قبل أنْ تبدأَ القراءةُ:
[لم أبكِ عندما رأيتُ ذلك الحلم، لكنِّي بكيتُ عندما كتبتُهُ.. رُبَّما لأنَّه – وهذا طبيعيٌّ في علمِ النَّفسِ، وهو رحمةٌ مِن اللهِ تعالى أيضًا – أنَّنا في الأوقات والأحوال التي ندرِكَ فيها أنَّنا أمام أمنياتِ المستحيلِ، وتُغرِقُنا أحزانُ الفَقْدِ؛ لا ندركُ كاملَ أبعادِ الصُّورةِ، ولكِنَّا ندركها بعدَ أنْ نكون قد أصبحنا مُستعدِّينَ لِذَلِكَ..
يعلمُ القُرَّاءُ الأفاضل أنَّني لا أكتبُ إلَّا صِدقًا، وكُلَّ ما أكتُبُهُ مِن أحداثٍ وحوادثَ، وأعبِّر عنه من مشاعر؛ إنَّما هو حصيلةُ تجاربٍ أمُرُّ بها بالفعلِ، ويعلمُ اللهُ تعالى أنِّي صادقٌ فيما أقولُ وأَكتُبُ..
وهذه القصَّةَ تتضمَّن تجربةً فريدةً مررتُ بها فجر أمس الخميس. قد تكون تعبيرًا عن حالةٍ نفسيةٍ ما عندي. أو هي بالتأكيد كذلك.. أنا في هذه الأيام الثقيلة الوطء، أفتقدُ الرَّاحلينَ كثيرًا، الأحياءَ منهم ومَن ماتوا.. فتاةَ المَدرَسةِ أطالَ اللهُ تعالى عمرها.. أُمِّي وجَدَّتي وخالي الكبير، رحمهم اللهُ تعالى جميعًا، وأمرٌ طبيعيٌّ أنْ نرى مَن نشتاقُ إليهم وأماكِنَنَا القديمةَ في مَنامِنا.. لكنَّ الغريبَ في الأمر، أنْ يأتيَ ذلك على الصُّورةِ التي أحكي لكم عنها..
ولا أخفيكم سرًّا أنَّني قد أكونُ قد فَهِمْتُ بعض ما رأيته خلالها، ولكنِّي لم أفهمْ البعضَ الآخر.. لا أعرف ماذا أقولُ، ولكنَّ كُلَّ ما أستطيعُ قولَه الآن هو أنَّني لم اكتبْ في هذه القِصَّةِ، ولو حرفًا واحدًا لم يحدث، ولا يوجد فيها أيُّ شكلٍ مِن أشكالِ التَّأليفِ أو مُحسِّناتِ الكتابةِ القَصَصِيَّة.. المهم. لن أُطيلَ أكثر مِن هذا قبلَ البَدء، فقط أتمنى أنْ تُعجِبَكُم، ولا تبخلوا عليَّ بالرَّأيِ والنَّصيحةِ]
*.*.*.*.*
بادئةٌ:
“.. وأجملُ ما في الأحلام، أنَّكَ ترى فيها مَن رَحَلُوا، وتسيرُ فيها في ذاتِ أماكِنَكَ القَديمةِ التي ضاعتْ مِنْكَ للأبدِ”..
*.*.*
كانَ الوقتُ بين السَّحَرِ والفَجرِ؛ ذَلِكَ الوقتُ المُقَدَّسُ الذي تصفو فيه الأرواحُ، ويتحوَّلُ فيه الكَونُ إلى مرآةٍ للنَّفسِ؛ لا يمكن معها أنْ يكذِبَ الإنسانُ، أو أنْ تخونَهُ مشاعِرُه، عندما زارَهُ ذَلِكَ الحُلْمُ.. أم لعلَّها كانَتْ رُؤيا؛ حيث كانَتْ المَشاهِدُ شديدةَ الوضوحِ والانتظامِ بما لا يمكنُ معه أنْ يكونَ الأمرُ مجرَّدَ أضغاثِ أحلامٍ؛ نَنْساها عندما نَستفيقُ!
كانَ يقرأ كعادتِهِ في مثل هذا التوقيت، عندما يخلو العالَمُ من قطعان الرِّعاعِ والسُّوقَةِ؛ حيث لا يليقُ بهم حضورُ هذا الوقتِ المُقدَّسِ، فيهدأَ الشَّارعُ الذي يَسْكُنُ فيه.. عندها يبدأ يومُه الحقيقيُّ؛ فيُعِدَّ فنجانَ قهوتِهِ، ويجلس لكي يقرأ..
لكنَّهُ كانَ مُتْعَبَا هذه الَّليلةِ.. في الواقع، هو متعبٌ منذ فترةٍ ليست بالقليلةِ.. فتثاقل جَفناهُ، وتَرَكَ الكِتَابَ الذي كانَ يقرأ فيه، ثم أخذته في تلك اللحظات سِنَةٌ مِن نَومٍ.. ومن دونِ مقدماتٍ وَجَد نفسه في مكانٍ وزمانٍ آخرَيْنِ.. وطَفِقَ يحلُمُ..
…..
…..
كانَتْ البدايةُ في شارعٍ مظلمٍ لا يُضيئُهُ إلَّا مصباحٌ صغيرٌ لا يمتد نورَه كثيرًا.. فقط كانَ يُضيءُ بقعةً صغيرةً مِن الطَّريقِ والرَّصيفِ الذي كانَ يقفُ إليه.. ثم رآها.. كانَتْ نُقطةُ البَدءِ لهذا المشهدِ غامضةً بالنسبةِ لهُ.. لا يدري كيف بدأ هذا الموقفُ، ولا كيف وَقَفَا سويَّةً تِلكَ الوقفةَ.. كل ما يذكرُه في الواقِعِ، هو مشهدٌ افتتاحيٌّ مُبْهَمٌ لنُقطَةِ ختامٍ للقاءٍ مع الرِّفاقِ القُدامى، في قاعةِ فندقٍ أو ما شابَه، ثم تفرَّق الجمعُ، ووجدَ نفسه في الشَّارعِ شِبْهِ المُظْلِم، ولمَحَهَا هناك.. كانَتْ تَقِفُ وحيدةً..
كانَتْ رقيقةً بهيَّةً كما هي دائمًا.. كانَ المشهدُ يحملُ كذلك بضعَ قطراتٍ مِن المَطَرِ الخفيفِ الذي كانَ يَهطُلُ فتنعكسَ عليه أضواءُ الشَّارعِ، وضوءُ القمرِ البعيدِ الشاحِبُ، فتبدو كحبَّاتٍ مِن السُّكَّرِ تتناثرُ على أسفلتِ الطَّريقِ والرَّصيفِ الذي كَانَا يقفان عليه..
وأبهى ما كانَ فيها، هو أنَّها عادت فتاةَ المَدرَسةِ التي أحبَّها قديمًا.. ذاتَ الزِّيِّ الكُحليِّ الذي كانَ لونَ الزِّيَّ الرَّسميَّ للمرحلة الثانويَّةِ في مدرستِهِ القديمةِ، لكنَّها لم تكُنْ ترتديه كما يقولُ النَّصُّ المدرسيُّ..
لا يزال يذكرُ كُلَّ شيءٍ عنها قديمًا.. كأنَّها صورٌ بالأمسِ.. كانَتْ ترتدي “چيليه” خاصًّا بها، وليس ذلك الخاصَّ بالمَدرَسةِ؛ الذي كانوا يوزعونه ضمن الزِّيِّ المَدرَسيِّ على الطَّلَبَةِ قَبْل بَدءِ العامِ الدراسيِّ، وكانَتْ كذلكَ، لا ترتدي ذلك القميص الأبيضَ التَّقليديَّ الذي كانَ الرِّفاقُ وقتها يرتدونه، بل كانَ لديها قميصٌ أبيضُ اللوَّن، زاهي البياضِ، وأكثرُ أناقةً؛ حيث كانَتْ به بعض الزَّخارفُ البيضاءُ الأنصَعَ، المغزولةُ من مادَّةٍ أقرب للحَريرِ، وتأخذُ صورَ زهورٍ وفراشاتٍ تحيطُ بِصَفَّيْ الأزرارِ والعُرواتِ فيه..
كانَتْ هي تلك التي تقفُ الآن أمامه.. هي التي رآها منذ أكثر مِن ثلاثين عامًا.. منذ واحدٍ وثلاثين عامًا بالتَّحديد.. حتى طريقةَ حَمْلِهَا لحافظةِ الأوراقِ والكتبِ خاصَّتها.. كانَتْ تحتضنه بكِلتَا ذراعَيْها..
في الواقعِ، كانَ يحفظُ تفاصيلها عن ظَهْرِ قلبٍ.. يذكرُ كيف كانَتْ تتكلَّم.. كيف كانَتْ تضحكُ.. علائمَ الخجلِ عندما تبدو على وَجهِها إذا ما قال لها كلمةً ما بجوار بابِ الفَصْلِ يختلِسُهَا مِن حُرَّاسِ الشَّوارعِ وقتَها.. كيف كانَتْ تمشي في شارع “خلوصي” المقابِلَ لبابِ المَدرَسةِ مباشرةً.. الوجهَ القمريَّ النَّاصِعَ، الذي تحيط به خيوطٌ من أشعةٍ شمسٍ ذهبيةٍ تُكلِّل رأسَهَا.. بسمتَها القادمة مِن أعماقِ رُوحِ طفلةٍ لم تتدنَّسْ مِن غُبارِ الدنيا.. يذكرَ كلَّ شيءٍ.. كُلَّ شيءٍ بذاتِ التفاصيلِ..
كانَتْ برغمِ تألُّقِها في ضوءِ القمرِ ومصباح الشَّارعِ الوحيد، تبدو قَلِقَةً.. ورُبَّما حزينةً أيضًا.. ولم تكُن تنظرُ إليه.. كانَ يودُّ لو يسألُها عمَّا أصابها، ولكنَّه، تمامًا كما الماضي، كانَ مُتَهيِّبًا خَجِلاً منها.. هو بدَورِه عاد كما كانَ في الماضي.. ذَلِكَ الماضي البعيدُ الجميلُ..
ولكنَّ في لحظاتٍ، تغيَّر كُلُّ شيءٍ.. هو كَسَر حاجِزَ خَجَلِهِ، ودارَ بينهما ما يُشبُه الحوارَ العقليَّ، مِن دونِ أصواتٍ أو تبادلِ كلماتٍ.. كم كانَ في صباه يتمنَّى لو سَارَ معها ولو مرَّةٍ بجوار النَّيل، أو في الشَّارعِ الرَّئيسي لذلك الحيِّ الذي كَانَا يقطنانِ فيه؛ حيث يتعانقُ الكَفَّانِ، ويسيران سويًّا، ولو في صَمْتٍ.. حتى ولو في صَمْتٍ.. لكنَّها كانَتْ طموحاتِ المستحيلِ.. فأين هي، وأين هو.. ذاتُ الحالِ، بين الماضي والحاضر؛ أينَ هي، وأينَ هو..
*.*.*
وهل تدرينَ ما الحزنُ العميقُ يا فتاتي؟!..
هو أنْ أوقنَ أنَّه لا تلاقيَاْ..
أنَّه لن نسيرَ أبدًا متعانقِي الكفَّيْنِ..
أو نجري سويًّا مثل طفلَيْن..
أو أنْ أنظرَ مباشرةً إلى العينَيْنِ..
وأقول لكِ: أحبُّكِ..
*.*.*
كانَ يودُّ لو سَارَ معها في هذا الشَّارعِ ولو لدقائقَ، ولكنَّهُ كانَ مُظلِمًا، وكانَتْ أُمنياتِ المستحيلِ، فاستدارَ لِكَي يرحَلَ، لكنَّها عادتْ ونظرَتْ إليه، وخاطبته بكلماتٍ غير مسموعةٍ؛ ترجوه: إلى أين أنتَ ذاهبٌ؟!.. أتتركني وحيدةً؟!.. أنا خائفةٌ مِن هذا الظلام.. لا أريدُ أنْ أسيرَ وحدي فيه.. أوصلنِي إلى منزلي..
لَمْ يصدِّقَ نَفْسَهُ.. أهكذا؟!.. أنا مسؤولٌ عن أمانِها؟!.. وَيحي.. يا وَيْح نَفْسِي.. هكذا خَاطَبَ ذاتَه.. لكنَّهُ في النهاية، وَجَدَ أنَّه يسير إلى جوارها.. لكنَّهما صامتَيْن، وغير مُتعانقي الأيدي..
*.*.*
“.. أهي أحلامٌ؟!.. أَم تُراها أمنياتٌ؟!.. ولكنَّها إنْ كانَتْ أمنياتٍ؛ فهي أمنياتُ المستحيلِ يا صَديقي!”..
*.*.*
لكنَّ كلماتِها/ خواطرَها، ظلَّتْ مترددةً.. مُتوجِّسةً.. هي تخشى حُرَّاسَ الشَّوارعِ الذين وضعوا لِحدُّوتَةِ جاهين مِن قَبلِ، ألف حدٍّ وحدٍّ، وقيودُ الوَاقعِ تطفو فوق سَطحِ خيالاتِ الأحلامِ..
كان يشعرُ بها.. كانَتْ أفكارها تتكلَّم.. هكذا الأرواحُ النَّبيلةُ السَّاميةُ.. شفافةٌ دائمًا؛ لا تُخفي أيَّ شيءٍ، ولا تَعرِفُ مِن محاورات البَشرِ ومناوراتِهم شيئًا..
وخلال مَسِيرِهِما الصَّامتِ هذا، مرَّا بالكثيرِ مِن الشَّوارعِ المُظلِمةِ.. حالكةِ الظُّلمَةِ.. بعضُها كانَ فيه الكثيرُ مِن الأشباحِ، وبعضُها كانَ فيه الكثيرُ مِن الطِّينِ، والبعضُ الآخرَ كانَ أشبهُ بالتِّيهِ.. إلا أنَّه أجاد دورَ الحارِسِ المُرشِدِ.. وواصلا المسيرَ الصَّامتَ..
في منتصفِ الطَّريق، شَعُرَ بازديادِ توتُّرِها وقَلقِها، فاستغلَّ فرصة مرورِهِما في مسيرِهِما بشارعٍ كانَ مضاءً ومزدحمًا بالسَّياراتِ والمارَّة – كانَ ذاتَ الشَّارعِ الرَّئيسيِّ في ذلك الحَيِّ، والذي كانَ يتمنى في صِغَرِه لو سَارَ فيه معها ولو لمرَّةٍ واحدةٍ – خاطَبَها بتلك الكلماتِ التي يُرسلُها العقلُ إلى العقلِ: هل تودِّين أنْ أترُكَكِ هنا؟!.. هَمَّتْ بأنْ تجيبَهُ بنعمٍ، لكنَّها عادتْ وطلبتْ منه إكمال المسيرِ معها.. خُيِّلَ إليه لحظتها أنَّ رُوحَها هي التي تخاطبُهُ هذه المرَّةَ..
خَطَر في بالِهِ في تِلْكُمَ اللحظات، أنَّ الحُلْمَ بالفِعلِ، هو انعكاسٌ لأمنياتٍ تُلِحُّ عَلَيهِ في الآونةِ الأخيرة.. فتاةُ المَدرَسَةِ.. الحي القديم الذي كَم يتمنَّى أنْ يعودَ إليه.. ثم لم يَلبَثْ أنْ اندهَشَ مِن هذه الخَواطر التي واتَتْهُ.. أَلَيْسَ هذا بحُلْمِ منامٍ؟!.. أَم هُو واعٍ، ويحلمُ حُلْمًا من أحلامِ اليقظة؟!..
إلَّا أنَّ المكان لم يَلبَثْ أن أخرجَهُ مِن هذه الحالةِ الغريبةِ التي يَمُرُّ بها.. ففجأةً، وبعد أحدِ المنعطفاتِ، وفي شارعٍ ضيِّقٍ مظلمٍ بدوره، لا تنبعثُ فيه إلا إضاءةُ بعض المصابيحِ الصَّغيرةِ مِن خَلفِ خِصَاصِ نوافذِ البيوتِ القديمةِ؛ وَجدَها تخاطبُ عقلَهُ، مِن دونِ كلماتٍ؛ تُحذِّرُه: “لقد اقتربنا، ولا أريدُ أنْ يرانا حُرَّاس الشَّوارِعِ.. لن يفهمونا أبدًا.. اترُكني الآن”..
ربَّما قالت ما هو أكثرُ.. لكنَّهُ لم يسمحْ لنفسه بأنْ يسمَعَ غيرَ ذَلِكَ..
لكنَّهُ – للغرابةِ – وُجدَ أنَّهما لا يزالان يسيران سويًّا، باتجاه الشَّارع الذي كانَ فيه بيتُهُ القديمُ.. وبعد انعطافةٍ أخرى؛ وَجَدَ نَفْسَهُ معها بالقربِ من “حُوش” بيت جَدَّتِه الذي كانَ يَقبعُ أمام بيتِهِ الذي وُلِدَ ونشأ فيه.. وبدأ الظَّلامُ في التَّراجُعِ.. ورآها تقِفُ بجوارِه.. بنفس زاويةِ الإضاءة الأولى في ذلك الشَّارعِ شِبه المُظلمِ الذي بدأَ به الحُلْمُ..
ثم، فجأةً، اختفى الظلام نهائيًّا.. وبدأت الأضواءُ تلتمِعُ في المكان.. والأكثر إدهاشًا له، كانَ أنَّ كُلَّ الأحبابِ الرَّاحلينَ، كانوا يجلسون في ذلك المكانِ.. أُمُّهُ.. جَدَّته.. وآخرون لا يعرف بعضَهُم..
كانوا يجلسونَ على ذَاتِ درجات السُلَّمِ الكبيرِ في مدخلِ بيت الجَدَّة التي كانوا يجلسون عليها في حياتِهم بعد عودتهم مِن السُّوقِ المجاوِر.. لا يزال يذكرُ كُلَّ ذلك بتفاصيله الدَّقيقةِ، برغم أنَّه في حينها كانَ طفلاً.. كانَ ذلكَ منذ زمنٍ بعيدٍ.. بعيدٍ جدًّا..
ألقى عليهم السَّلامَ.. كانوا يبتسمون له.. هشُّوا وبشُّوا في وجهه بشكلٍ أراح بالَه، وأزالَ عنه الكثيرَ مِن القَلِقَ الذي عاناهُ في هذه الرِّحلةِ الطَّويلةِ في تلك الشَّوارعِ المُظْلِمَةِ.. أما هي، فلم تبدُ مهتمَّةً بأنْ يرونَها تقف إلى جواره، بل وابتسمتْ.. ابتسامةً بسيطةً، أو هكذا خُيِّلَ إليه، وشَعُرَ – كما يشعرُ بها دائمًا – بأنَّها قد بدأت تهدأ بالاً ونَفْسًا، لكنَّها بَقِيِتْ تقفُ على بُعدِ خطوةٍ أو خطوتَيْن منه وسط بعض الظَّلال التي كانَتْ خارج نطاق الإضاءة الزاعِقة لمَدخَلِ مَنزِلِ الجِدَّة القديمِ.. ثم رَحَلَتْ.. هكذا فجأة..
كانَ منشغلاً عنها بالنَّظرِ إلى وجوه الرَّاحلينَ، ومنهم أُمُّه وجدَّتُه، واللتان كانَ يُحبُّهُما كثيرًا، وكانَ يفكِّر في أنْ يلحقَ بالرَّاحلين في ذلكَ المكانِ المُضاءِ الذي كانوا فيه، ولكن هاتفًا أخبرَهُ أنَّه لم يحِن وقت ذَلِكَ بعد.. فاستدارَ إليها؛ فَلَم يجدها، وأخبره هاتفٌ ما، أنَّها قد سارَتْ إلى منزلِها..
حاول الِّلحاقَ بها، لكنَّهُ وجدَ مجموعةً أخرى مِن النَّاسِ يقفون صفًّا عريضًا يُغلقون عليه الطَّريقَ، وكأنَّهم كانوا ينتظرونَه.. وفجأةً أيضًا، تغيَّرَ المشهدُ بالكامِلِ.. كانوا رجالاً ونساءً؛ النِّساءُ كُنَّ جُلُوسًا، والرجال كانوا وُقُوفًا. وكانوا يبتسمونَ له.. كانوا، وأصبح معهم، يقفون الآن في مساحةٍ واسعةٍ من الأخضرِ الغزيرِ، بينما الشَّمسُ ساطعةً بهيجةً تملأ المكانَ بالنُّورِ بعد طولِ ظلامٍ أرهَقَ عينَيْه وجَثمَ على روحِهِ طويلاً..
هاتَفَه هاتفٌ بأنَّهم أقارِبُهُ، وقد جاءوا مِن ذلك البلدِ الذي هو مسقطُ رأس أُمِّهِ وجدَّتِهِ، مِن أجلِ العَزاءِ في الرَّاحلين الذين شاهدَهُم مِن قَبلٍ في مساحةِ الضَّوءِ تِلكَ.. أدهشهُ أنَّه لم يستغرِبْ ذلك سِوى لحظةٍ واحدةٍ، ثم بدأ يتعاملُ مع الموقفِ على أنَّه أمرٌ طبيعيٌّ!
بالفعل؛ كانوا يُشبهونَ الرَّاحلين كثيرًا، وأخبره أكبرُ الواقفينَ سِنًّا وأكثرهم هيبةً، أنَّهم أقارُبُه بالفعلِ، وضحِكَ الرَّجُلُ عندما وجده ينظر بدهشةٍ إلى سَيِّدةٍ عجوزٍ كانَتْ تجلس بينهم، ظنًّا منه أنَّها جَدَّتُه الراحلة، بينما هو يعلم أنَّ هذه المجموعة، هم مِن الأحياء، وليسوا مِن الرَّاحلين.. قال له الرَّجلُ الكبيرُ: نعم. إنها تشبه “فاطمة” كثيرًا.. كانَ يقصدُ جدَّته الرَّاحلة، واستغربَ كثيرًا.. هو يعلمُ أنَّ جدَّتَه كانَ اسمُها “بديعة”، ولكنَّهُ تفاءلَ بالاسمِ الذي أخبره به ذَلِكَ الرُّجلُ المهيبِ..
في تلك الأثناء كانَتْ مجموعة الرَّاحلينَ الجالسة في مدخل بيت الجَدَّة القديم، تصخَبُ، والنُّورُ المنبعثُ من المَدخَلِ يزدادُ، وبدأوا يلوِّحُون للجالسينَ على الجانبِ الآخرِ من الشَّارع الذي صارَ مرجًا أخضر أشبه بالحقلِ الكبير.. لكنَّ المجموعتَيْن لم يدنُوَا مِن بعضهما أبدًا.. فَلَمْ يَحِنْ الوقتَ بعدَ!..
دَارَ بعينَيْهِ في المجموعةِ الجديدةِ مرَّةً أُخرى، فوجد فيهم مَن يُشبِه خاله الأكبر، “محمد”، وأمَّه، “السيدة زينب” كما كانَ يخاطبها وهو بعدُ صغيرٌ.. لم يدرِ لماذا فَعَلَ ذلك؛ لكنَّهُ وَجَد ذَلَك الرَّجلَ المهيبَ، وقد شَعُرَ بقَلَقِه، وقَلَقِ الموجودينَ مِن نظراتِهِ الفاحِصةِ إليهم، فنَظَرَ إليهم، وقال لهم: نعم. أنتم تشبهونَ الرَّاحلين كثيرًا.. فاعذرُوه وسامِحُوه لأجلِ حَيْرَتِهِ هذه..
هشُّوا لهُ وبشُّوا بدورِهِم.. بَحَثَ فيهم عن وجوهٍ كانَ يعرفها في حياتِه، فَلَمْ يجدْها.. وَجَدَ البعضَ، والبعضُ لم يجدْه.. ثم انتهى كُلَّ شيءٍ، وهو مستمرٌّ في بَحْثِهِ هذا في الوُجُوهِ المبتسِمَةِ أمامه..
…..
…..
فجأة، انطلقَ أذانُ الفَجرِ مِن المَسجِدِ القريبِ، فاستيْقَظَ.. كانَ يشعرُ براحةِ بالٍ ونَفْسٍ كبيرةٍ.. رُبَّما منذ فترةٍ طويلةٍ لم يشعرْ بها.. لقد رأى كُلَّ الأحبابِ الرَّاحلينَ؛ مَن عاشَ منهم، ومَن ماتوا.. فهل هناك أجملُ وأجلُّ مِن ذلك؟!..
بل إنَّه رآهم وتعايشَ معهم ولو للحظاتٍ، ولا يزال للآنَ مندهِشًا مِن كُلِّ هذه التفاصيل التي ملأت الحُلْمَ، ومشاهدِه المُلوَّنةِ الواضحةِ، والأكثر إثارةً للدَّهشةِ، أنَّهُ لا يزالُ يذكرُ كُلَّ شيءٍ فيه، بخلافِ طبيعةِ الأحلامٍ المراوغِةِ الكاذِبَةِ؛ حيث حَمَلَت إليه تِلكُمُ الرُّؤيا – رُبَّما – أصدقَ المشاعِر التي عَرِفَهَا في حياتِهِ قاطبةً..
لكنَّه – بعد مرَّت عليه برهةٌ مِن الوقتِ بعد أنْ استَيْقَظَ – لم يعلمْ هل كانَ ذَلِكَ بِنِعمَةٍ أم نقمةٍ؟!.. نقمةٌ؟!.. نعم. فمِن قِيمةِ الحَدَثِ، وقُدُسِيَّةِ الشُّخوصِ ومكانتهم، وجَمَالِ المكانِ وذكرياته، ومع الوُضُوحِ الغريب للرُّؤيا ومشاهدها، شَعُرَ حقًّا بكُلِّ ما فَاتَهُ وفقده في حياته.. شَعُرَ بفَدَاحَةِ ما خسره وَلَنْ يعودَ أبدًا!..
*.*.*
شفافةٌ جدًّا لحظاتُ السَّحَرِ والفَجرِ الصَّادقةِ.. نتذكَّر معها مَن نحبُّ.. مَن عاشَ منهم ومَن ماتوا..
*.*.*.*.*.*
انتهت!
القاهرة في:
صباح الجمعة 27 أغسطس 2021م
Discussion about this post