روح تائهة
ريم علي دلا
أعود أو لا أعود ………..
هذا ما أردّده لنفسي منذ حين ….
تتضارب الأسئلة و تتصارع الأفكار ولا أجد أية إجابة .
أعود أو لا أعود ………..
بعد دقائق ، يحدد قراري مصيري ، و مازلت لا أدري ما سأفعل .
أعود أو لا أعود …….
لا بأس بحياتي ، إنّها جيدة ، حصلت على كل ما أريده ، و هذا يجب أن يجعلني سعيدة ، لكنّني مللت الحياة ، أريد أن أعيش يوماً جديداً كل يوم ، كما سيحصل ، إذا تخلّصت من هذا السجن ، و حلّقت بحريّة .
أعود أو لا أعود …….
ليت حياتنا ، نحن البشر ، تتكرّر ، عندها نستطيع اتخاذ القرارات مستفيدين من تجارب سابقة ، و لكن علينا أحياناً ، أن نختار مثل هذا الخيار ، دون أن نعرف إن كان صحيحاً .
أعود أو لا أعود ……
أتذكر الآن المثل الألماني القائل : مرة واحدة لا تحسب مرة واحدة هي أبداً .
أعود أو لا أعود ………..
لنفترض أنّني عدت ، ألن أشتاق لهذه الحرية ؟ .
أعود أو لا أعود …………
إذا لم أعد فهذا قد يصدم والدتي .
قبل ذلك بثلاثة أيام ……
سامر: عليك تجربة ذلك ليلى ، فهذا يبدو رائعاً .
ليلى : حقاً يبدو رائعاً .
سمر: هذا جنون .. ألا تدركين خطورة الأمر ؟ .. كما أنّه يبدو لي غير حقيقي .
ليلى : لا مانع من بعض المغامرة .
سامر: إذاً خذي الكتاب و اقرئيه .
قبل يومين …….
ليلى : يا للسخافة ! .. الأمر يحتاج للعديد من التدريبات .
سمر : هل اقتنعتي ؟ انسي الأمر و تابعي حياتك .
ليلى : سأفعل ذلك مهما قلت .
وأكّدت ليلى ذلك بينها و بين نفسها قائلة : و من دون تدريب .
أعود أو لا أعود ………..
لن أعود .
انطلقت ليلى طائرة إلى حيث تنتظرها لطيفة ، و ذهبتا إلى الأعلى باتجاه مدينة فوق الغيوم ، حيث الأرواح فيها عارية من كل الأقنعة ، و تسمّى كل روح بحسب صفة صاحبها .
وصلت ليلى مع لطيفة إلى حيث يُقام احتفال لها , كانت تفكّر في صحة القرار الذي اتخذته , ألم يكن هذا قرارها منذ البداية أن تجرّب الإسقاط النجميّ من باب الفضول و المغامرة .
الإسقاط النجميّ أو الإسقاط الأثيريّ : هو عملية تعتمد في أساسها على فرضية ، أنّ للإنسان جسماً ثانياً مكوّناً من إشعاع ، و يتمثّل الإسقاط النجميّ بانفصال الجسد الإشعاعيّ عن الجسد الفيزيائيّ و خروجه منه ، و يمكن أن يحدث هذا من خلال ظروف و حالات معيّنة ، منها أن يكون الإنسان ما بين الغفوة و الوعي .
عند انفصال الجسد الإشعاعيّ عن الفيزيائيّ ، فإنّه لا يبتعد عنه بصورة كاملة أثناء النوم ، بل إنّه يبقى حوله مرتبطاً به بالحبل الفضيّ ، و يستطيع الجسد الإشعاعيّ ، أن يتحرك و يذهب إلى كل المناطق ، و في الاتجاهات جميعها ، و تكون له قدرة على رؤية جميع الأشياء المحيطة به ، و لا أحد يستطيع رؤيته ، هذا ما تقوله النظرية ، و الاحتفال الذي يجرونه لليلى لقبولها بانفصال الجسد الإشعاعيّ عن الفيزيائيّ ، و رغبتها العيش معهم ، و سمّوها مغامرة .
جلست ليلى بعد الحفل وحيدة ، تتساءل : ماذا حلّ بالجميع ؟ .. و هل اكتشفوا الأمر ؟ .. هل سيشعر سامر بالذنب لأنه شجّعها على فعل غير مضمون العواقب ؟ ..
فجأة جلست لطيفة بقربها و قالت :
تبدين حزينة .. هل ندمت ؟ ..
ليلى : قليلاً .
لطيفة : مهما كان قرارك ، عليك أن تتحمّلي مسؤوليته .
ليلى بحزن : ربّما .
لطيفة : لا تقلقي .. جميعنا نمرّ بهذا الشعور في البداية ، ثمّ ننسى الأمر ، و كل يوم نقوم برحلة إلى بلد مختلف .
قالت ليلى ، و هي تبدو في حالة تفكير عميق :
الجميع هكذا , ماذا لوعدت ؟ .. ماذا كان سيحصل؟ ..
لطيفة : هذا ما لن نستطيع معرفته .
ليلى : هل ندم أحد ؟ ..
لطيفة : لا .. خاصة ماهر .
ليلى : من ماهر ؟ ..
لطيفة : هذا الذي يلقّبونه هادئ ، تربّى في دار للأيتام ، و كان وحيداً دائماً ، و الأيتام الآخرون ، كانوا يزعجونه ، لأنّه أصغر منهم ، فقد كان دائماً ضعيف البنية و أقصر طفل هناك ، كان اهتمامه الوحيد بالدراسة و القراءة ، فقد كان ذلك ملجأه الوحيد ، ثمّ أصبح باجتهاده عالماً ، و عادت المضايقات من جديد ، كانوا يغارون منه ، و يكيدون له ، قرّر القيام بهذه التجربة لأجل العلم ، و لكن بعد أن رأى المدينة ، قرّر البقاء ، فهنا لا أحد يزعجه ، و ليس فيها نفاق , إنّه شخص مميّز ، و لا يزعج أحداً ، ليس مثل بعض الأشخاص .
ردّ أحدهم من خلف ليلى :
هل تقصدينني؟ ..
لطيفة : أخفتنا يا مغفّل ، نبّهنا لوجودك , أعرّفكِ على شادي ، نلقّبه مقالب ، إذ أنّه يستمتع بإزعاج الآخرين .
شادي : تشرّفنا .. أنت من كنّا نحتفل بها ، يسمّونك مغامرة ، أليس كذلك ؟ .. عليّ الذهاب الآن , أراكما لاحقاً .
لطيفة : لا تبقي هكذا .. بإمكانك رؤية أمّك في الليل ، فعندما تنام تخرج روحها ، و تتجوّل في الغرفة ، عندها تستطيع روحك لقاء روحها ، و سيظهر لها الأمر على شكل حلم .
ليلى : إذاً سأذهب فوراً .
لطيفة : لا تستطيعين قبل ثلاثة أيام .
جلست ليلى قرب لطيفة ، و بدت محبطة .
لطيفة : هناك البعض يذهبون و لا يعودون ، وقتها تكون روحهم صعدت إلى السماء .
عادت ليلى بذاكرتها إلى وقت التجربة ، استلقت على سريرها ، و انتظرت مطبقة الخطوات ، بدأت تشعر بقوة تحملها ، فتحت عينيها ، هي حقاً تحلّق ، و ها هو جسدها لازال عل السرير ، و ها هي ترى الحبل ، الذي يربطها بجسدها ، اخترقت الجدار ، إنّها الآن خارج المنزل ، تجوّلت حول المنزل ، لمحت أمّها من نافذة المطبخ ، دقّت على زجاج النافذة ، بدا لها أنّ أمّها لا تسمع ، جرّبت مرة أخرى ، ثمّ يئست و طارت إلى الأعلى ، يا لها من حرية ! .. و يا لها من تجربة ! .. أن تحلّق .. هكذا صعدت فوق المدينة ، و حلّقت فوق بلدها ، يا له من دمار ! .. هذا الذي تراه ، لم تتصوّر أنّ الأمر خارج مدينتها بهذا السوء ، يا إلهي .. هي ذي أرواح الشهداء ، تصعد إلى السماء ، لمَ لا تذهب معها ، فكرة الطيران نحو السماء ، ترعبها و تثير فضولها في ذات الوقت ، لكن لا فائدة ، إذ أنّ جداراً شفافاً ، يمنعها من الذهاب خلفهم , الآن عليها أن تقرّر إلى أين ستذهب .. ستذهب إلى روسيا ، لتشاهد الساحة الحمراء .. و ستذهب إلى إيطاليا ، و بالتحديد إلى روما ، فلطالما كان لديها الفضول لتراها ، فقد قرأت أنّ جوليا دومنا و فيليب العربي السوريَين ، حكما روما ، و أنّ من شيّدها مهندس دمشقيّ ، و من وضع قانونها أيضاً سوري .. كما أنّها ستذهب إلى فرنسا ، لترى برج إيفل .. و إلى اليابان ، لتسمع لغتهم الجميلة .. كانت هذه الأفكار ، تخطر ببالها ، إلى أن شعرت بيد ، توضع على كتفها .
قالت الفتاة : مرحباً أنا لطيفة .
و أنا ليلى .
لطيفة : اتبعيني .
تبعتها في طيرانها ، ثمّ بدأت تتردّد ، كيف وصلت هذه الفتاة إلى هنا ؟ .. كيف عرفت بوجودي ؟ .. إلى أين نذهب ؟ .. أخذتها الفتاة ، و اخترقتا غيمة ، و هناك وصلتا إلى مدينة كلّها أرواح .
لطيفة : كلّهم قاموا بتجربة الإسقاط النجميّ لأسباب مختلفة ، و كلّهم من جنسيات مختلفة ، فمثلاً أنا مصرية .
ليلى : و كيف ظهرت هذه المدينة ؟ ..
لطيفة : أول شخص ، أجرى هذه التجربة ، و هو شخص من العصور القديمة ، بناها .. و كلّ من جاء بعده طوّرها و حسّنها .. و الناس .. إمّا يكتشفونها وحدهم ، أو يساعدهم أحد على ذلك ، كما في حالتك .
ليلى : و ما السبب الذي دفعك لهذه التجربة ؟ ..
لطيفة : مرة حصل لي حادث سير خطير ، و وصلت إلى المستشفى ، و كنت على وشك الموت عندها ، و تمكّنت من رؤية جسدي من الخارج ، بمقدار ما كان الشعور جميلاً ، كان مخيفاً .
عادت ليلى إلى حاضرها ، عندما سمعت أحداً ، يضحك بصوتٍ عالٍ ، إنّه شادي من دون شك .
بعد يومين ……..
ليلى : حان الوقت لزيارة أمّي .
لطيفة : بالتوفيق .
طارت ليلى باتجاه منزلها المكوّن من طابقين ، أول طابق فيه شرفة صغيرة ، أطلّت منها ، وجدت صديقتها سمر ، تتحدّث إلى طبيب ، شعرت بالخوف يملؤها ، هل أمّها مريضة ؟ ..
طارت إلى نافذة أمّها ، وجدتها نائمة ، و كانت تبدو في أسوء حالاتها ، إنّها مريضة دون شك , شعرت ليلى بالذنب و الحزن ، ها هي روح أمّها تطير في الغرفة ، ذهبت باتجاهها ، و طلبت منها أن تسامحها ، و بدأت تبكي , عندها فقط شعرت بقوة كبيرة ، تجذبها نحو السماء ، رفعت يدها فاخترقت الجدار الشفّاف ، سمعت أمّها تناديها ، نظرت فإذا بروح أمّها في الأسفل تطير باتجاهها ، حاولت أن تمنع القوة من جذبها ، لتصعد مع أمّها ، لكنّ القوة جذبتها بسرعة أكبر ، فاخترق جسدها الجدار الشفّاف ، الذي كانت الأرواح تصعد من خلاله إلى السماء ، إذاً إنّها النهاية ، و سمعت صوت أمّها مجدداً و نظرت ، لكنّ أمّها أصبحت مثل نقطة ، إنّها بعيدة ، أخذت القوة تسحبها ، و هي تسمع أمّها تناديها : ليلى ليلى ، ثمّ أصبح الصوت أقرب ، فتحت عينيها ، فإذا بأمّها فوق سريرها ، تقول لها :
أنت نائمة منذ اثنتي عشر ساعة ، ستتأخّرين عن محاضراتك ، كما أنّ القهوة ستبرد .
بدأت ليلى تتلمّس جسدها مندهشة ، ثمّ ابتسمت و ارتمت على أمّها قائلة :
لقد كان حلماً ، لن أزعجك ثانية ، أمي الحبيبة .
ثمّ بدأت تقفز على السرير كالأطفال فرحاً بانتهاء هذا الحلم ، و ركضت تغسل وجهها في الحمام ، في حين ذهلت الأم و قالت :
ماذا حدث للفتاة ؟ ..
في الجامعة ، رأت ليلى سمر ، فركضت و احتضنتها بفرح .
سمر : هل قمت بالتجربة ؟ ..
ليلى : أية تجربة هذه ؟ .. لن أقوم بشيء كهذا .
سمر : هل أنت مريضة يا صديقتي ؟ ..
ناداها سامر ، ليتحدّث معها على انفراد .
سامر : هل بدأت تتدرّبين ؟ ..
ليلى هامسة : حاولت أن أفعل ذلك دون تدريب ، و احذر ماذا ، لقد غفوت بدل القيام بهذه التجربة ، لقد اقتنعت بأنّه ليس علينا القيام بتجربة خطيرة ، و قد لا تكون حقيقية ، فالعلم لم يثبتها ، دعنا نعُد إلى سمر ، قبل أن نتعرّض للتوبيخ .
جلس الثلاثة على الطاولة ، إلى أن بادرتهم فتاة من خلف ليلى قائلة :
هل يمكنني الجلوس ؟ ..
وقفت ليلى دافعة كرسيها ، الذي سقط على الأرض محدثاً ضجة كبيرة ، و صرخت : لطيفة .
الفتاة بخجل : من لطيفة هذه ؟ .. أدعى زينة , ثمّ أخفضي صوتك ، الجميع يحدّقون بنا .
جلست ليلى على كرسيها ، الذي رفعه سامر بخجل ، في حين ضحك جميع الناس حولهم ، كانت ليلى تتجوّل بنظرها في المطعم ، فأصابها الذهول ، إنّه شادي ، و سألت زينة : هل تعرفين ذلك الشاب ؟ .. فردّت زينة : لم أره من قبل .
ضحك الأصدقاء و قالوا : ربّما ليلى تريد التعرّف على أناس جدد اليوم ، دعونا نذهب إلى المحاضرة ، لعلّ التعرّف على الدكتور الجديد يرضيها .
في المحاضرة …..
الدكتور : اسمي فراس ، و أنا دكتوركم الجديد في هذه المادة .
كانت ليلى تنظر إليه بدهشة ، إنّه ماهر ، يا إلهي ! .. ماذا يحدث من هؤلاء ؟ .. لعلّهم أرواح تائهة بأسماء مختلفة ، أو أنّهم أناس ، قادتهم الصدفة إلى حلم .. رأيته بالأمس …..
Discussion about this post