تحت جسر
Amesterdam
أمينة زريق
( جملة ذرّاته، شاهدة على ذاته )
محمد الهادي الجزيري
من منّا لم يفكّر فيما فكّر فيه عامر ( الشخصيّة الرئيسة للرواية )، أن يترك كلّ شيء وأن يهجر روحه إن جاز القول ..ويعيش لفترة ثلاثين يوما متسوّلا في امستردام ..؟ أو أيّ بقعة من الأرض؟ فكلّ شيء من حولنا يوحي بزلزال خفيّ وظاهر في الآن نفسه..، زلزال يهدّد كلّ الحضارة ..بل الإنسان في حدّ ذاته…، ولا تخفى رمزية القصة التي ذكرها فريد الدين العطّار في كتابه ” منطق الطير ” والهدهد الذي تهجره كلّ الطيور إلاّ ثلاثون طائرا تظلّ معه وتؤمن به دليلا ..، فالثلاثون حوّلتها أمينة زريق إلى أيام بدل الطيور ،
وهذه الصرخة المتلبّسة برواية :
( تحت جسر
(Amesterdam
وردت في سياقها التاريخي ..، صدرت عن ذات تونسية تتقاسم كلّ أشياء العالم مع أيّ مواطن فوق هذا الكوكب الضاجّ بأحزانه وآلامه..، وعبّرت عن حيرة ما تبقّى من إنسانية وروحانية لدى هذا المخلوق المشتّت الطافح بالأسئلة حول مصيره ومآله ..، نحن أمام رواية تتحدّث باسمنا وتغوص عميقا فينا ..في الإنساني فينا ..، وفي رغبتنا الملحّة للتصوّف والحلول في الله ..، ولا شكّ لكلّ قارئ نبيه ..أن ينتبه إلى العدد الوفير الذي لجأت إليه أمينة من شواهد ومقاطع وأبيات شعرية لأفذاذ الصوفية وكبار شعراء العشق الإلهيّ..، لكي يفهم أنّ هذه الرواية ..لم تأت من نزوة مثلا ..بل عن دراية تامّة ومعرفة كبيرة، ومعاناة بالغة وكدّ وجهد يذكران فيُشكران …
القصّة أو العمود الفقري للرواية ..، تقول إنّ الدكتور عامر قرّر التخلّي عن المنصب والجاه والكبرياء ..ليتسوّل تحت جسر أمستردام ..كطريقة واحدة لطرح العالم ومباهجه ومناصبه ورواتبه التصاعدية وكلّ إحساس بالدونية والتفوّق ..، واختار شيئا آخر لا يقلّ أهمية ألا وهو تغيير ثلاثين طائرا بثلاثين يوما ..ليخلو بذاته ويفرض عليها التسوّل ..كوسيلة لكسر النفس وترويضها وكسبها في نهاية التجربة ….
ولعلّي أحتاج استنتاج الدكتور عبد المنعم شيخة مقدّم الرواية ..لأدلي بدلوي وأدخل هذا العمل السرديّ القيّم ..، فقد نجح مند السطور الأولى في تعرية المتن الصوفيّ الطافح من كلّ فقرات الرواية ..، إذ يقول :
” ..لعلّ يقين المؤلفة أمينة زريق نابع أساسا من أنّ الإنسان الذي هو فينا، لن تُزال عن جوهره طبقات الصدأ التي تعلوه، وتميّز ماديته إلاّ إذا بدأ في التخلّي عن كلّ ما يتشبّث به عادة،من معالم ومباهج وأدوات،ولن تظهر الروح التّي بها يكون الإنسان إنسانا إلاّ إذا تخفّف، ومضى إلى حيث النور، هذه فكرة الرواية الأساسية، وهي في معناها الأساسي فكرة فريد الدين العطّار الذي يتكرّر ذكره، وذكر نتف من أعماله في هذه الرواية ”
ثمّة مفاتيح للرواية ..يلاحظها من حين إلى آخر قارئ مهموم مثلي بالوطن والإنسان ، منها هذه المقارنة لصمود البياض على حاله في مدن الشمال..، وتحوّله إلى ما يشبه لون الغبار في هذه المفازة الواسعة التي تنبئ بانقراض الكائن المخلوق الرائع ..واستبداله برقم أو أيّ شيء ..، وذاك حال الأمم التي لا تكرّم ما خلق الله ..، فالله نور ولا ينمحي أبدا ..، أمّا أشياؤه فيمكن أن تمحى أو يشحب لونها مثلما يحدث في مواقع عديدة من هذا العالم :
” في الكيس حذاء وحيد مهترئ، حذاء رياضيّ أبيض ، من تلك الأحذية التي تصنع من قماش والمطّاط، يتغيّر لونها الأبيض بسرعة في بلادي، لكنّه هنا في الشمال يحافظ على لونه، بل إنّ الألوان كلّها تتخذّ صفاءها الحقيقي بينما يأكلها الغبار في بلدي، فتبلى وربّما تميل إلى لون بلا لون …”
هاجس أمينة زريق واضح وجليّ وإن احتمت بغابة اللغة وبأدغالها الكثيفة..، وهي لا تخفي شيئا من وعيها الحرج الجسيم.. بأنّ المسمّى ” إنسان ” خطر بالغ أتى على كلّ شيء ..وسيأتي عليه نهمه وجشعه ، وإن كانت تختفي خلف الشخصية الرئيسة للرواية ، الدكتور المتسوّل تحت جسر أمستردام ..، ففي كلّ فقرة من الرواية يطفح خوفها على الإنسانية من نهايتها المحتومة للأسف الشديد ..، وذاك جزاء الأنا المتضخمة والانفراد بالرأي وأشياء أخرى يطول شرحها :
” أرْجلٌ هنا وهناك تذرع حيرتها جيئة وذهابا بينما أضمّ أنا رجليّ إلى صدري وأضمّ صدري إلى خجلي وأضمّ خجلي إلى خجل المشاة جميعهم، فأنا إذ أقرفص في هذا المكان، فيقرفص معي العالم بأسره، أتسبّب في حرج للبشر منذ آدم إلى آخر إنسان سيغادر هذا الكوكب ويطوي صفحة هذا الجنس الذي سمّوه جنسا بشريّا ثمّ تبيّن لهم أنّه جرح سقيم في هذا الوجود ”
نحن بصدد قراءة متن سرديّ.. لا يلهو بالكلمات ولا يرصّفها لكي يُلقّب الفاعل بالكاتب الفذّ والمبدع الاستثنائي ..، بل ينفجر من حين إلى آخر ..ليصّحح أخطاء وموبقات أبطالها منّا ويعيشون حولنا ..، إنّ مسألة التديّن المبالغ فيه ..أضرّت بالدين نفسه ..وأوغلت به في متاهة لا مخرج منها ..، وحرمتنا من المحبة والصفاء والرحمة وما شابه ذلك من خصال معروف بها الدين السمح ..، لذلك يمكن القول إنّ الكاتبة تكتب بكامل ذاتها وتخدش بأظافرها حين يلزم الأمر :
” نحن الذين صنعنا من الدين سجنا بأسوار عالية ومنعنا تسرّب النور إلى دين نورانيّ، فصنعنا من التدّين ما قتلنا به الدين ..”
حيلة التلّبس بالشخصية الرئيسة للرواية ..انتهجتها أمينة زريق ..، فلم تترك وجعا يؤلمها إلاّ وكلّفت البطل بالخوض فيه..، وما أدراك ما فلسطين وجراحاتها المفتوحة ..، وها إنّ السرد يتوجّه إليها ..إلى خيامها ومستشفياتها المستهدفة من الصهاينة وجرحاها والشهداء الذين نخطأ في عدّهم ( إلى حدّ الساعة )، نتوغل مع عامر في رحلته كطبيب وصحفيّ ونقاسمه الفجيعة والذهول ..، فيّقص علينا معاناته ..وقصة وقوعه ي الحبّ ..، نعم لا حياة بلا حبّ حتّى في أقسى الحالات التي يعيشها ( تنتفي الحياة دون حبّ )..، نستمع إليه وهو يبوح :
” حين وصلنا إلى الضفّة الأخرى، أحكمت قبضتها على كفيّ وهمست في أذني:
ـ قل لي إنّك ستبحث عنّي، وإنّنا سنلتقي لنكمل المشوار معا.
وغمرت الدموع عينيها لتشهق روحي وتنتحب في صمت.
سنلتقي ونكمل مشوارنا معا كو






