قرّرتْ يوماً سمكةُ سَلْمُون أن تعودَ إلى بلادِها البعيدةِ، فلوتْ رأسَها، وحدّقتْ بعينين دامعتين إلى الخلفِ، فلم ترَ إلاّ نهراً دافقاً، يهدرُ ماؤه كالرّيحِ في ليلةٍ عاصفةٍ، فيملأُ القلبَ هَلَعاً وخوفاً.
أسرّتِ السّمكةُ ما عزمتْ عليه، وراحتْ تتحيّنُ الفرصةَ للعودةِ، ولكنّ النّهر لم يسكنْ، ولم يهدأْ. انتظرتْ يوماً، ثمّ انتظرتْ أسبوعاً فشهراً، والنّهرُ يتدفّقُ غزيراً، ويوغلُ في السّهولِ والوديانِ، فتبتعدُ السّمكةُ عن بلادِها أكثرَ فأكثرَ.
ضاقتْ السّمكةُ بالنّهرِ ذَرْعا)، فسألتْه بحَنَقٍ وغضبٍ:
-“إلى أين، أيّها النّهرُ؟”.
أجابَ النّهرُ بصوتٍ هادرٍ كالعاصفةِ: -“هناك حقولٌ وبساتينُ عطشى، تنتظرني منذ زمنٍ بعيدٍ”.
قالتْ سمكةُ السَّلْمُونِ: -“أريدُ أن أعودَ إلى بلادي حالاً”.
قالَ النّهرُ، وهو يضحكُ:
-“سيجرُفُكِ التيّارُ إلى أمامٍ، ولن تقدري على الرّجوعِ خطوةً أو خطوتين إلى الوراءِ”.
قالتْ السّمكةُ في أسى وحزنٍ:
-“اِهدأ قليلاً، أيّها النّهرُ الودودُ، وحاولْ أن تساعدَني مثلما تساعدُ أهلَ القرى، أينما سرتَ، وكيفما اتجهتَ”.
قال النّهرُ:
-“طريقُنا طويلةٌ، والثّلوجُ على رؤوسِ الجبالَ كثيفةٌ، تذوبُ أيّامَ الرّبيعِ، فيفيضُ الماءُ، ويتدفقُ هادراً. أيّتها السّمكةُ الطّيبةُ، سنمضي حيثُ تتشقّقُ الأرضُ عطشاً، ويتضوّرُ النّاسُ جوعاً، ونحن خيرٌ وحياةٌ للأرضِ وللنّاسِ. قدرُنا واحدٌ، وهو أن نسيرَ معاً إلى أمامٍ حتّى النّهايةِ، فلا نلتفتُ إلى الوراءِ أبداً”.
بكتْ يومئذٍ السّمكةُ، بكتْ حتّى فاضَ النّهرُ، وكاد أن يُغرقَ القرى، ولكنّها ذاتَ صباحٍ أحسّتْ أنّ النّهرَ قد ضَحَلَ ماؤه وقلَّ، فعزمتْ على العودةِ إلى بلادِها، والبلادُ خلفَها تنأى، وتبتعدُ، فلا يبقى منها إلاّ حُلُمٌ وذكرى.
تقاوتْ سمكةُ السَّلْمُونِ، وارتدّتْ إلى الوراءِ، وراحتْ تسبحُ عكسَ التيّار بسرعةٍ، والتيّارُ يصدّها مرّةً، ويرأفُ بها مرّةً أخرى، حتّى قطعتْ سهولاً، واجتازتْ أوديةً.. وفي طريقِها الطّويلةِ صادفت السّمكةُ جبلاً شاهقاً، لا يَطولُ ذِروتَه أحدٌ، فتوقّفتْ عن السّباحةِ، وأخذتْ تفكّرُ كيف تخرجُ من هذا المأزقِ الخطيرِ؟ والجبلُ يعلو، ويعلو أمام عينيها، حتّى يصلَ عَنانَ السّماءِ، فيتلاشى حُلُمُ العودةِ، وينأى الوطن بعيداً. فجأةً حطَّ طائرُ غُرْنوقٍ على ضفّةِ النّهرِ، ليشربَ من مائِه العذبِ، فلمحَ سمكةَ السَّلْمُونِ مكتئبةً حزينةً، شَحَبَ وجهها واسودَّ، وهَزَلَ جسمها ونَحَلَ، فسألها:
-“ما بكِ، أيّتها السّمكةُ؟ أراكِ شاحبةً هزيلةً!”.
أجابت السّمكةُ، والحزنُ يعتصِرُ قلبَها:
-“أريدُ أن أعودَ إلى بلادي، وهذا الجبلُ-كما ترى- يقفُ كالجدار في وجهي، فلا أستطيعُ أن أجتازَه”.
ضحكَ طائرُ الغُرْنوقِ، وأخذَ يضربُ بجناحيه سعيداً، وقال:
-“أنا سأحملُكِ إلى الطّرفِ الآخرِ من النّهرِ خلفَ الجبلِ”.
سألته السّمكةُ بلهفةٍ وتعجّبٍ:
-“أحقّاً تستطيعُ، أيّها الطّائرُ؟! أخشى أن تستغرقَ وقتاً طويلاً، فأختنقَ، وأنا خارجَ الماءِ”.
قال الغُرْنوقُ في عزيمةٍ وإصرارِ:
-“ستكونين على الطّرفِ الآخرِ من النّهرِ في غمضةِ عينٍ. إنّها مجرّدُ ثوانٍ، لا أكثرَ ولا أقلّ..”.
قبض الغُرْنوقُ بقدميه على سمكةِ السَّلْمُونِ، وطارَ بها بعيداً، حتّى اعتلى قمّةَ الجبلِ، ثم هوى على النّهرِ سريعاً، وألقى السّمكةَ في الماءِ برفقٍ، وهي تلهثُ، وتتلوّى، ولمّا استردّتْ أنفاسَها شكرتْ لطائرِ الغُرْنوقِ معروفَه الجميلَ، ومضتْ في طريقها الطّويلةِ، تسبحُ عكسَ التيّار، وتحثُّ الخطى نحو المجهولِ.
Discussion about this post