لمسرح الطفل دور بارز في تنمية القدرات الإدراكية والمعرفية لدى جمهوره ، خلال لغاته المتنوعة ، التي تتوجه للمتلقي بصورة ترضي فروقة الفردية ، حيث تتنوع تلك الفروق وفق الأنماط المكونة لهذا الجمهور ، فمنهم من هو سماعي ومنهم من هو بصري أو منطقي رياضي أو حركي و كذلك الشخصي و الاجتماعي وغيرها من الأنماط المختلفة ، تلك الأنماط التي نظر لها جاردنر في نظريته للذكائات المتعددة التي تعني ،
” نموذج معرفي يبين كيف يستطيع الإنسان أن يستخدم ذكاءاته المتعددة لحل المشكلات بطرق مختلفة، ويركّز على العمليات التي يقوم بها عقل الإنسان في عملية تناوله لمحتوى الموقف حتى يصل إلى الحل المطلوب” حيث أكد جاردنر وجود ثمانية ذكائات يتمتع بها الفرد تتفاوت في قدراتها قوة أو ضعفا ، إلا أن توليفة هذه الذكاءات تعمل مجتمعة لتمكين الفرد ، من التفاعل والتلقي بهدف النمو المعرفي والإدراكي ، وفق نوع الذكاء الأكثر وضوحا لدى الفرد .
من هذا المنطلق تكمن أهمية توظيف لغات خشبة المسرح ودورها الجوهري في توصيل الرسالة المستهدفة ، لتبني قضية تقبل الآخر وعدم الصراع أو التنمر ، خاصة إذا كان ينتمي لفئة مختلفة ، وذلك خلال تقديم موضوعات تخدم قضية دمج ذوي الاحتياجات الخاصة ، وأهمية غرس الوعي لدى الأطفال بماهيتهم وسبل تقبلهم تقبلهم وعدم التنمر ضدهم والعمل على معاونتهم ، وإدراك قدراتهم الإبداعية التي قد تفوق قدرات الأطفال غير المعاقين ، فالطفل المعاق انسان يحتاج العناية والرعاية وتحقيق العدالة الاجتماعية والتربوية والنفسية والمادية كغيره من الأطفال ، ولا يجب النظر له بعين الشفقة وإنما يجب أن تكون النظرة إيجابية من كل مؤسسات المجتمع العامة والخاصة بهدف تطوير قدراته ليتمكن من نيل حياة كريمة وفق قدراته وامكانية استجابته لتطويرها .
فللمسرح دور بارز في تبني أي قضية ، ولديه القدرة على توصيل الرساله بصورة إيجابية وذلك خلال التنوع الفني والتقني للغاته التي ترضي الفروق الفردية لدى جمهوره خاصة من الأطفال .
تلك اللغات تتنوع بين السمعي و البصري ، فالملابس والديكور والمكياج والمناظر ، التي يميل لها أصحاب الذكاء البصري الفراغي أو أصحاب الذكاء الطبيعي ، والتشكيلات الفنية المبنية على حركة جسد الممثل التي تستهوي أصحاب الذكاء الحركي الجسدي ، ولا غنى عن الموسيقى والمؤثرات في أثناء الحدث المسرحي والتي تثير اهتمام أصحاب الذكاء الموسيقي ، وقضية النص تحتوي على صراع بين عدد من الأشخاص الذين يجتمعون فيما بينهم خلال التفاعل السلبي أو الإيجابي بصورة تعبر عن أصحاب الذكاء الاجتماعي ، وقد يتفرد شخص ما بأزمته الخاصة خلال الأحداث باعتباره نموذجا لأصحاب الذكاء الشخصي ، فالنص بمفرداته وعباراته وكلماته وأشعاره هو لغة لفظية ، يميل لتكويناتها أصحاب الذكاء اللغوي ، فضلا عن ذلك فللنص قضية أو أزمة لها مكونات وأبعاد تتطلب حلا لإشكاليتها ، وعادة مايبحث عن تفنيد تشابكها أصحاب الذكاء المنطقي الرياضي .
هذا التداخل الواضح بين أنواع الذكاءات المتعددة ولغات خشبة المسرح ، يحتم على القائمين على مسرح الطفل الوعي بالفروق الفردية بين جمهورة ، وإدراك أهمية التوجه للطفل بنوع من التنوع السمعي والبصري بالصورة ، التي تحقق له التشويق والفرجة والإدراك الواعي للهدف المعرفي أو السلوكي المنشود خلال اللعبة المسرحية .
فعرض انت الأشطر([1]) عرض توعوي في قالب مشوق ، يتبنى غرس قيمة تقبل الآخر فضلا عن التوعية بقضية الدمج ، الأمر الذي يتطلب من الرؤية الإخراجية توظيف تقنية تتناسب مع الهدف الإرتقائي من قضية النص فضلا عن الفئة العمرية المستهدفة ( جمهور الطفل ) ، حيث التوجه لها بتقنية تثير انتباهها ودهشتها وتعمل كمثير لتوليفة الذكاءات المتنوعة على مستوى القدرة الإدراكية فضلا عن النمط الخاص بكل طفل .
تدور الأحداث داخل فصل دراسي به عدد من التلاميذ في المراحل المبكرة ، تعلن المعلمة انضمام تلميذ جديد للفصل إلا أنه مختلف عن أقرانه ، وتطلب من التلاميذ الترحيب به واحتوائه وعدم إزعاجه ، يدخل الطفل مروان ( طفل من أصحاب الإعاقة الحركية ) يجلس على كرسي متحرك ، الأمر الذي يثير التلاميذ ويبدأ كل منهم يعبر عن شعوره ، فنجد منهم الرافض لوجود مروان ، ومنهم المتنمر ومنهم المشمئز ، وعلى الجانب الآخر نجد عدد من الأطفال يرحب بمروان ، ويعده بصداقة دائمة وقضاء أجمل الأوقات.
تعلن المعلمة عن مسابقة كبيرة لأجمل صوت على مستوى المدرسة ، وتؤكد أن الفائز بهذه المسابقة سيمنح فصله كأس أحسن فصل، فضلا عن قيام رحلة ترفيهية للفصل الفائز.
يبدأ الأطفال تسجيل أسمائهم للمشاركه ومنهم مروان ، الذي تعجب من أمره أقرانه المتنمرين .
ويأتي يوم المسابقة ويتقدم المتسابقون وتعلن النتيجه بفوز مروان وفصله بالكأس والرحلة ، وهنا يدرك المتنمرون أن مروان رغم اعاقته الا انه الاشطر والافضل فيعتذرون له ويقدرونه ، وبذلك يتحقق الهدف السلوكي والاخلاقي والمعرفي وينتهي العرض بأغنية تتبنى تقبل الآخر .
ولتيسير انتشار الفكرة وبساطة التنفيذ ، تم اختيار تقنية مسرح العرائس الورقية ، لجمال أشكالها التي تثير انتباه الطفل ، فضلا عن بساطة تنفيذها بالصورة التي تمكن الطفل من المشاركة في مراحل اللعبة المسرحية ، الأمر الذي يعمل على علاقة خاصة بين الطفل والدمية مبنية على الصدق الفني ، فالدمية هي وسيلته التي سينقل خلالها موضوعا أو حكاية ، وهي القناع أو الستار الذي سيتخفى خلفه مانحا له فرصة للبوح بأمور ، قد يصعب البوح بها بالصورة التقليدية خاصة في مراحل الطفولة المبكرة .
كما تتمتع الدمى بشكل عام بحب الطفل وشغفه دون أن تجعله ينخرط في حالة من المعايشة الإيهامية ، وإنما تخلق جوا من الغرائبية والتغريب ، الذي يساعد الطفل على استنباط كوامن الحدث المسرحي ، محققا نموا معرفيا وارتقائيا ، دون التخلي عن المتعة الفرجوية خلال زمن العرض .
وقد تمكن العرض المسرحي بتقنياته البسيطة من تحقيق الهدف المعرفي والتوعوي المنشود ، وفق ذكاءات جمهور الطفل وذلك على النحو الآتي :
- لعبت الدمية الورقية دورا بارزا في طرح قضية النص بالصورة التي تتناسب مع جمهور الطفل وفق فروقه الفردية ، فالدمية باعتبارها دلالة بصرية ذات بعد واحد ، أثارت انتباه جمهور الطفل لما تتمتع به من بساطة في الشكل ووضوح في الملامح الخاصة بالشخصيات ، فضلا عن ذلك ما تتمتع به الصور من قدرة على جذب الانتباه وتوصيل المعلومة بشكل أفضل من الكلمات .
- أصحاب الذكاء البصري الفراغي أو الطبيعي تعتبر الدمية الورقية بالنسبة لهم مثير لملكات الخيال ، حيث استدعاء صور ذهنية مختزنة لدى الطفل في واقعه المعيش ، وتخيل وجودها بديلا عن الدمية الأمر الذي يمنح قضية النص عمقا ، حيث اكساب الدمى أهمية أكبر من كونها دمى ، خلال تحويلها إلى رموز تشير وتعبر عن شخصيات في الواقع تتصف بصفات شخصيات الحدث المسرحي .
- هذه الشخصيات في تفاعلاتها بين بعضها البعض سلبا أو إيجابا ، تخلق نوعا من العلاقا الإجتماعية بإيجابياتها وسلبياتها ، بالصورة التي تثير انتباه أصحاب الذكاء الاجتماعي والذاتي ، فهذه العلاقات تعبر عن طبيعة الشخصيات ، فمنها من يسيطر ويقود ومنها من يحتفظ بوجهة نظره الذاتية ، هذه العلاقات التي تتولد خلال الأحداث ، تخلق خط درامي يربط بين الحدث المسرحي والمتلقي ، خلال زمن العرض يتبنى الحدث المسرحي قضية لها أبعادها الخاصة ، التي يتم طرحها خلال الأحداث تتضمن قيما وسلوكيات ، لها مرجعيتها السلبية أو الإيجابية الأمر الذي يثير انتباه أصحاب الذكاء المنطقي الرياضي ، يبحثون ويستكشفون الأسباب الكامنه خلف كل فعل ورد فعل ، وصولا الى النهاية المبنية على تحول الاتجاهات تحولا ايجابيا منطقيا ، خلال سير الأحداث مدركين المبرر لذلك .
- يعرض العرض موضوع أو فكرة ، خلال عدد من الجمل والكلمات المحملة بقضيته ، وهو مايثير انتباه أصحاب الذكاء اللغوي فالكلمات والجمل بالنسبة لهم رسائل معرفية يتبنونها بالتحليل والتعليل بصورة تثير متعتهم وتجذب انتباههم .
- لم يتخلى العرض عن تقديم أغنية ، تتبنى معاني تقبل الآخر مع اهتزازات ورقصات الدمى ، فضلا عن قيام بعض الأطفال بحركات استعراضية وتشكيلات فنية راقصة في ختام العرض المسرحي ، هذا الختام الفني جدد الطاقة لدى جمهور الطفل ، وأثار انتباه وشغف أصحاب الذكاء الموسيقي والحركي ، الذين أدركوا مضمون الأغنية الذي يتناغم مع مضمون الحدث المسرحي ، والتشكيلات الفنية أثارت فضول أصحاب الذكاء الحركي .
جائت الإضائة (إنارة كاملة ) تستهدف كشف عناصر اللعبة المسرحية ، بهدف جذب الانتباه للقضية التي يتبناها العرض ، دون خلق حالة من الإيهام مثل التعاطف مع الطفل مروان ، وإنما خلق موقف إيجابي تجاه مروان ومن هم على شاكلته ، وتحول حالة التنمر أو الشفقه إلى نوع من التقدير لقدراته التي قد لا يمتلكها أقرانه وبذلك تمكن العرض خلال لغاته البصرية والسمعية ، تقديم عملا فنيا متناغما متنوعا يرضي كافة الفروق الفردية / الذكاءات لدى جمهور الطفل ، بهدف تحقيق أعلى قدر من الارتقاء المعرفي والسلوكي والتوعوي خلال زمن العرض .
مما سبق نوجز نقاط هامة يجب أن تأخذ في الاعتبار من القائمين على مسرح الطفل :
- للطفولة فلسفتها الخاصة الباحثة عن المعرفة، خلال اعتمادها على توظيف ذكاءاتها المتنوعة المتفاوتة والمختلفة في القدرة بالصورة ،التي تمكنها من تحقيق الهدف المعرفي وفق النمط الذي تنتمي إليه.
- أكد جاردنر وجود ذكاءات ثمانية لدى الطفل ، يتحتم على القائمين على مسرح الطفل إدراكها والعناية بها خلال توظيف لغات خشبة المسرح بالصورة التي تثير انتباهه ، بهدف تحقيق التلقي بالشكل الأمثل خلال زمن العرض .
- المسرح فن شامل يمتلك من اللغات السمعية والمرئية ، ما يحقق التنوع والإبهار في توصيل الرسالة ، التي يتبناها النص بالشكل المناسب لمراحل الطفولة وخاصة المبكرة منها .
- يعتبر مسرح الدمى الورقي من أبسط وأنسب التقنيات المسرحية ،التي يمكن توظيفها لتوصيل رسالة النص المسرحي لجمهور الطفل ، لما يتميز به من بساطة التنفيذ سواء في تنفيذ الدمية أو الخطوات الإجرائية لتجسيد الرؤية الإخراجية .
- تعد مشاركة الطفل في مراحل تنفيذ العرض المسرحي ، من أفضل الطرق لدعم المهارات الفنية والمعرفية ، التي يكتسبها الطفل خلال ممارسة التجربة المسرحية .
- على القائمين على مسرح الطفل الوعي الكامل بقدرات الطفل الإدراكية (ذكاءاته) والعمل على تنوع الأساليب التقنية في عملية التوجه للطفل ، في أثناء تجسيد رسالة النص خلال زمن العرض المسرحي .
([1])تأليف وإخراج شيرين الجلاب
Discussion about this post