في مثل هذا اليوم5 نوفمبر1914م..
المملكة المتحدة تحتل قبرص بالتعاون مع فرنسا وتعلنان الحرب على الدولة العثمانية.
⭕الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)
👈شهد عصر السلطان محمد الخامس حربًا من أكثر الحروب دمويَّةً في التاريخ، وهي الحرب العالمية الأولى، وقد شاركت فيها الدولة العثمانية، وتعدُّ هذه الحرب الكبرى هي المسمار الأخير في نعش «الإمبراطوريَّة» العثمانيَّة، لم تبقَ بعد هذه الحرب «إمبراطوريَّةٌ» تضمُّ عدَّة أقطار؛ ولكن بقي الأناضول وإسطنبول فحسب، أي «دولة» تركيا الحديثة، -أيضًا- حدثت أثناء الحرب عدَّة أحداثٍ أخرى مهمَّة كلها يرتبط بشكلٍ مباشرٍ بها؛ يمكن أن ندرس الحرب العالمية الأولى من خلال النقاط التالية:
⭕اشتعال الحرب العالمية الأولى:
كانت حروب البلقان هي الفتيل الذي قاد إلى انفجار هذه الحرب المدمِّرة، لقد خلَّفت هذه الحرب توتُّرًا شديدًا بين القوى العظمى، إضافةً إلى انهيار الدولة العثمانية في هذه الحروب أمام قوًى ضعيفةٍ لا يُعْتَدُّ بها في العالم بأيِّ حالٍ من الأحوال! إنها قوى وليدة لم تتأسَّس دُولها إلَّا منذ سنواتٍ معدودات، ومع ذلك استطاعت اقتسام الأملاك العثمانيَّة في غضون شهور، ولولا تدخُّل القوى الكبرى لاحتلت إسطنبول بلا جدال! رأى «الكبار» في العالم أن إهمالهم لمسألة تقسيم تركة الرجل المريض -الدولة العثمانية- سمح لهذه القوى الهزيلة أن تفرض واقعًا لا يرضونه، فهم -كإمبراطوريَّاتٍ استعماريَّةٍ تُسيطر جيوشهم على الممالك المختلفة في شرق العالم وغربه- لا يقبلون بتقسيم الدولة العثمانيَّة المتهالكة على غيرهم. كان لا بُدَّ للصراع أن يبدأ إذن؛ في الوقت نفسه رأت بريطانيا وفرنسا أن نموَّ القوَّة الألمانيَّة صار مخيفًا؛ حيث اقتربت قوَّتها في المجمل من قوَّة بريطانيا، وفاقت قوَّة فرنسا، وصار التنافس بين بريطانيا وألمانيا صريحًا[1]؛ بل تعدُّ القوَّات البرِّيَّة الألمانيَّة هي الأقوى في العالم، وإن كانت البحريَّة الإنجليزيَّة تُرَجِّح كفَّة بريطانيا في النهاية[2].
👈 رأت بريطانيا، وفرنسا، كذلك أن التقارب الألماني العثماني صار كبيرًا، وأن تغلغل الشركات الألمانيَّة في المشاريع العثمانيَّة أصبح في كلِّ المجالات تقريبًا، ولم يعد مقصورًا على التسليح أو التدريب العسكري؛ إنما تعدَّاه إلى إنشاء السكك الحديديَّة، ومشاريع التجارة، والزراعة، والمعمار، وتوريد التقنيات العلميَّة، والبحث عن الآثار، والتنقيب عن البترول. يمكن مراجعة البحث القيِّم الذي كتبه المؤرخ الكندي ألريتش ترومبنر Ulrich Trumpener عن مجالات العلاقة بين العثمانيِّين والألمان في آخر عهد الدولة العثمانية لنُدرك مدى العلاقة الوثيقة بين الدولتين في هذه المرحلة[3]. هذا التغلغل يجعل ألمانيا مرشحةً بقوَّةٍ لتسلُّم ميراث الدولة العثمانية عند انهيارها؛ خاصَّةً في ظلِّ الدعم الألماني للنمسا القريبة من المنطقة، وصاحبة الخبرة في التعامل مع العثمانيِّين. كان لهذين العاملين -الانهيار السريع للدولة العثمانية، والنموِّ الألماني المتزايد- الأثر السيِّء على بريطانيا وفرنسا، وكذلك روسيا، ممَّا سيدفعهم إلى «ترقُّب فرصةٍ» لحرب الألمان، واقتسام ما تبقَّى من الدولة العثمانية، وقد جاءت هذه «الفرصة» في صيف م1914!
⭕في 28 يونيو، في مدينة سراييڤو، اغتال رجلٌ صربيٌّ يُدْعَى جاڤريلو برينسيب Gavrilo Princip وليَّ عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند Franz Ferdinand وزوجته[4]. كان القتل بدوافع قوميَّة[5]، وقد أثار في الأيَّام التالية عددًا من جرائم استهداف الصربيين في البوسنة[6]. اشتعلت أوروبا على المستوى الدبلوماسي، وتبادلت الدول الكبرى الرأي في جوٍّ من التوتُّر الشديد فيما عُرِف بأزمة يوليو July Crisis[7]. في 23 من يوليو أرسلت النمسا إنذارًا إلى صربيا يتضمَّن عددًا من المطالب تشمل إرسال محقِّقين نمساويين إلى صربيا للتحقيق في حادث الاغتيال، وقد تعمَّدت النمسا أن تكون الطلبات غير مقبولةٍ لتفتعل الحرب[8]. رفضت صربيا الانصياع للتهديد فأعلنت النمسا الحرب عليها في 28 من يوليو[9]. كان من الممكن أن يظلَّ الصراع محلِّيًّا، لولا التوتُّر الأوروبي الكبير نتيجة تغيُّرات موازين القوى في الفترة الأخيرة، خاصَّةً بعد حروب البلقان؛ كان كلُّ طرفٍ يشعر بأنه ينبغي ألَّا يتأخَّر في ردِّ الفعل، هذا التسرُّع أدَّى إلى قراراتٍ -أراها في الواقع- مجنونة! قامت روسيا بتحريك قوَّاتها في 30 يوليو ناحية الحدود لدعم صربيا. تحرَّكت ألمانيا لدعم النمسا، وطلبت من روسيا سحب قوَّاتها، وعند رفض الروس أعلن الألمان في أوَّل أغسطس الحرب على روسيا[10]! كانت ألمانيا تعلم أن فرنسا ستقف إلى جوار الروس في هذه الحرب، فأرسلت لها طلبًا بأن تبقى محايدة، ولكن فرنسا حرَّكت جيوشها في اتجاه الشرق (في اتجاه ألمانيا)، فقامت ألمانيا باحتلال لكسمبورج Luxembourg في 2 أغسطس، وطلبت من بلچيكا السماح لها باختراقها للوصول إلى فرنسا، وعندما رفضت بلچيكا قامت ألمانيا في 3 أغسطس بإعلان الحرب عليها! هدَّدت بريطانيا الألمان وطالبوا بضرورة احترام حياديَّة بلچيكا، ولما لم تستجب ألمانيا قامت بريطانيا في 4 أغسطس بإعلان الحرب عليها[11][12]! انقسمت أوروبا إلى فريقين كبيرين إذن؛ دولتي المركز، وهما: ألمانيا، والنمسا، في مواجهة الحلفاء، وهم: بريطانيا، وفرنسا، وروسيا. بعد قليل -في 23 أغسطس- انضمَّت اليابان إلى الحلفاء، وهجمت على الممتلكات الألمانيَّة في الصين، والمحيط الهادي[13]. كان من المفترض أن تدخل إيطاليا الحرب إلى جانب حليفتيها ألمانيا والنمسا، ولكنَّها تردَّدت، ثم حسمت الأمر في النهاية في عام 1915 بالدخول مع الطرف الآخر -الحلفاء- نظير مساعداتٍ ماليَّةٍ ووعود[14][15]! هكذا اشتعل العالم!
⭕وجدت ألمانيا أنه من الصعب القتال في جبهتين متباعدتين؛ روسيا في الشرق، وفرنسا في الغرب، فوضع رئيس أركانها المارشال ألفريد ڤون شليفين Alfred von Schlieffen خطَّة، عُرِفَت بخطة شليفين Schlieffen Plan، تقضي بالتركيز على غزو فرنسا فقط، مع توقُّع أن روسيا -لتخلُّفها العسكري نسبيًّا- لن تتمكن من إعداد جيشها إلا بعد مرور ستَّة أسابيع على الأقل. في هذا الوقت تكون ألمانيا قد أخضعت فرنسا، ثم تُسحب بعدها القوَّات الألمانيَّة للتركيز في جبهة روسيا وحدها. على الرغم من منطقيَّة الخطة فإنها لم تنجح! السبب كان في المقاومة الفرنسيَّة الشرسة غير المتوقَّعة، ودعم قوَّات التدخل السريع البريطانيَّة، وجاهزيَّة الروس في وقتٍ أقل من الذي توقَّعه الألمان، بالإضافة إلى صعوبة تحريك العدد الضخم للجنود الألمان في مساحاتٍ كبيرةٍ في بلچيكا وفرنسا[16]. كان الألمان قد اقتحموا فرنسا بتسعمائة ألف مقاتل! ولكنَّهم جوبهوا عند نهر مارني Marne، على بُعد خمسين كيلو مترًا فقط شرق باريس، بأكثر من مليون جندي فرنسي وإنجليزي. دارت عدَّة معارك شرسة بين يومي 5 و12 سبتمبر 1914م هُزِمَ فيها الألمان هزيمةً حاسمة، وتوقَّف تقدُّمهم[17]، بل ظلت هذه الجبهة على هذا الوضع أربع سنواتٍ كاملة، أي إلى نهاية الحرب كلِّها[18]. قُتِل من الألمان في هذه الموقعة ما يقرب من سبعةٍ وستِّين ألفًا، بينما قُتِل من الحلفاء خمسةٌ وثمانون ألفًا معظمهم من الفرنسيين[19].
⭕قرار دخول الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا:
لا شَكَّ أن الفريقين المتحاربَيْن كانا حريصيْن على دخول الدولة العثمانية الحرب، خاصَّةً مع وجودها بالقرب من روسيا، بالإضافة إلى وجود مستعمراتٍ إنجليزيَّةٍ وفرنسيَّةٍ كثيرة في داخل الدولة العثمانية نفسها؛ فبريطانيا تحتلُّ مصر والسودان وقبرص، أمَّا فرنسا فتحتلُّ الجزائر وتونس. كانت أمام الدولة العثمانية خياراتٌ ثلاثة؛ إمَّا الدخول إلى جانب الألمان، أو الدخول إلى جانب الحلفاء، أو البقاء على الحياد. كان الاختيار الأخير -في رأيي- هو الأفضل؛ فالمعركة لا ناقة للدولة العثمانية فيها ولا جمل! إنها معركةٌ بين قوى العالم الكبرى، وميادينها حتى الآن بعيدة، في شمال أوروبا وغربها، وستدوم -فيما يبدو- لعدَّة سنوات، والدولة العثمانية منهكةٌ من حروب البلقان، وقد يتيسر لها في هذا الوقت الذي تتقاتل فيه القوى العظمى أن تُعيد بناء قوَّتها، بدلًا من الإنهاك الجديد في حربٍ ضدَّ قوَّةٍ عظيمةٍ أيًّا كانت. نَعَمْ قد يُملي المنتصر شروطه على القوى الضعيفة التي لم تشترك في القتال، لكن هذا سيكون في حدود، وهي في كلِّ الأحوال أقلُّ جدًّا من الشروط التي سيُمليها المنتصر على الخاسر في المعركة. إن الدخول في مثل هذه الصراعات الخطرة غير المحسومة هو نوعٌ من المقامرة فيما أرى، وينبغي ألَّا تُقْدِم عليها الدول الحكيمة.
⭕لم يكن جنرالات الحرب العثمانيون يُفكِّرون بهذه الطريقة؛ إنما يبدو أنهم أرادوا صنع مجدٍ شخصيٍّ يمسح عار هزائم البلقان الفاضحة. لم يكن للسلطان، ولا لصدره الأعظم، رأيٌ في المسألة، بل لعلهم لم يعرفوا بالقرار إلَّا بعد اتِّخاذه[20]! قرَّر الباشوات الثلاثة دخول الحرب، ولكنَّهم اختلفوا على الجانب الذي يدخلون في صفِّه، ممَّا يؤكد أن الدخول لم يكن ضرورةً إلزاميَّة. كان أنور باشا يُفضِّل الدخول إلى جانب الألمان، وكان يرى أنه لا يوجد جيشٌ في العالم يمكن أن يهزم الألمان، ونقل شعوره هذا إلى طلعت باشا، أمَّا جمال باشا، فكان يُفضِّل الدخول إلى جانب الحلفاء، وفرنسا تحديدًا، ونظرًا إلى هيمنة أنور باشا على المجلس العسكري فقد استقرَّت الدولة على الدخول إلى جانب ألمانيا[21]! كان هذا عجيبًا في الواقع، وزاد من العجب التوقيت الذي قرَّرت فيه الدولة العثمانية الدخول في هذه الحرب المدمِّرة؛ إذ أُخِذَ هذا القرار بعد هزيمة الألمان في موقعة مارني قرب باريس (بعد شهر ونصف تقريبًا)، ممَّا يعني أن القادة العثمانيِّين يُقامرون مع الطرف الخاسر، كما أن التفوُّق العظيم للبحريَّة الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والروسيَّة على بحريَّة ألمانيا، سيجعل إسطنبول -والدولة العثمانية كلها- مهدَّدةً بشكلٍ كبير. ما زال المؤرِّخون متحيِّرين إلى زماننا هذا في السبب الحقيقي الذي دفع الدولة العثمانية إلى هذا «الانتحار» العسكري، خاصَّةً بعد خسائرها الجسيمة في حروب البلقان، وخاصَّةً -أيضًا- مع كونها الآن إمبراطوريَّةً زراعيَّةً في زمنٍ تفوَّقت فيه الإمبراطوريَّات الصناعيَّة بشكلٍ كبير[22][23]! أخذ الجنرالات القرار بقصفٍ متهوِّرٍ لموانئ روسيَّة في البحر الأسود في 29 أكتوبر 1914[24]، وبعدها بأسبوع -في 5 نوفمبر- أعلنت روسيا وبريطانيا وفرنسا الحربَ على العثمانيِّين[25]، وردَّت الدولة العثمانية بإعلان الحرب على الدول الثلاث في 14 نوفمبر[26]. تُشير بعض الروايات إلى أن الألمان هم الذين ورَّطوا الدولة العثمانية عندما استخدموا بارجتين عثمانيَّتين مصنَّعتين في ألمانيا لضرب الموانئ الروسيَّة[27]. هناك مصادر أخرى تُكَذِّب هذه الروايات، وتنسب القصف للأسطول العثماني ذاته[28]. وأقول إنَّه حتى لو صحَّت هذه الروايات كان من الممكن للدولة العثمانية أن تعتذر بأنَّ هذا القصف جاء عن طريق الخطأ، وكانت المسألة ستمرُّ على الأغلب بسلام؛ لأن الحلفاء لا يريدون عدوًّا جديدًا في هذه المرحلة الحرجة. قامت في إسطنبول، وإزمير، وبعض المدن شرق الأناضول كإرضروم، مظاهراتٌ معارِضةٌ للحرب تمثَّلت في عدَّة مظاهرات، لكنَّها قُمِعَت[29]. سُحِبَت بذلك الدولة العثمانية إلى مصيرها المحتوم! كان القرار خاطئًا بشكلٍ مركَّب، وستكون عواقبه -بلا جدال- وخيمة! سيفتح دخول العثمانيِّين في الحرب عدَّة جبهاتٍ جديدة؛ في البلقان، وسيناء، وقناة السويس، وفلسطين، والشام، والحجاز، والعراق، واليمن، والقوقاز، وإيران.
من الجدير بالذكر أن السلطان محمد الخامس لم يُعِلن على الحلفاء حربًا عاديَّة؛ إنما أعلن «الجهاد في سبيل الله»، ودعا بصفته خليفةً للمسلمين أبناء الأمَّة للمشاركة في الحرب ضدَّ بريطانيا وفرنسا[30]. في الواقع لم تكن دعوته مؤثِّرة، لا من قريبٍ ولا من بعيد، بل سنرى أن كثيرًا من المسلمين سيُحاربون إلى جوار الإنجليز ضدَّ الدولة العثمانية، لذا يرى بعضهم أن السلطان محمد الخامس أخطأ باستعمال هذا السلاح؛ سلاح الحثِّ على الجهاد في سبيل الله؛ لأنه في حال عدم الاستجابة إليه تكون النتائج أسوأ من عدم استخدامه أصلًا، والأفضل أن يظلَّ سلاحًا للتهديد المستقبلي للحلفاء[31]، وكان على السلطان محمد الخامس أن يُدرك أن المسلمين في هذه الحقبة لن يشتركوا مع الدولة العثمانية في حرب، خاصَّةً أنها تدخل لمساعدة ألمانيا في حربٍ أوروبِّيَّةٍ صرفة.
👈احتلال الإنجليز للبصرة، وقيام سلطنة مصر، وهزيمة ساريكاميش من الروس (1914-1915):
أزعج دخول الدولة العثمانية الحرب الحلفاء؛ بريطانيا، وفرنسا، وروسيا؛ ليس فقط لإضافة جنودها إلى المعادلة العسكريَّة، ولكن لأنها ستضطرُّهم إلى سحب جانبٍ كبيرٍ من قوَّاتهم بعيدًا عن الساحة الأوروبِّيَّة، وذلك في ميادين الدولة العثمانيَّة الشرقيَّة. كانت بريطانيا هي أكثر الحلفاء تضرُّرًا، لقرب طرق التجارة إلى الهند من الدولة العثمانيَّة. كانت أخطر المناطق هي الخليج العربي، وقناة السويس، لذلك حرصت بريطانيا على تأمين هاتين المنطقتين.
حرَّك الإنجليز أسطولهم إلى الخليج العربي، وقاموا بإنزالٍ بحريٍّ سهل في ميناء الفاو في 6 نوفمبر 1914، دون أن يتعرَّضوا لمقاومةٍ تُذْكَر[32]. اشترك أمير الكويت مبارك الصباح -التابع للدولة العثمانية- في مساعدة القوَّات الإنجليزيَّة، وهاجمت قوَّاته عدَّة مواقع عثمانيَّة؛ في أم قصر، وصفوان، وجزيرة بوبيان، والبصرة، في مقابل اعتراف بريطانيا باستقلال الكويت تحت الرعاية الإنجليزيَّة[33]! في الواقع لم تعطِ الدولة العثمانيَّة أهميَّةً عسكريَّةً كبرى لمنطقة الخليج العربي، كأنها لم تتوقَّع أن يفتح الإنجليز جبهةَ قتالٍ في هذه المنطقة البعيدة عن أوروبا، وكان هذا من أخطائها الجسيمة في الحرب، فكان الجيش العثماني الرابع المسئول عنها هو أضعف جيوشها، وهذا أدَّى إلى سهولة الاقتحام الإنجليزي[34]. في 22 نوفمبر سقطت البصرة في يد الإنجليز[35]، فكانت أولى المدن المهمَّة ضياعًا من العثمانيِّين في هذه الحرب المدمِّرة.
⭕أراد الإنجليز تأمين مصر بشكلٍ أكبر، فلم يكتفوا بدعم الحامية الإنجليزيَّة هناك؛ إنما قاموا بفصل مصر سياسيًّا عن الدولة العثمانية بإعلان «سلطنة مصر». كانت مصر قانونيًّا، وفي عرف الدولة العثمانيَّة والمصريين، تابعةً للعثمانيِّين تحت اسم «الخديويَّة»، ومحتلَّة من الإنجليز، فقامت بريطانيا في 18 ديسمبر 1914 بعزل الخديوي عباس حلمي، ووضعت مكانه حسين كامل -ابن الخديوي الراحل إسماعيل- وأعطته لقب «سلطان»[36]. تقصد بريطانيا بهذه الخطوة إعلان انفصال مصر الرسمي عن الدولة العثمانيَّة، لهذا أعطت حسين كامل لقب «سلطان» ليكون مكافئًا للقب السلطان العثماني، وهو لقبٌ يعني عدم التبعيَّة لأحد. كان الأمر يبدو كأنه أمرٌ نظري، ولكنَّه في الواقع مهم؛ لأن معناه عند الدولة العثمانية هو تمرُّد القيادة المصريَّة عليها، وانفصال الدولة عنها، ولم يعد الأمر مجرَّد احتلالٍ إنجليزيٍّ سيزول عن «الولاية التابعة» في وقتٍ ما. لذلك استجابت الدولة العثمانية في يناير 1915، بعد شهرٍ واحدٍ من إعلان استقلال مصر عنها، بتحريك جيشها في الشام إلى سيناء[37]. اخترق الجيش سيناء، وهاجم التحصينات الإنجليزيَّة على قناة السويس في الفترة من 26 يناير إلى 4 فبراير 1915، ولكنَّه فشل في اقتحامها[38]. للعجب، فإن الجيش المصري قاتل إلى جوار الإنجليز في هذه المعارك، وحقَّق نصرًا على العثمانيِّين عند معبر طوسون على قناة السويس (10 كيلو متر تقريبًا جنوب مدينة الإسماعيلية)، فيما عُرِف في التاريخ بواقعة طوسون[39]! في الواقع لم أفهم كيف قاتل المصريون إلى جوار الجيش الإنجليزي المحتلِّ لأرضهم منذ اثنتين وثلاثين سنة (منذ 1882) ضدَّ الدولة العثمانية المسلمة، ولكن كان هذا هو الواقع المرير الذي تُعانيه الأمَّة الإسلاميَّة! على كلِّ حالٍ كانت هذه بداية تكوين جبهةٍ جديدةٍ للقتال ضدَّ الحلفاء؛ في منطقة قناة السويس، وسيناء، وفلسطين، ستستمر إلى نهاية الحرب في 1918م.
في الوقت نفسه الذي كان الجيش العثماني يُحارب في سيناء كان جيشٌ عثمانيٌّ آخر أعظم، تتفاوت الروايات في تقدير حجمه، ولكنَّه يتراوح بين ثمانين ألفًا ومائةٍ وخمسين ألف مقاتل[40]، تحت قيادة وزير الحربية إسماعيل أنور باشا[41]، يتَّجه إلى شرق الأناضول لحرب الروس في جبهة القوقاز. كان هدف الجيش العثماني استرداد مدينة قارص[42] التي احتلها الروس عام 1878، ثم التوغُّل في چورچيا. اخترق الجيش العثماني أرمينيا في منتصف ديسمبر، والتقى والجيش الروسي عند مدينة ساريكاميش Sarıkamış على بُعد خمسين كيلو مترًا غرب قارص[43]. نُصِح الوزير بمحاولة تجنُّب القتال إلى أن ينقضي وقت الشتاء، لكنَّه أصرَّ على القتال بغية مباغتة الروس، وأحدث هذا الخلاف شقاقًا في الجيش وصل إلى قيام وزير الحربية إسماعيل أنور باشا بعزل قائد الجيش الثالث حسن عزت باشا[44]. دارت معارك شديدة لما يقرب من شهر -في الفترة من 22 ديسمبر 1914 إلى 17 يناير 1915- هُزِم فيها العثمانيُّون هزيمةً كبيرة[45][46]. تختلف المصادر في تحديد عدد الشهداء العثمانيِّين، وإن كانت عدَّة مصادر اجتمعت على أن الرقم وصل إلى تسعين ألفًا[47][48][49][50]! كان البرد الشديد أحد أسباب الموت في هذه المعركة المؤسفة[51]. ذكرت بعض المصادر أن المتبقِّي من الجيش العثماني بعد الموقعة لم يتجاوز اثني عشر ألفًا وخمسمائة مقاتل[52]! يرى بعض المحلِّلين العسكريِّين أن الأداء العسكري للجيش العثماني كان منضبطًا، ولم يكن الطقس معوِّقًا لأدائه، ولكن لم تكن خطة أنور باشا محكمة، كما لم يكن التواصل بين الوحدات جيِّدًا[53]، ولعلَّ هذا العامل الأخير كان بسبب الخلافات المحتدمة بين القادة على توقيت القتال، وبسبب غضب كثيرٍ من القادة نتيجة عزل حسن عزت باشا قُبيل المعارك[54]. جعل إسماعيل أنور باشا سبب الهزيمة هو أن الأرمن التابعين للدولة العثمانيَّة وقفوا إلى جوار الروس، وكشفوا تحرُّكات الجيش العثماني[55]، بينما تذكر المصادر الأرمينيَّة أن هؤلاء الأرمن المشاركين للروس في المعركة كانوا من الذين يعيشون في روسيا وليسوا أتباعًا للدولة العثمانية[56]. على كلِّ حالٍ كانت هذه الموقعة سببًا في حرص العثمانيِّين على سكون هذه الجبهة إلى آخر الحرب، حيث يذكر أحد الضباط الألمان المشاركين في هذه الموقعة إلى جوار العثمانيِّين أن الجيش الثالث العثماني تعرَّض في هذه الحرب لكارثةٍ عسكريَّةٍ غير مسبوقةٍ في التاريخ العسكري من ناحية السرعة والاكتمال[57]! و-أيضًا- ستكون هذه الموقعة سببًا مباشرًا لعمليَّة ترحيل الأرمن من شرق الأناضول في صيف 1915، !!!!!