قراءة نقدية:” القصيدة بين تسريد الشعر والتناص الديني”
القصيدة :”حدّ اليقين”
الشاعرة الهام عيسى(سوريا)
الناقدة :جليلة المازني(تونس)
القراءة النقدية: “القصيدة بين تسريد الشعر والتناص الديني”
1- عتبة العنوان:
أسندت الشاعرة الهام عيسى لقصيدتها عنوانا (حد اليقين) له دلالة اسلامية تتمثل حسب علماء الدين في” الوصول الى درجة عالية من الاعتقاد الجازم والثابت الذي لا يخالطه شك أو ريب في القلب, وهو العلم التام والراسخ الذي ينعكس في سلوك المؤمن وطمأنينته النفسية.. اليقين هو أساس الايمان الكامل ودليل على الاحسان في العبادة ومن ثمرات الزهد في الدنيا والعمل الصالح, والسعادة في الدارين”.
في هذا الاطار يقول تعالى “واعبُدْ ربك حتى يأتيك اليقين” (سورة الحجر الآية 99) وقد فسر علماء الدين هنا اليقين بمعنى الموت الذي لا شك فيه.
وعلى هذا الاساس ما الذي تعتبره شاعرتنا قد بلغ حد اليقين في القصيدة؟
2- التحليل: تسريد الشعر والتناص الديني بالقصيدة:
أ- مفهوم تسريد الشعر:
يرى النقاد أن تسريد الشعر هو استخدام العناصر والتقنيات السردية في النص الشعري أوتحويل القصيدة الى قصة أو حكاية بما فيها من مقومات السرد (الأحداث, الشخصيات والزمان و المكان ) وأركان السرد من وصف وحوار.
وتسريد الشعر هي ظاهرة أدبية تقطع مع الأجناس الأدبية وتنتهك حرمة أفضلية جنس أدبي على جنس أدبي أوفني آخر.
ب- تجليات تسريد الشعر بالقصيدة:
لقد كانت الشاعرة راوية عليمة بالأحداث فاستهلت المقطع الاول من القصيدة بمقابلة معنوية بين الأزمة وانفراجها:
فلئن كان الواقع متأزما وأليما بأحداثه (حرائق تلتهم الزوايا/ردم في الخسوف/ أينما تحل بقايا أطفال يملأ العيون) فان ساعة الانفراج قد تأخرت (تأخر الصباح على غير المألوف).
والصباح نور وضياء وحياة جديدة تتنافى ومشهد الموت المرسوم بألمه ووجعه
والراوية ليست راوية عليمة بالأحداث فحسب بل كان متدخلة في إبداء رأيها في الزمان(تأخر الصباح) الذي لم يكن في خدمة الأحداث وفي انتشال الشخصيات(الأطفال ) من الموت ولعل الشاعرة تلمح الى أطفال فل.س.طين الشهداء الابرياء ضحايا الك. يا.ن الصه. يو . ني.
ولعل القارئ هنا يستحضر الآية الكريمة81من سورة هود” إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب” ليطمئن الشاعرة التي تسرّ الوجع من تأخر الصباح الذي يرمز الى ساعة الانفراج لهلاك العدو الذي استباح دم الاطفال الأبرياء في كل مكان تماما كما كان الصبح موعدا لهلاك أعداء النبي لوط.
وبين صباح عادي وصباح غير مألوف وبين صباح جديد وصباح متأخر وبين أزمة وانفراج لها تعيش الشاعرة قلقا وجوديا انها مأساة عجز الانسان أمام الموت التي لم تبق من الأطفال ولم تذر(بقايا أطفال يملأ العيون).
والشاعرة تصف بامتياز كثرة الضحايا من الاطفال وبشاعة المشهد بصورة شعرية حسية تجعل بشاعة المشهد يثير الاحساس بالوجع.(بقايا أطفال يملأ العيون).
وكأني بالشاعرة سلطت الضوء على هلاك الأطفال لأنهم اللبنة الأولى للمجتمع ولأنهم مستقبل البلاد والعباد. وبهلاكهم يتم القضاء على مستقبل البلاد لتنهار من الأساس وتذهب ريح العباد.
ازاء هذا المشهد الأليم من الهلاك الشامل لهؤلاء الضحايا والشهداء(من وراء بحار الآلام) لاذت الشاعرة الى إيمانها ويقينها بأنهم سيجازون عند الله بالجنة وبذلك كما تدخلت الراوية في الزمان ها هي تتدخل في المكان لتستبدل المكان الواقعي الاليم بمكان ميتافيزقي (الجنة) .
انها استدعت النص القرآني الآية34 من سورة ( ق) “ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود” والآية 46 من سورة الحجر “ادخلوها بسلام آمنين”.
وقد سخرت شخصية غير بشرية لتنادي في هؤلاء الشهداء ليدخلوا الجنة(نادى مناد).والمنادي الذي ينادي قد ذكره النبيّ (عليه الصلاة والسلام) بانه ملاك ينادي اهل الجنة .
وكأني بالشاعرة تعَزّي نفسها بخلود هؤلاء الهالكين من فلس.طي.ن بدخولهم الى الجنة(ادخلوها بسلام) آمنين خالدين في نور دائم (واسرجوا لياليكم بشعاع النور)
حيث لا ظلم ولا ظلام.
وأكثر من ذلك فان الشاعرة قد استدعت الشخصية الدينية المتمثلة في مريم العذراء (حيث أوت الى جذع نخلة) تقديسا للمرأة الفلس.طي .نية الشهيدة وهي مفرد في صيغة الجمع وهي رمز لكل النساء الفلسطينيات.
فلئن أوت مريم العذراء الى جذع نخلة هربا من كلام الناس أعداء الله فان هذه المرأة الفلس.طي.نية قد أوت الى مكان آمن وخالد بالجنة هربا من ظلم الظالمين
ومؤمنة بقدرها المحتوم الذي يحقق لها السلام والأمان(وابتهلت في صمت وأنين..اللهم آمين) .
ولئن كان حوار المنادي لأهل الجنة جهرا فقد استخدمت الشاعرة الحوار الباطني أو حديث النفس لهذه المرأة التي “ابتهلت في صمت وأنين..اللهم آمين”
وكأني بها حين شبهتها الشاعرة بمريم العذراء “قد أنذرت لله صوما ألا تكلم اليوم انسيّا” فلاذت بحديث النفس الباطني.
وتختم الشاعرة بمقطع هو من جنس المقطع الأول بالقصيدة ومن جنس العنوان:
فلئن تأخر الصباح على غير المألوف بالمقطع الاول” فالشمس تفتح ذراعيها بخجل لم تعهدها من قبل بهذا الوجل”:
– وكأني بالشاعرة شاهدة عيان على مأساة هؤلاء فلا الصباح طلع عليهم لأنه تأخر ولا الشمس أشرقت لأنها لا تريد أن توقظهم فهي تخفض لهم جناح الذل
– كأني بالشاعرة وهي راوية عليمة بما يحدث لهؤلاء الضحايا قدعبرت بامتياز عن الازمة وعدم انفراجها بان أخضعت الظواهر الطبيعية في خدمة المعاناة التي يعيشها هؤلاء الضحايا بان جعلت الصباح يتأخر والشمس وجلة وخائفة من الشروق حتى لا توقظهم وتخفض لهم جناح الذل.
والشاعرة تستحضر مرة اخرى الاية24 من سورة الاسراء(واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) التي تدعو الى البر بالوالدين والدعاء لهما بالرحمة.
والشاعرة تشخص الشمس لتجعلها تتواضع وتتذلل لهؤلاء الشهداء لان الموت هو حد اليقين وقدرهم المحتوم ازاء الظلم والقهر (فسكرة الموت جاثمة حد اليقين) انه مشهد ابادة جماعية وشاملة. نقلته لنا الراوية العليمة بامتياز في تناغم بين العنوان والقفلة.
والشاعرة هنا تزاوج بين الشعري والفن التشكيلي وهي ترسم للقارئ لوحة تشكيلية تجسد مأساة ابادة جماعية بكل وحشية وبشاعة للاطفال من ناحية ودخول الشهداء للجنة خالدين آمنين.
وفي هذا الاطار استخدمت الشاعرة التناص الديني:
2- تجليات التناص الديني بالقصيدة:
أ- استحضار النص القرآني:
استحضرت القصيدة العديد من النصوص القرآنية:
سورة هود /سورة الحجر/ سورة (ق)/ سورة الاسراء.
ب- استحضار الشخصية الدينية:
– شخصية النبي لوط
– شخصية أهل الجنة
– شخصية مريم العذراء
وفي هذا الاطار من التناص الديني لا تخفي الشاعرة الهام عيسى عن القارئ مرجعيتها الدينية وتشبعها بالروح الدينية التي جعلها تستخدم القصة داخل القصة بان جعلت القصة القرآنية (قصة لوط/ قصة أهل الجنة/ قصة مريم العذراء/)في خدمة القصة الواقعية (شهداء فلسطين).
وتقنية القصة داخل القصة لها دلالة الاعتبار بها لا سيما الاعتبار بالقصص القرآني .وتقنية القصة داخل القصة تقنية قديمة لضرب المثل اشتهر بها الأديب القدير عبد الله بن المقفع في قصة كليلة ودمنة ولعل شاعرتنا تحْييها بتسريد الشعر لتجعل قصيدتها لا تقطع مع السرد لتجسد للقارئ مشهد ابادة جماعية لشعب مقهور داعمة ذلك بتقنية الثنايات المتضادة (نور /ظلام- صمت/ أنين- جنة/ نار- حياة/ موت –أزمة/ انفراج..)
سلم قلم الشاعرة الذي تفرّد لوجه الحرف سلاحا مقاوما.
بتاريخ 27/ 09/ 2025
القصيدة(د.الهام عيسى)
حد اليقين ..
الهام عيسى
تأخر الصباح على غير المألوف ..
الأمنيات تعبر فوق الحواجز بهجس وخوف ..
حرائق تلتهم الزوايا وردم في الخسوف ..
أينما تحل .. بقايا أطفال يملأ العيون
***
من وراء بحار الآلام
منادٍ ينادي -ادخلوها بسلام ..
واسرجوا لياليكم بشعاع النور
حيث آوت إلى جذع نخلة
هربا من ظلام العالمين
وابتهلت في صمت وأنين ..
اللّهم آمين ..
***
الشمس تفتح ذراعيها بخجل
لم أعهدها من قبل بهذا الوجل
وحتى لا توقظهم
تخفض جناح الذل
فسكرة الموت جاثمة حد اليقين…






