعرة في الشعر هي التي أغوت هذه الهرة العاشقة لحرف الشاعر والمصدقة له لإيقاع أمثالها في الشرك فتقول الشاعرة سلوى الراشدي:
من هذه يستلطف لمسات خفر وحياء وتلك ينشد صاغرا نبرات مكر ودهاء وحاجة تدفعه للغيّ والشبق.
ولعل الشاعرة هنا ومن وجهة نظر ميتاشعرية تهدم مفهوما لجمال المرأة وتؤسس لمفهوم آخر:
– تهدم مفهوم الجمال الذي يتغنى به الشاعرعند المرأة والمحصور في الجسد.
– تؤسس لمفهوم الجمال عند المرأة الذي يجمع بين الجمال الجسدي والفكري والروحي باعتبارها انسانا مركّبا .
وكأني بالشاعرة سلوى الراشدي تدعو الذات الشاعرة أن تتحدث عن هاجسها المتمثل في التغني بالمرأة كأنسان.
ولعل القارئ هنا يتفطن أن الشعر الغزلي من عصر الشاعر الروماني بابليوس أوفيد ناسو (شاعر الحب والرغبة والاغواء)وعمر بن أبي ربيعة وبشار بن برد الى عصر نزار قباني هو شعر يتحدث عن المرأة المتعة الجسدية لا عن الحب ولاعن المرأة الانسان.
وبالتالي هل مثل هذا الشعر والذي استهوى الهرة العاشقة وقد يستهوي الكثيرات أمثالها يحرّر المرأة أم يقيدها؟
وفي هذا السياق تختم الشاعرة سلوى الراشدي قصيدتها بقفلة من جنس العنوان فتقول:
لو كنت أنت بالدنى لو كنت ألف امرأة بألف وجه واعد وألف فجْر صاعد لاتخذ لأجلك خزينة ورق
قل لي اذن يا صاحبي يا ناطقا بالحق أليس يكذب شاعر دوما ولو صدق
وخلاصة القول فلئن كانت القصيدة تشي للقارئ بالتفريق بين الذات الشاعرة وذات الشاعر فهي من وجهة نظر ميتاشعرية تهدم مفهوما وتبني مفهوما آخر في علاقة المرأة بالشعر لتكون المرأة بالشعر المعادل الموضوعي للمرأة الانسان
ولعل هذا يرتقي بذات الشاعر ليكون المعادل الموضوعي للذات الشاعرة انصافا للشاعر ولعل المقولة “كذب الشعراء ولو صدقوا” تنقلب وتتحول الى مقولة :
“صدق الشعراء ولو كذبوا”.
لقد أنهيت قراءتي النقدية لقصيدة سلوى الراشدي هذه ونبع الامتاع والمؤانسة لم ينضب بعْدُ.
سلم قلم الشاعرة سلوى الراشدي الذي اختزل مفهوم الشعر الغزلي عبر العصور في قصيدة واحدة يتيمة.
بتاريخ 21/09/ 2025
المراجع:
(1) عبد الغني بلوط- مراكش.الذات والآخر..لمن يكتب الشعراء المغاربة؟(19/6/ 2019)
(2) د. مصطفى محمود من كتاب :لغز الموت-العلم والايمان- 3/5/2024
القصيدة:” كذب الشعراء ولوصدقوا”
تقول هرة عاشقة في واحة القوافي ومنهل الاشعار والدر والنمق
عن ساحر سبا وامطر الشجى وعلق الجفون في مرافئ القلق
تقول: كل الذي ينوبني من سره وجهره من جده وهزله حبر على ورق
قال خذيها واقرئي كلمات وجد وجوى حبوتك بها فاهنئي هذا الفؤاد وما نطق
ثم توارى واختفى ومحا دروبك من زمان فصليت نار الشوق في كف الشفق
ناديت في جوف الظلام يا ليتني في نبضه في كفه في حبره قد كنت من ورق
لكنت قد سلمت من حرقة الدناء من علقم الفطام والسهد والارق
اياك ان تصدّقي بانك في ليله مصباح زيت راقص, نافورة ضياء, نسمات صيف رائق بالفل والحبق.
اياك ان تصدّقي بانك ليلاه منتهاه دنياه وانك هواه والشمس والأفق
كل الجميلات له هيهات أن يُرضينه غاوٍ يُراوغ في الهوى ولعبة الغرام لأجلها خلق
حبيبة قلبه في الخيال عصية المنال فريدة الخصال أسطورة العبق
من هذه بهاءها وتلك عذب صوتها وتلك وقع خطوها على نحيب الدف ورنة البزق.
يلهث ألف عام ليجمع لها صورة من كل غيد الأرض يأخذ ما اتفق
من هذه يقتحم تخوم ليل ليلك وتلك يجلو في الهوى خصلات تبر مخملي
وذي يراود خلسة نظرات لحظ شاعري يغزو بها الافق
من ذي يروق القدّ ويستبيح الخد وذي يناغي الوِرد والجيد والعنق
من هذه يستلطف لمسات خفر وحياء وتلك ينشد صاغرا نبرات مكر ودهاء وحاجة تدفعه للغيّ والشبق.
لو كنت انت بالدنى لو كنت ألف امرأة بألف وجه واعد وألف فجْر صاعد لاتخذ لأجلك خزينة ورق
قل لي اذن يا صاحبي يا ناطقا بالحق أليس يكذب شاعر دوما ولو صدق






