بلاغة الصورة الفنية وشعرية الوصف في قصيدة “انتهاك” للشاعرة والاعلامية إلهام عيسى.
بقلم الأستاذة:وردة/ع
قصيدة رائعة جسدت ملحمة تاريخية ومأساة إنسانية اختارت لها الشاعرة عنوان “انتهاك” بما يحمله من دلالات،فهو انتهاك شامل لحرمة وقداسة كل المخلوقات والموجودات،انتهاك أطفال،نساء،رجال)،وانتهاك للزمان والمكان ،وانتهاك لحرمة الموت. قصيدة سردية جعلتنا ندرك حد اليقين أن المأساة عبرت كل حدود القارات وكل حدود اللغات لتصبح مأساة حدودية وجودية.
حاولنا من خلال فسحة قرائية ورؤية نقدية متواضعة أن نركز على بلاغة الصورة الفنية ورصد مافيها من حيث البنية والدلالة والمقصدية،وعلى شعرية الوصف من خلال المفردة اللسانية وما لها من وظائف جمالية تأثيرية جاذبة للمتلقي،والمعاني المعبرة عن الصراع الدرامي و المصورة للمشاهد الأليمة التراجيدية.
تجلت بلاغة الصورة من خلال تمظهرات وصورعديدة نذكر منها:
الثنائيات الضدية:(صور التضاد):وهي تصور بإبداع متمايز جدلية التجاذب والتنافر،وجدلية الاستلاب والاحتماء،الوجود والعدم ،الحياة والموت،الآلام والسلام، الظلام والنور وكلها تعكس الصراع الوجودي والوجداني،وترسم بشكل فني معالم وبؤر التوتر والانسداد النفسي الشخصي و الاجتماعي،
صور الامتداد: ينشأ الامتداد بين الأحداث والشخصيات والفضاء الزماني والمكاني خاصة مع الوصف السردي او الحكائي والقصيدة اشتملت على السرد ،حيث شكلت تلك العناصر حلقات سردية درامية متسلسلة امتدت على مساحة القصيدة،فالطفل هو الصباح وهو بداية الزمن وتجددالحياة وهوامتداد للأمنيات والنور وامتداد للأم التي هي سر الحياة والوجود،وملجأ الهروب ومركز الاحتماء(جذع النخلة)، وقد تم تصوير ذلك الامتداد ببداية صورة بقايا أطفال تتوسطه صورة المرأة المكافحة،وينتهي بسكرة الموت (النهاية) وبصور الجثث الجاثمة من الموتى والشهداء ،ليتقطع ذلك الخيط الرفيع بين نور الشمس وعتمة الموت والعدم.
صور الإحالة: ونقصد بها الصور القائمة على التناص والاقتباس وتوظيف المرجعية الدينية والفلسفية في معظم القصيدة، وهي صور أفصحت عن التجربة الشعرية للاعلامية الهام عيسى وأعربت عن إلمام كبير بثقافة دينية وأحالت القارئ إلى معرفة شخصيتها الشاعرية و حسها الشعري المرهف.
صور الوصف:عمدت الشاعرة إلى استخدام اللغة التصويرية ،أوالتصوير اللغوي من خلال ذكر الاوصاف والنعوت والحالات النفسية كالخوف،الهروب،الوجل،وهيآت الأشخاص والأماكن من رماد، خسوف، ظلام ،وهذا لتقريب صورة المشهد الحقيقي ونقل الصورة الفنية الابداعية إلى صورة حسية،مادية ،ومشهد حيّ مرئي،من خلال التشخيص والتشبيه والاستعارة بنوعيها ،وتصوير الأشياء والأمكنة والموجودات كما في الواقع بلغة أنيقة وشاعرية انسيابية غير مبتذلة ولاغامضة،لم تستخدم فيها غريب اللفظ،لأنها ببساطة تعبر عن رؤية واقعية صادقة،تتغيّ من خلالها إخراج الذاكرة من طي النسيان،وانتشال خط الحقيقة من خيوط الإنكار ،وبهذا تكون الشاعرة قد تخطّت حدود العبارة والجملة إلى حدود بلاغة الصورة المؤثرة من مثل” الامنيات تعبر فوق الحواجز،”بحار الآلام”،اسرجوا لياليكم،”بقايا الأطفال تملأ العيون” ،الشمس تفتح ذراعيها في خجل”
شعرية الوصف: أجادت الشاعرة تصوير الواقع بجمالية فنية ولغة شعرية تهز مشاعر القارئ وتثير أحاسيسه ،وهذا ما أضفى على هذا العمل الابداعي نوعا من الحركية المرئية بلغة شعرية وصفية وكأنها آلة تصوير أو عدسة كاميرا راصدة لأحداث بحُلّة فنية بلاغية محاكية للواقع بجمالية متقنة وقدرة على تصوير جزئي لأدق تفاصيل ونقل المعاني بصور حسية بصبغة تتراوح بين الإمتاع والإقناع،ومن خلال المحاكاة والتصوير ودقة الوصف تحصل عملية تخييل المشهد من طرف المتلقي الذي هو عنصر أساسي في هذه المقاربة و تشكل جماليات العمل الابداعي مع مستوى اللغة الفنية كتوظيف الصور البيانية والتمثيلية ،التشبيه،الاستعارة ما يسمى بالشعرية،وهو تفرده بمستوى من مستويات الجماليات الفنية التي تميز الخطاب الشعري.
وترتبط الشعرية بالوصف، ارتباطا وثيقا باعتباره الأرض الخصبة لإبراز وتصوير وكشف لمستويات الجماليات الفنية وأدبيات العمل الابداعي المتفرد،والتذوق النقدي،وكذلك من منطلق أنه- الوصف- أداة من الأدوات الجمالية التي يعتمد عليها الشاعر أو السارد، وهو من الموضوعات أكثر تداولا واستعمالا وهو فن من فنون الاتصال اللغوي ،يستعمل لتصوير المشاهد وتقديم الشخصيات والتعبير عن المواقف والمشاعر والانفعالات،وهو أكثر الأغراض التي اشتهر بها العرب ،وقد تنوع الوصف بين وصف معنوي ومادي إلى وصف داخلي (الحالات النفسية) خجل ،خوف،وجل،ذل،ووصف خارجي(وصف الأمكنة،وصف الأشياء) حرائق،ردم،خسوف ،ظلام،إن مثل هذه الإسقاطات الفنية التصويرية المنقولة بأسلوب شعري ولغة تعبيرية فنية ،قد نقلت صورة المشهد وصورة أحوال النفس والأحاسيس إلى مشاهد كأن المتلقي يراها بصورها الحقيقية ،كما ذكر بن رشيق “أبلغ الوصف ماقلب فيه السمع بصرا”
إلى جانب توظيف الأسلوب القصصي،وهذا من خلال فعل السرد والحكي الذي ارتبط بالوصف، وأنتج قصيدة السرد”انتهاك”،ولأن النفس تميل بطبعهاإلى القص لما له من وقع وتأثير ايجابي ووجداني على القارئ.
تجربة شعرية منفردة ومتفردة، والمعهود عن الشاعرة والاعلامية المثقفة،انخراطها في قضايا المجتمع ،وقضايا الإنسان، فهي لسان يعبر بصدق عن الحياة الإنسانية ،وجرأة قلم يستنطق الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحداث وكل الأشياء، قادر على كشف الحقائق بوعي فكري وإنساني ،وتصوير الواقع لا كما تنقله لنا الوسائط والمواقع.






