الأبعاد الدّلاليّة للنّسق الصّوفيّ في قصيدة : “ترانيم فجر” للمبدع طارق لعرابي
بقلم:الناقدة د.سميرة تقيدة
أتت قصيدة ” ترانيم فجر” متحرّرة من قيود الوزن، والقافية العربيين حاملة أحلام صاحبها الذي يقرّ انطلاقا من عنوانها بأنّه يعرف مصيره، ويدرك ذاته الأمر الذي أعانه على تحديد توجّهه، وتثبيت هويته، وبالتّالي فهو عمل مستقلّ يقرأ في إطار السّياقات الاجتماعيّة، والسّياسيّة، والثّقافيّة، والدّينيّة المؤثّرة على الأنا العربيّ خاصة في خضم قضايا السّاعة التي ترتهن بها الأنا، ولهذا فهي رؤية جديدة تطرح فيها أزمة الإنسان العربيّ بأساليب، وتقنيات شعريّة لعلّ أهمّها الصور الاستعارية التي تتموضع تحت عباءتها رسالته الإنسانيّة .
وفي هذا السّياق استغلّ المبدع تقنيّة التّرميز، واستعمال المضمر الذي يعكس الهويّة الثّقافيّة لصاحبها، ممّا يفجّر نقاشات عميقة حول سبل المواجهة مع الآخروالمقاومة، والانتماء، والهويّة، وكأنّه مع رجال المقاومة في الميدان يتبعهم بتراتيله، ويعطيهم دفعة إيجابيّة للاستمرار، ويذكّرهم بأنّ الصّبح قريب، وأنّ النّصر آت لا محالة (تراتيل صبح أقبلت..) وفي المقابل يقدّم صورة أخرى لهؤلاء الغارقين في حلكة الظّلمة( العرب) وطيوف الأسقام لا مكان لهم في عالم الأوهام، وينبأهم بأنّ اليمامة البيضاء حتما آتية بالخبر اليقين خبر السّلام الرّوحي للبشريّة .
لقد اختار المبدع في هذا الظّرف العصيب ( إبادة الإنسان في غزّة) الذي تمر به البشريّة جمعاء عنوان نصّه ” ترانيم فجر” جملة اسمية لإثبات حالة وجوديّة، وتوصيف لحقيقة دائمة ، وليست حدثا مؤقّتا يتموقع بين حركيّة المكان، والزّمان، ولهذا لم يقل يترنّم الفجر حتى يوحي بدلالة التّفاؤل، والرضى، إلا أنّ داخل النّص هناك حركيّة دؤوبة لا تكاد تهدأ تنمّ عن فجر حياة جديدة ( ثمّة غيم محمّل بالنّدى يسقي رحيقا ويروي المؤن…) يتكرّر ضمنها الصّوت المتفائل المتحدّي، الأمر الذي خلق جوا شاعريا يتماشى مع مع أجواء الفجر، ومنه فالقصيدة برمّتها صراع ضدّ ثبات موقف العرب من إبادة العزّل في غزّة، والانطلاق طبع من حقيقة ثابتة لمقاومة هذا الثبات داخل النّصّ الذي يتبدّى في كثافة رمزيّة عالية، ووبساطة لغتة، وعمق معانيها لإبراز مواجهة دينامية ضدّ بقاء الحال على ما هو عليه.
تعدّ إذن ترانيم الشّاعر ألحان دافئة، وصلوات خالصة تدعو لبداية حياة جديدة مع إشراقة روح إنّها ولادة أمّة بعد انكسارها ردحا من الزّمن ليس باليسير جسّده المبدع في استغلال تقنيّة التّضاد ( الفجر، اللّيل، العتمة) سعيا منه نحو الانبعاث، والانعتاق الدّاخليّ من الذّلّ، والاستسلام (أعبر تخوم الطّريق كخيل يمنعني الشّموخ شكاية .. من بوح شجن)، إنّه انتصار الوعي على الاوعي، والهدوء النّفسيّ على القلق.
وفي هذا المقام فعّل الشّاعر تقنيّة الصّور الاستعاريّة ممّا زاد النّصّ عمقا مكّنّه ذلك من إيصال رسالته الإنسانيّة والفنّيّة بتتبّع الكلمات، ورصفها والتّركيز على ما تحمله من دلالات متنوّعة أضفت جماليات للقصيدة مثل: ( ترانيم فجر) شببّهها بالمحراب الذي تتلى فيه التّراتيل الرّوحيّة، ( تراقصت، وترنّحت على عتبة الفجر) للاحتفاء بالحياة، وطلبا للخلاص، كما سيطر نحويا أسلوب النّفي للتّأكيد على رفض كلّ ما هو متوحّش، وخارج الطّبيعة البشريّة، وعليه فإنّ سيطرة اللّغة الإيحائيّة في النّصّ المعتمدة على اللتّصوير، والتّرميز، والتّكرار منحه طابعا إنشاديا وضعه في مفارقة فنّيّة أخرجت فعل القول من حالة النّزول إلى قمّة الصّعود إلى فجر مرتقب في رؤية فلسفيّة تترجمها رؤية جدليّة بين الوجود، والعدم، وبين الشّموخ، والانكسار، وبالتّالي فلغة الشّاعر أقرب إلى اللّغة الصّوفيّة الإنشاديّة التي اتّخذت من الفجر محمولا لغويا يجسّد الخلاص، والانتقال من العدم إلى الانبعاث، وهي معان تمّ رصدها من خلال توظيف الشاعر تقنيّة التّكثيف التي تؤدّي إلى انشطار دلاليّ جعل من لغة الشّاعر تنضغط شاعريا مكوّنة الأنا الصّوفيّ الحامل لحلمه فجر بتجلّيه الأعظم للأنوار معشوقه المقدّس في شموخ لا استسلام .






