مدينتي ..
فقدت طاووسيتها !
حسين الذكر
فارقتها منذ مدة طويلة .. تقريبا منذ تداعيات 2003 .. كانت مدينتي كطاوس جميل يصم كل الألوان ( دينا ومذهبا وقوميات وعقائد وأفكار ) .. كل له ما يؤمن به ويمارسه .. صحيح ان المركزية الشمولية ضاغطة خانقة للانفاس .. الا ان تعابير الناس لم تكن مادية بحتة .. فالسواد الاعظم منهم تختلطه وتتنازعه وجدانيات تكاد تكون متقاربة جدا .. حينما تدخل مناسبة عامة او عرسا او مجلس عزاء في المنطقة .. تشعر ان الوحدة والشمول اطار يضم الجميع ويتحرك بوجدانه كل أبناء المنطقة .. يفرحون لفرحهم ويتشحون سوادا لحزن بعضهم ..
أتذكر بمنتصف التسعينات ان اخوين اعدما بتهمة سب راس السلطة آنذاك .. وقد سلمت جثتا الشهيدان الى اهلهما بأوامر امنية مشددة بضرورة دفنهم مباشرة بلا أي مراسيم تشيع او تلقي العزاء .. الغريب ان كل المنطقة ( بمذاهبها واديانها وقومياتها ..مدنيها وعسكرييها .. كبارا وصغارا شيبة وشباب نساء ورجال …) هبوا الى استلام الجثتين في مسيرة عجيبة غريبة … طول الطريق برغم كل الأوامر ومخاطرها المميتة ضلت تتسع حتى بلوغ المقبرة .. بل وإقامة مجلس عزاء لم يتخلف عنه احد.. كان الناس لون واحد جميل معبر عن مرجعياتهم المتلونة .. برغم فوراق السلطة والمال الا ان الاحاسيس الوجدانية متضامنة جدا جدا .
بعد عقدين من زمن الديمقراطية الضاربة اطناب الزيف حد الفساد والخراب .. انتقل الى رحمة الله احد اقاربي وقد لبيت مراسم عزاؤه .. جلست في ذات المكان وعشت أجواء قديمة احببتها منذ الطفولة بل تربيت عليها .. لكن في الحلق شجى وفي العين رمد .. اذ بدت مدينة جدا مثقلة بشيء وجداني ينعى نفسه وذاته التي فقدت فيه تنوعها وبقية اجزاؤها .. كما ان مدرستي التي تربيت فيها صغيرا قد هدمت .. بدعوة التجديد .. مر على خرابها اكثر من عشرة أعوام دون ان يلتفت اليها مسؤول ، حتى تحولت الى مدفن انقاض وازبال بقلب المدينة ووجها المشرق .. كثير من الأشياء تغيرت .. فالاسواق اكتظت بالمتجاوزين لدرجة لم يعد لك مكان تمشي فيه على ما كان يسمى قديما بالرصيف الذي اختفى تماما بجلباب ديمقراطي اغبر لم ينفع معه رفع شعار ( ازيحوا الأذى عن طريق المسلمين ) .. فيما ازدحمت الطرقات بعشرات ( التكتك والستوتة ) وهي دراجات على شكل عربة نقل اشخاص ومواد دخلت منطقتنا قريبا .. شكلت عناء مجتمعي جديد لما تعانيه الناس .. صحيح انها عدت وسيلة نقل تسهل بسعر ازهد .. الا ان اعدادها ضخمة وبعض سواقها صغار لا يعرفون حقوق الشارع ولا المواطنة فضلا عن قانون المرور .. فانها أدخلت الخدمة بلا ضوابط وبلا قوانين وبلا تنظيم .. مما جعلها مطلوقة العنان تضرب وجدان الناس قبل شوارعهم .. حتى غدا هناك عرف جديد طغى يكون فيه ( مالك الدراجة ) على ضاربا او مضروبا .. حتى ادخل الناس بمعمعة اقل ما يقال عنها .. انها قبح من ذلك الفساد المستشري الذي لا خلاص من طوقه الا برحمة الله وهو ارحم الراحمين !
Discussion about this post